فرنسيون أنصفوا الإسلام
نستأنف في هذا المقال ما كنا قد ختمنا به المقال السابق، حيث كان حديثنا عن الاستشراق الفرنسي، وكيف أنه كان ذراعاً علمية للهيمنة الفرنسية، ووسيلة السياسة الفرنسية لتسهيل احتلالها البلاد الإسلامية سواء من خلال قيامهم بالدور العلمي في فحص ودراسة هذه البلاد وأحوالها لإيجاد أفضل الطرق وأقلها تكلفة لعملية الاحتلال والسيطرة، أو من خلال قيامهم بالدور الإعلامي الذي يبرر ويشرعن عملية الاحتلال من خلال تشويه أهلها وثقافتهم وأخلاقهم.
من بين طابور المستشرقين الفرنسيين الطويل خرج عدد قليل من أولئك الذين أنصفوا الإسلام ونبيه وحضارته، فمنهم من اصطفاه الله وكتب له الخير فأسلم واعتنق الدين، ومنهم من بقي على حاله.
وعموماً، فإن الكتابات المنصفة تصدر عن الغربيين بعد أن تنطوي صفحة الصراع المشتعل، حين ينتصرون في المعركة ويحسمونها لصالحهم، عندها لا يعود الشعور بالخطر قائماً، وتصير الأمة المغلوبة كالجثمان الممدد أو الفريسة العاجزة، لا يُخشى منها، وعندئذ يمكن أن تبدأ دراستها بطريقة أكثر علمية وموضوعية، مثلما تجري دراسة الآثار في المتاحف، لا يستنكف أحد أن يعترف بعظمة حضارة قد دثرت وماتت.
لذلك، فإن التأمل في تاريخ إنصاف الحضارة الإسلامية في الكتابات الاستشراقية سيفضي بنا إلى إدراك أن هذا الإنصاف لم يحصل إلا بعد العلو الغربي، أما ما قبل ذلك فقد كان الجهر بإنصاف الإسلام أمراً خطيراً، فمن ذا الذي يجرؤ –ولو بدافع العلمية والموضوعية- أن يمتدح عدوه الذي يستشعر منه الخطر؟! إنه أمر لا يقوم به إلا أفذاذ الناس الذين يرفعون قدر الحق والحقيقة فوق كل اعتبار وكل مصلحة، ويكونون مستعدين لدفع الثمن الباهظ بمخالفتهم تيار السياسة وتيار الإعلام وتيار التحريض الشعبي، إن الذي ينطق بالحق في وقت الهزيمة والقهر وقلة النصير وشدة الخطر إنما هو في مرتبة عليا، بل هو في الإسلام «سيد الشهداء».
ومع هذا كله، ومع استيعابنا لهذه الظروف التي تسمح بالكلمة المنصفة، فإنه لا بد أن نُقَدِّر أيضاً أولئك الذين أنصفوا ديننا ونبينا وتاريخنا، فلم يزل هذا الإنصاف مغامرة غير آمنة في كل الأحوال، لا سيما في فرنسا، ومن يتابع أعمال المستشرق المعاصر فرانسوا بورجا يرى بنفسه بعضاً من هذه المعاناة التي يلقاها، والتهم التي يُرمى بها، ليس ذلك إلا لأنه جال كثيراً من بلدان العالم العربي ورأى الصورة التي تحجبها فرنسا، وتلمس التاريخ الذي لا يُدَرَّس فيها.
وبعض أولئك الذين حاولوا إنصاف الإسلام وحضارته ورسالته سلك مسالك متنوعة وحذرة في إزجاء المدح الواضح، وامتلأ حديثه بالاستدراك والاستثناء وطرح الاحتمالات، كأنه يحاول أن يجد طريقاً لا يخون به العلم ولا يزعج به الحالة السائدة.
في هذه السطور القادمة، التقطنا بعض هذه الشهادات المنصفة التي صدرت عن مستشرقين منصفين، وغرضنا منها أن نبين أن الباحث إذا أخلص لوجه الحقيقة وتجرد لها، فإنه سيصل بمشيئة الله إليها، حتى لو كانت بيئته وثقافته تنطلق من المعاداة.
1- تحدث المستشرق الفرنسي وعالم الاجتماع المعروف جوستاف لوبون عن الفتوحات الإسلامية فقال: «وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيؤوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم.. فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً مثل دينهم.. وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم»(1).
ويعد كتاب «حضارة العرب» لهذا المستشرق شهادة ضخمة على أن الأمة الإسلامية كانت خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يخلُ من أخطاء وهنَّات، إلا أنه كتاب إذا قرأه الجاهل كان له بمثابة الصدمة التي يعرف بها قدر هذه الأمة.
2- وصف الشاعر الفرنسي الشهير ألفونسي دي مارتين نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنه فيلسوف، خطيب، نبي، مشرّع، مقاتل، فاتق أفكار، باعث عقائد في شريعة لا صور فيها ولا تماثيل، مؤسس عشرين مملكة على الأرض ومملكة روحية، ذاك هو محمد، ومهما تكن المعايير التي نقيس بها العظمة الإنسانية، فإننا نتساءل: أي إنسان كان أعظم منه؟»(2).
