فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا بخصوص (صلاة التراويح في ظل نازلة وباء الكورونا)
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و آله و صحبه و بعد ، فقد ورد إلى لجنة الفتوى بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا عدد من الأسئلة حول صلاة التراويح في ظل نازلة وباء الكورونا COVID 19 و الحجر المنزلي المفروض على الناس بشكل جزئي أو كلي. نسأل الله أن يرفع هذا الوباء عن العالم و أن يجعل عاقبة أمره إلى خير.
أولاً: صلاة التراويح من النوافل المستحبة و السنن المؤكدة بإجماع العلماء و مازال الناس سلفاً و خلفاً يحرصون عليها عملاً بقوله صلى الله عليه و سلم: “من قام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”. رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: صلاة التراويح جماعة في المسجد من السنن و النوافل، و قد اختلف الفقهاء أيهما أفضل أن يصليها منفردًا في بيته أو جماعة في المسجد؟ و الصحيح أن صلاتها في المسجد جماعة أفضل و هو قول جماهير الفقهاء من الحنفية و الشافعية و الحنابلة و بعض المالكية و لكنه ليس شرطاً في صحتها كما قد يظنه البعض.
و الأدلة على مشروعية أدائها جماعة:
– أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من سن الجماعة فيها في المسجد حيث صلى ثلاث أو أربع ليال، ثم تركها خشية أن تفرض على أمته، كما رواه البخاري و مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
– و ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ –يعني في صلاة التراويح- حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ”. وبه استدل الإمام أحمد على أفضلية صلاتها جماعة.
– عمل الخلفاء الراشدين من عهد عمر و السلف من بعد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فإن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- لما رأى الناس يصلون أوزاعاً متفرقين جمعهم على إمام واحد كما رواه البخاري في صحيحه.
ثالثاً: في ظل المنع من التجمع منعاً من انتشار العدوى و التوصية بالتباعد بين الناس و وضع الكمامات للحد من انتشار الوباء فنحن نرى أن يلتزم الناس بالتوصيات الطبية و الحكومية الصادرة عن الجهات المختصة و الموثوقة فيما يتعلق بصفة و كم المجتمعين في مكان واحد، و لو أدى ذلك إلى عدم إقامة التراويح جماعة في المسجد أو قصرها على عدد قليل من المصلين حرصاً على إقامة الشعيرة و إبقاء المساجد عامرة بذكر الله و الصلاة في هذا الشهر الفضيل في ظل ما تسمح به قوانين البلد.
رابعاً: من لم يتيسر له الصلاة جماعة في المسجد، فله أن يصليها منفردًا في البيت أو جماعة مع أهل بيته و نرجو لمن حسُنت نيته أن يكون أجره مضاعفاً لأنه معذور في ترك الجماعة مع اعتياده على شهودها فيكون ممن حبسه العذر ، و له أجر الصلاة بأهل بيته و حرصه عليهم ، و كذلك تخفيفه على إخوانه و حَدِّه من انتشار الوباء و السيطرة عليه قدر الإمكان.
و لعل مما يحسن بالمسلم أن يستحضره في مثل هذه الظروف أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي قيام رمضان في بيته منفرداً إلا أياما صلاها جماعةً لبيان المشروعية كما سبق من حديث عائشة رضي الله عنها، و كذلك الصحابة من بعده منهم من كان يصليها وحده أو جماعات متفرقة حتى جمعهم عمر كما سبق. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ “فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-“. يعني الأمر على ترك صلاة التراويح جماعة خلف إمام واحد.
خامساً: لا يلزم ختم القرآن في صلاة التراويح، و لكن إن قدر عليه فحسن لما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : “أن جبريل كان يعْرضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً ، فَعرضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فيه”. قال ابن الأثير في الجامع في غريب الحديث: “أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن”.
و من المتواتر عن السلف حرصهم على الإكثار من قراءة القرآن و ختمه في رمضان لكن لم يقل أحد من أهل العلم فيما نعلم بوجوبه أو كونه شرطًا في صحة صلاة التراويح و قيام رمضان.
و يصح للمسلم أن يصلي بقصار السور أو ما تيسر من الآيات و يكررها إن شاء، كل على حسب قدرته و استطاعته لعموم قوله تعالى “لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها” و قوله تعالى : “إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ” و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم كما في الصحيحين: “وما أمرتكم به فَأْتُوا منه ما استطعتم” .
و عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف أية كتب من المقنطرين” رواه أبو داود.
و يجوز له أن يكرر السورة أو الآيات في كل ركعة و يعوض قلة القراءة بكثرة الدعاء و التسبيح و طول الركوع و السجود و الخشوع في الصلاة.
وروى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ : “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ” يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ”
وفي رواية: “أَنَّ رَجُلا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنْ السَّحَرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا يَزِيدُ عَلَيْهَا”.
و روى النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال : قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا ، وَالآيَةُ : “إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”
سادساً: يجوز للمصلي إماما أو منفرداً أن يقرأ من المصحف أثناء صلاة التراويح على الصحيح من أقوال أهل العلم و هو قول المالكية و الشافعية و الحنابلة. و دليله ما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم و البيهقي موصولاً عن -عائشة رضي الله عنها- أنها كان يؤمها غلامها ذكوان من المصحف في رمضان. قال الزهري: كان خيارنا يقرؤون من المصاحف. و لو جعل المصحف أمامه و قرأ منه دون حمل أو حركة زائدة في الصلاة اتفقت أقوال أكثر فقهاء المذاهب على صحة صلاته.
سابعاً: لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجل في صلاة التراويح و لو كان محرمها على الصحيح من أقوال أهل العلم. قال الإمام الشافعي في الأم: “و لو صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور فصلاة النساء مجزية وصلاة الرجال والصبيان غير مجزية”.
و لكن لها أن تُصلي بالنساء و الأطفال غير المميزين على الصحيح من أقوال أهل العلم لأنه ثبت عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما صليتا بالنساء كما عند الدارقطني، والبيهقي بسند صحيح.
و السنة أن تصلي المرأة في صف منفرد ولو كانت تصلي مع محرمها لما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك عن إسحاق بن أبي طلحة عن أبيه أنس بن مالك في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم به وباليتيم وجدة أنس مليكة قال رضي الله عنه: ” فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين ثم انصرف ” و لو صلت المرأة بجانب محرمها في الفريضة أو النافلة فإن صلاتها صحيحة عند جمهور أهل العلم لكنه خلاف السنة.
ثامناً: لا يصح الاقتداء في الصلاة بإمام غائب و لو كانت الصلاة منقولة بالصوت و الصورة عبر التلفاز أو أي وسيلة للبث عن طريق الإنترنت على الصحيح من أقوال أهل العلم إلا من كان في المسجد أو بعض مرفقاته أو كان الفاصل بين المصلي و الجماعة يسيراً على اختلاف بين الفقهاء في تقدير هذا الفاصل.
و ليس قولنا هذا إحجاماً عن الإفادة من التكنولوجيا الحديثة و وسائل الاتصالات المعاصرة بل هو استخدامها بما يوافق المقاصد الشرعية و إنما نمنع من استخدامها بغرض متابعة إمام أو جماعة منفصلة كلياً عن المصلى و لا يرتبط بها إلا عبر البث المباشر من خلال وسائل التواصل الحديثة للأسباب التالية:
أولًا: أن صلاة الجماعة مفهومها يقتضي الظرفية المكانية لا الزمانية فقط، و هذا غير متحقق في مثل هذه الصورة التي فيها تباعد الناس و عدم شهودهم للجماعة في المسجد بل غائبين منقطعين عنها .
ثانياً: أن هذه الصورة تخالف مقصود الشرع من صلاة الجماعة من السعي لها و اجتماع الكلمة و التآلف بين المسلمين في شهودها و التعاون على البر و التقوى .
ثالثاً: أن عمل المسلمين والفُتيا في المذاهب الأربعة المتبوعة ما عدا بعض فقهاء المالكية أنه لا يجوز أن يكون الفاصل بين الصفوف مسافات متباعدة جدا و قيام الحواجز من الطرق والمباني التي لا يكون معها المصلي جزءا من الجماعة حقيقة أو حكماً. و منذ زمن بعيد ظهر المذياع و التلفاز و لا يكاد يعرف من أهل العلم الكبار أو المفتين أو المجامع الفقهية من يجيز مثل هذه الصورة المحدثة ، إلا ما كان من بعض أهل العلم خرجوه على مذهب مالك و لكن هذا القول لم ينتشر أو قام العمل عليه في الأمصار ، حتى صار الأمر أقرب للإجماع العمليّ . و مازال أهل الإسلام في مشارق الأرض و مغاربها إذا أرادوا الصلاة جماعة يذهبوا للمساجد للصلاة فيها و لا يُصلون إلى المذياع أو التلفاز و نحوهما. و القول بأن هذا اجتهاد خاص بهذه النازلة نحن نقدّره و لكن نختلف معه و نمنع منه لأنه إحداث في الدين ، و لأن الشريعة فيها من البدائل و التيسير ما لا يعوزنا إلى مثل هذا الاجتهاد ، و كل ما سُوِّغ به من المصالح هي في حقيقتها وهمية و يمكن حصولها بغير هذه الصفة التي تخالف حقيقة معنى صلاة الجماعة في الشرع.