3- قال المستشرق والقانوني الفرنسي مارسيل بوازار عن تسامح الإسلام مع غير المسلمين وحفظه لحقوقهم: «الإسلام يتراءى أكثر تسامحاً كلما قَوِيَ واشتدَّ على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتنص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق الدين عن تأكيد لا يتزعزع، وقوة الأُمَّة تُوَفِّر للمؤمن ألا يُخِيفَ اليهودي ولا المسيحي، وأن يحترم -بالتالي- شخصهما ودينهما ومؤسساتهما.. وينبغي من جهة أخرى الإشارة إلى أن الشعوب الإسلامية بمختلف نزعاتها؛ الدينية أو الفلسفية، قد قاست ما قاساه المعاهدون حين بلغ جو التعصب ذروته (في السلطة)، إن لم تكن قاست أكثر مما قاسوا، وتنقل الكتب مثلاً أن أحد المسلمين لم ينج من القتل على أيدي زمرة تخالفه الرأي إلا بعد أن ادعى أنه ذمي».
ويتحدث عن قيمة الدين في صمود هذه الأمة وتماسكها رغم كل ما أريد لها من التمزيق فيقول: «كان الدين حافزاً فعالاً على تأليف كيان متميز لم تصدعه صروف الدهر، والاحتكاك بمختلف الحضارات على مر العصور.. ولقد تمكن المجتمع الإسلامي -الذي قام على الدين- من الصمود في وجه التفكيك السياسي، ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخوم بين الدول كبير التأثير».
ويرى بوازار أن هذا الأمر لا يقتصر على الماضي، بل «إن القرآن لم يقدر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة»(3).
4- ويؤكد المستشرق الفرنسي كارا دي فو على أن «السبب الآخر لاهتمامنا بعلم العرب هو تأثيره العظيم على الغرب؛ إن العرب ارتفعوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى، في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال المستميت للانعتاق من أحابيل البربرية وأغلالها»(4).
5- ويقول المستشرق والقانوني الفرنسي جاك ريسلر عن شمولية الإسلام: «إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خلق النظام والوحدة الاجتماعية، وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات، إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين، ويوصي بالبر، ويأمر بالرحمة وفي مادة التشريع وضع قواعد لأدق التفاصيل للتعاون اليومي، ونظم العقود والمواريث، وفي ميدان الأسرة حدد سلوك كل فرد تجاه معاملة الأطفال، والأرقاء، والحيوانات، والصحة، والملبس.. إلخ»(5).
6- ويقول المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل في استعراضه لأخلاق المسلمين: «لا يمكن إنكار أن الإسلام مارس فضائل حقيقية وخاصة منها الفضائل الاجتماعية، وهي استجابة لنداءات القرآن، نعثر فيها على أساليب تضيف إلى وصايا الله، وتبدو كأنها استمرار للبر؛ وذلك كما تحدد الآية الرائعة التالية: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177)، فالتعاون وحسن الضيافة والكرم والأمانة للالتزامات -التي تؤخذ تجاه أعضاء المجتمع والاعتدال في الرغبات والقناعة- تلك هي الفضائل التي لا تزال تميز المسلمين، وهي مثالية حقيقية، تريد أن ترتقي بقوى الطبيعة البشرية، التي تكفي لإعطائهم عزة نفس وكرامة كان يجهلها عرب الجاهلية»(6).
7- يقول هنري دي كاستري، الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر: «أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي -بعد ذلك- أن معاملة المسلمين للمسيحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذ ذاك، وخصوصاً أن الشفقة والحنان كان عنوان الضعف عند الأوروبيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجهاً للطعن فيها على وجه العموم»، ويقرر أنه «لو كان دين محمد انتشر بالعنف والإجبار، للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين، مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحه في جميع أرجاء المسكونة»(7).
8- ونختم بكلمة إنصاف للمستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون الذي تخصص في دراسة البلاد العربية تحت الحكم العثماني، أنصف فيها العثمانيين وكيف كان العالم الإسلامي هو الملجأ الذي استقبل اليهود الفارين من التعصب المسيحي الكاثوليكي، يقول: «إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على مركز اليهود، وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم من إسبانيا أو هروبهم منها، وذلك خلال الفترة بين عامي 1492 و1496م، ثم في القرن السادس عشر.. وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم أنشطة متنوعة، من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم التقليدية، وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضاً في دار سك النقود، وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة الخارجية إذ كانوا يصدرون المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين، وتمكنوا بفضل رؤوس الأموال التي جمعوها من القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة»(8).
الهوامش
(1) جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص605.
(2) ألفونسو دي لا مارتين، مختارات من كتاب حياة محمد، ترجمة: د. محمد قوبعة، (الكويت: مؤسسة جائزة البابطين، 2006)، ص124.
(3) مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1980 م)، ص202، 73، 74، 109.
(4) كارا دي فو، «الفلك والرياضيات»، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، تعريب: جرجيس فتح الله، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1972م)، ص564.
(5) جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، (بيروت: عويدات للطباعة والنشر، د. ت)، ص51.
(6) دومينيك سورديل، الإسلام، ترجمة: سليم قندلفت، ط2 (دمشق: دار حوران، 2003م). ص107.
(7) هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، ط1 (الجيزة: مكتبة النافذة، 2008م)، ص79، 131.
(8) أندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1991 م)، ص 84، 85.
(المصدر: مجلة المجتمع)