و يلزم صاحب هذا القول تجويز الاقتداء بمن هو في بلد آخر إذا ما كان وقت الصلاة مشتركاً بينهما و تصور هذا القول كاف للدلالة على ضعفه و شذوذه.
رابعاً: أن هذا المقتدي بالإمام لا يعلم هل هو خلفه أم أمامه و هذا من مبطلات الصلاة عند جمع من الفقهاء. و لا يصح قياس هذا على الصلاة في الحرم لكون الحرم له من الخصوصية ما لا يقاس عليه في المساجد الأخرى كما لا يخفى.
خامساً: احتمال حصول الخلل في البث وانقطاعه و كذلك يكون وصول البث متأخرا عن الوقت الفعلي لركوع الإمام أو سجوده فلا تحصل به متابعة تامة للإمام.
سادساً: من المفاسد أيضا أن السماح بالاقتداء عبر البث ذريعة إلى أنه بعد زوال عذر الوباء الحالي قد يستمر الناس في صلاة الجمعة و الجماعة في محل إقامتهم أو أعمالهم عبر البث المباشر و بذلك يتعطل مقصود الشارع من اجتماع المسلمين في البيوت التي أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه.
سابعاً: لا يقال إن هذه حالة مؤقتة و مخصوصة بالتراويح و بسبب الخوف من الوباء لأنه لا حاجة لمثل هذا فصلاة التراويح من السنن و يمكن صلاتها في المنزل، و قد بينا من يسر الشريعة و تيسيرها ما يُمكّن عموم المسلمين من أدائها في منازلهم و مع أهليهم مما يغني عن مثل هذه الصورة المحدثة و المخالفة لمقاصد الشرع.
ثامناً: الاستدلال بواقع المصليات الموجودة حول الحرم المكي و صلاة الناس فيها متابعين للإمام مع انفصالهم عن المسجد ، مما يختص بالحرم فلا يقاس عليه النقل الإذاعي أو عبر الإنترنت من وجهين:
الأول: لكون الصلاة في تلك المصليات مقتصر على الفنادق المطلة و المحيطة بالحرم و من يجيزها يقول بذلك لاتصال الصفوف و لشدة الزحام في الحرم و ليس لكون النقل مباشرة من الحرم.
الثاني: لكون متابعة الإمام في هذه المصليات ليس عن طريق النقل الإذاعي أو التلفاز و نحوهما بل هو توصيل مباشر للصوت من الحرم إلى هذه المصليات في الفنادق المحيطة فقط مما يجعلها كأنها من مرفقات الحرم و لا توفر إدارة الحرم هذه الخدمة للفنادق البعيدة عن الحرم و لاتجد فيها من يقوم بمتابعة إمام الحرم في الصلاة.
و ختاما نحن نقدر حرص كثير من الناس على صلاة الجماعة و التراويح و لكن الله قد يبتلي عباده ليخرج منهم أنواعا من العبوديات لله تعالى و يستظهر منهم أحوالًا من التنسك و التعبد ما تكمل به عبوديتهم و تصلح بها نفوسهم و يتقوى بها إيمانهم و من ذلك:
أن يحرص الإنسان على الصلاة لذاتها فتصبح مقصوده الأوحد و تكون همته منصرفة إليها و ليس إلى ما يشوب ذلك من الأنس بالاجتماع بالناس كما هي عادة الناس في التراويح جماعة في المسجد.
و أيضاً ليراجع المسلم حاله مع القرآن فقد كشفت هذه المحنة حاجته إلى تعلم القرآن و حفظه و أن يقوّم قراءته فيقبل على كتاب الله أكثر.
(المصدر: مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا)