مقالاتمقالات مختارة

فتنة القرآنيّين

فتنة القرآنيّين

بقلم إبراهيم النعمة

نبتتْ نبتة خبيثة في مجتمعاتنا الإسلامية، تسعى في هدم الإسلام ونقضه في الصميم. وأصحاب هذه النبتة وإن لم يجاهروا بذلك، لكن تؤول دعوتهم إلى ذلك من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ويُطلق على هؤلاء اسم (القرآنيّين). ولا يظنّن أحد أنّ المراد بـ(القرآنيّين) حفظة القرآن. لا، فإن حفظته كانوا يُسمّوْن في عصر الإسلام الأوّل بـ(القرّاء)، وكانوا على جانبٍ كبير من العلم والإخلاص لدعوة الإسلام والجهاد في سبيل الله، وكم استشهد منهم في الغزوات والحروب، وليس (القرآنيّون) يتّصفون بشيء من صفاتهم، ولا خدموا الدراسات القرآنية دراسةً تُظهر جانباً واحداً من جوانب عظمة القرآن، وقد خالفوا إجماع الأمة الإسلامية في أحكام وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة، وربّما اتّخذ القرآنيون هذا الاسم ليموِّهوا على الناس ضلالاتهم، ويوهموهم أنهم يقدسون القرآن. وقد حظيت هذه الفئة بأسباب الدعم من منظمات عدة، تختلف في مناهجها، لكنها تتفق على الإساءة إلى الإسلام.

منهاج القرآنيّين:

أما منهاج هذه الطائفة الضالة المُضلّة، فهو إنكار حجيّة السنّة النبويّة، والاكتفاء بالقرآن مصدراً وحيداً من مصادر الإسلام لا مصدر غيرهُ، وإنّ السنة عندهم لا تُثبتُ أيّ تشريعٍ كان من التشريعات، وإنها تتعارض مع القرآن، ورفعوا شعار: حسبُنا كتابُ الله، ناسين أو متناسين أن السنة مفسّرة لكتاب الله، ومفصِّلة لمُجمله، ومخصِّصة لعامّه، ومُقيِّدة لمُطلَقه، ومُكمِّلة لأحكامه.

تاريخهم:

ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في الهند جماعة تدعو إلى الاكتفاء بالقرآن وعدم الأخذ بالسنة. وصار لهذه الدعوة في القارّة الهندية رواج، واستفحلت دعوتهم هناك، وكان لـ(أحمد خان) الأثر الكبير في نشر هذه الفكرة بين مسلمي الهند، فكان يدعو لها، ويشكّك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسرّبت منها إلى الباكستان وبنغلاديش، وصارت لها كيانات مستقلّة ومعترف بها، فتقوم بممارسة ضلالاتها بحريّة وعلى رؤوس الأشهاد، ثمّ تسرّبت –بعد ذلك- إلى بعض البلاد العربية، وبخاصة إلى مصر.

دور العلماء في مقاومة هذه الدعوة:

وقف علماء القارة الهندية لهذه الدعوة بالمرصاد، وفنّدوا ما أتوا بهِ من فكرٍ منحرف. وقد أبلى كلّ من الشيخين (أبي الأعلى المودودي) و(أبي الحسن الندوي) بلاءً حسناً في مقاومة بدعتهم هذه، وتحذير الناس منها.

دعاة القرآنيّين في مصر:

ابتدأت السّهام المريشة تنهال على حجيّة السنة النبوية في مصر، وبعض من حمل هذه الدعوة الرعناء لا تغيب عنهم جهود علماء الحديث في تنقيته من الأحاديث الموضوعة، ولا يغيب عنهم أيضاً أنّ إجماع المسلمين قد انعقد على أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى يوم الناس هذا، وأنّ ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام يجب العمل بها، ولكنّ الأمر أمرُ اتباع الهوى –إن أحسنّا الظنّ بهم- وربما كان منهم من يتبنى هذا الفكر ليصرف أنظار الناس إليه، نعوذ بالله من الضّلال وأهله! أما الكثرة الكاثرة ممن حمل لواء إنكار حجية السنة، فهم أناس غرباء عن الدراسات الإسلامية بصورة عامة، وعن السنة النبوية بصورة خاصة.

ولستُ أدري أيعجب القارئ أم لا يعجب إذا علم أنّ من السفارات الغربية من كانت تستعين بعملاء لها ممّن يحملون اسم المسلمين، ليبحثوا عن قضايا شاذّة في تراثنا العربي الإسلاميّ، ويقوموا بنشرها بين الناس، ليبثوا الشكوك والريبة عن ديننا في مجتمعاتنا الإسلامية.

المستشرقون والسنة النبوية:

وحين نلقي نظرة على البدعة السيئة التي افتراها (القرآنيّون)، ما نراها غير ترديدٍ لما قاله المستشرقون من قبلهم، فقد أثاروا شبهات كثيرة حول القرآن الكريم أولاً، وتصدى العلماء الأعلام في الردّ على شبهاتهم، فعادوا يجرّون أذيال الخيبة والهزيمة، لكنّهم لم ييأسوا، فعادوا بأسلوبٍ آخر لينالوا من ديننا، فاتّجهوا إلى الطعن بالسنة النبويّة التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلاميّ، ومن هذينِ المصدرين يستقي المسلمون تشريعهم. فهذا المستشرق اليهوديّ (جولد تسيهير)(1) نشر نتيجة بحثه وكان بعنوان (دراسات إسلامية) باللغة الألمانية، وذلك عام 1980م، ثمّ ترجم إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فهو يقول:

(ولا نستطيع أن نعزوَ الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إمّا قالها الرسول، أو من عمل رجال الإسلام)(2).

وبعد مضيّ ستّين سنة على نشر هذا الكتاب، كتب (شاخت)(3) كتابه (أصولُ التشريع المحمّديّ)، وذكر نتيجة بحثه: أنه ليس في السنة النبوية حديث واحد من الأحاديث الصحيحة، وبخاصة الأحاديث الفقهية، وأن السنة النبوية بأنواعها الثلاثة: القولية والفعلية والتقريريّة، ظلّت بعيدة عن التشريع الإسلامي، لا يُلتفت إليها ولا يُعمل بها، ولم تكن مصدراً من مصادر التشريعِ لا في عهد الرسول، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في عهد كبار التابعين! ويزعم أن الإمام الشافعي هو الذي جعل السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع!(4).

وإذا كان (جولد تسيهير) قد شكّك بالأحاديث النبوية؛ فإن (شاخت) زاد على ذلك بأنّ عدم صحّة الأحاديث هو قضية يقينيّة لا شكّ فيها. وظلّ العمل بهذينِ الكتابينِ لدى المستشرقين بما يقرب من ثلاثة أرباع القرن.

وهناك كتاب ثالث صدر بعد هذين الكتابين بعنوان (أحاديث الإسلام) من تأليف (ألفريد غيوم)(5) اعتمد فيه اعتماداً كلياً على كتاب (جولد تسيهير)، فلم يضف مادة علمية مهمة على ما قاله (جولد تسيهير)(6). ويقول (ميور وغليوم):

(إن الأحاديث الموضوعة اختلطت بالأحاديث الصحيحة اختلاطاً لم يمكن بعده التمييز بينها، وإن الآلاف بل آلاف الآلاف من الأحاديث التي راجت في أوقاتها لم يكن عليها مسح من الأصالة والصحة)(7).

وهذا هو المنهج نفسه الذي سلكه المستشرق الأمريكي (هاملتون جب)، فهو يقول:

(إن الإسلام مبني على الأحاديث أكثر مما هو مبني على القرآن، ولكنّنا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة (كذا) لم يبقَ من الإسلام شيء، وصار أشبه بصبِّيرة (طومسون). وطومسون هذا رجل أمريكي جاء إلى لبنان، فقُدِّمت له مرّةً صبّيرة، فحاول أن ينقّيها من البذور، فلمّا نقَّى منها كلّ بذورها، لم يبقَ في يدهِ منها شيء)(8).!!

فعل المستشرقون هذا لمعرفتهم أنّ التشكيك بالسنة النبويّة هو أقصر الطرق للنّيل من هذا الدين. وقد كان المستشرقون أذكياء في محاربتهم للسنة النبويّة؛ فإنهم لو استطاعوا تجميد العمل بالسنة، لاستطاعوا أن يبلغوا غايتهم –حين ذاك- إذ إن فهم عددٍ غير قليل من الآيات يتوقف على فهم السنة النبوية، لأن كثيراً من أحكام القرآن هو من القواعد العامة التي تحتاج إلى تفسير، فالصلة بينهما وثيقة، فلا يُفصل القرآن عن السنة، ولا تقوم قواعد الإسلام إلا بالقرآن والسنة معاً.

وعلى قيثارة المستشرقين في التضليل هذه، عزفَ القرآنيون فعادوا يردّدون ما ردّده المستشرقون من قبل.

أدلة القرآنيين على إنكار السنة:

من أهم ما استدلّ به القرآنيون على إنكار السنة آيات من القرآن، وحين نتأمل بتلك الأدلة لا نجد فيها دليلاً واحداً يصلحُ أن يُعوّل عليه لنصرة دعواهم. فمن تلك الأدلة:

1- قوله تعالى:[ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}

2- قوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] {الأنعام:38}

3- قوله تعالى: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] {النحل:89} .

4- قوله تعالى: [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {العنكبوت:51} .

هذا أهم ما استدلّ به الذين ينكرون السنة من آيات القرآن الكريم. ونحن نعجب كيف يتجرّأُ هؤلاء على تفسير كتاب الله بفهمهمُ السّقيم؛ لأن تفسير كتاب الله له قواعد نصّ عليها العلماء يجب مراعاتها. فمن التجني على كتاب الله أن يعبث به العابثون، وينحرف بتفسير آيات القرآن مَن لم تكن له قدمٌ راسخة في لغة القرآن وعلومها ومنهاج هذا الدين.

ونبدأ بتفسير الآيات التي استدلّوا بها على إنكار السنّة النبويّة:

أمّا عن قول الله تعالى: [ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}، فإنّ كمال الدين يكون بالقرآن والسنة معاً، وليس بالقرآن وحده، بدليل أن الآيات القرآنية ظلّت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية في التشريعات، كآيات تحريم الرّبا مثلاً، هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الله تعالى تكفّل بحفظ السنة كما تكفّل بحفظ القرآن، قال تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9} ، فإنّ لفظَ الذّكْرِ هنا يُطلق على القرآن والسنّة معاً كما قرّر ذلك المحقّقون من العلماء. ويرد (ابن حزم الظاهري) على مَن يدّعي أن الله تكفّل بحفظ القرآن ولم يتكفّل بحفظ السنّة فيقول:

(هذه دعوى كاذبة مجرّدة من البرهان، وتخصيص للذّكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل، لقولهِ تعالى: [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {البقرة:111} ، فصحّ أنّ مَن لا برهان له على دعواه ليس بصادقٍ فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة، وحي يبيّن بها القرآن، وأيضاً، فإن الله تعالى يقول:[بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44} فصحّ أنّه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للنّاس)(9).

أمّا قوله تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] فالمراد بالكتاب: هو اللوح المحفوظ. فهو الكتاب الذي أحصى الله فيه كلّ شيء ممّا هو كائن وممّا سيكون. ودليل هذا قوله تعالى:[وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] {هود:6} . وقال:[وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] {يونس:61} .

هذا هو مذهب المُحقّقين من المفسّرين. وبهذا يسقط استدلالهم بهذه الآية الكريمة أيضاً.

على أنّ هذه الآية الكريمة حتى لو كان المراد بها هو القرآن الكريم، فلا دليل لهم في الآية أيضاً؛ لأن آيات الأحكام في القرآن لا يزيد عددها عن خمسمئة آية، وأما أحاديث الأحكام فهي ما يقربُ من أربعة آلاف وخمسمئة حديث، فلم يُفصّل القرآن إلا في قليل من الأحكام، وجاءت السنة مفصلة لها.

وهكذا نجد القرآن الكريم جاء بأصول التشريع ولم يُفصّل الأحكام كلّها. فيكون معنى الآية على المعنى الثاني: أنّ القرآن لم يغادر من الأحكام التي تستقيم بها حياة الناس إلا بيّنها بصورة مفصلة أو مجملة، وتأتي السنة النبوية لتبيّن الآيات المُجملة.

وأمّا استدلالهم في إنكار السنة بقوله تعالى: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]، فهو استدلال سقيم أيضاً؛ لأن القرآن أنزله الله تعالى قواعد كليّة لكل ما يتعلّق بحياة المسلم والمسلمة من الأمور الدينيّة، وتفصيلات كثير من تلك القواعد جاءت بها السنة النبويّة أيضاً.

وأما استدلالهم بقوله تعالى:[أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {العنكبوت:51} ، فإن معناها لا كما يظنّون؛ لأن معنى الآية يتوقّف على الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:[وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ] {العنكبوت:50} . فقد طلب المشركون (آيات) أي (معجزات) ماديّة، وهم يعلمون أنّ هذا القرآن معجز بحقّ، قد بهرتهم بلاغته وفصاحته وبيانه، فهو يخاطب المشركين بما معناه: أولم يكفهم هذا القرآن معجزةً أفضل من المعجزات الماديّة التي طلبوها؟ إنّه القرآن العظيم! وهو كافٍ للتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

القرآن يأمرنا أن نأخذ بالسنّة:

والقرآن الكريم نفسه يأمرنا أن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] {الحشر:7}.

تنص الآية نصاً صريحاً واضحاً على أنّ أي تشريع يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تشريع ملزم، فهو كالقرآن في وجوب العمل به، سواء أكان قولاً أم فعلاً، حتى لو كان السبب خاصاً؛ فإن العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب.

وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ] {النساء:59} .

هذه الآية الكريمة ومثيلات لها كثيرة، تنص على وجوب طاعة المؤمنين لرسولهم صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. وصيغة الأمر فيها فرض لازم لا يحتمل التأويل. وتكون طاعة المؤمنين للرسول بالتزام أوامره والانتهاء عن نواهيه. قال ابن حجر العسقلاني متحدثاً في الآية الكريمة:

(أطيعوا الله فيما نصّ عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بيّن لكم من القرآن، وما ينصّه عليكم من السنّة)(10).

أو المعنى: (أطيعوا الله فيما أمركم به من الوحي المتعبّد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن)(11).

ولقد توالت آيات القرآن في وجوب طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله: (وقد لاحظ العلماء أنه ما جاء أمر في طاعة الله في كتابه الكريم إلا قَرن الله معه الأمر بطاعة رسوله، وشركه إمّا بواو العطف، أو بواو العطف مع إعادة الأمر بالطاعة، وكذلك ما ورد في القرآن تحذير أو تخويف من معصية الله إلا عطف الله رسوله في هذا التحذير أو التخويف)(12).

وقال تعالى:[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36}. ويدعو الله سبحانه إلى وجوب اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلّ ما يتعلّق بأي أمر كان من أمور الدّين، ويحذر جل جلاله من لم يقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .

وتتوالى آيات القرآن التي تنصّ على وجوب الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أمثلة على بيان السنة للقرآن الكريم:

وننظر في إقامة الصلاة، فنجد القرآن الكريم لم يتحدّث إلا عن وجوبها وحُسن أدائها، فلم يتحدّث في شروطها وأركانها وسننها، ولا في عدد ركعات الفرض وإفراد الركوع وتثنية السجود. وطريقة معرفة ذلك لا يكون إلا بالسنّة.

وهكذا الأمر في فريضة الزّكاة، فقد قال تعالى:[ وَآَتُوا الزَّكَاةَ] {البقرة:43} ، ونرى أنّ اللفظ القرآني هنا جاء عاماً، فلم يتحدث في شروطها ومقادير الزكاة فيها. ولا تُعرف تفصيلات ذلك إلا من السنة النبويّة. وهكذا الأمر في الصّيام والحجّ.

إفراد السنة بأحكام:

انفردت السنة النبوية في النص على أحكام لم ترد في القرآن الكريم، من ذلك: عقد السَّلم(13)، وتحريم أكل الحُمُر الأهليّة، ورجم الزاني المُحصن، ومنع القاتل من الميراث، ومنع التوارث بين مختلفي الملّة، والحكم بشاهد مع يمين المدّعي، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرّجال، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع، ووجوب الدية على العاقلة، وفُكاك الأسير، وثبوت حق الشفعة لمن وُجد عنده سببها، وميراث الجدة، وزكاة الفطر، والأذان، وزكاة الأنعام.

لذلك نجد الإمام محمد بن علي الشوكاني يقول: 

(اتّفق مَن يعتدّ به من أهل العلم على أنّ السنة المطهّرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام)(14). ويقول: (إنّ ثبوت حجيّة السنّة المُطهّرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، لا يُخالف في ذلك إلا من لا حَظّ له في دين الإسلام)(15).

حجّتهم داحضة: 

حين نقيم الحجة على منكري السنة بأن أربعة من أركان الإسلام العمليّة تتعطّل إذا لم نأخذ بالسنة النبويّة، وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج، نراهم يدفعون ذلك بقولهم: إنّ أركان الإسلام الأربعة هذه نؤديها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤديها، لأنها من السنن العملية، ونحن لا ننكر إلا السنة القولية وحدها، وقد أخذ المسلمون هذه الأركان العملية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلاً عن جيل!

ويردّ على هذه الدّعوى الأستاذ الدكتور عبد العظيم إبراهيم المطعني فيقول: 

(وهذا الدفع مرفوض، مرفوض لأن للسنن العمليّة سنناً قولية لا حصر لها، وهذه السنة القولية لا تُدرك من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي ويحجّ ويصوم ويزكّي. ومن أبرز ما يُحتجّ به على منكري السنة حديثان، هما: «صلّوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا عنّي مناسككم». وهذان الحديثان من السنن القولية لا من السنن العملية. ومعنى هذا أنّ السنة القولية أصلٌ للسنّة العملية، فكيف إذن يُستغنى عن أصلٍ ثبتت به السنة العمليّة؟! فلو لم يقل: (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ما ثبت شرعاً وجوب محاكاة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم . ولو لم يقل: «خذوا عني مناسككم» ما علمنا أنّ الأمة يجب أن تتأسّى بأفعال النبيّ وأقواله في الحجّ، وإلّا وقع الحجّ باطلاً إذا خالف كيفية حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم )(16).

ويقول تحت عنوان الفقه القولي: (هب أننا شاهدنا النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة العشاء من تكبيرة الإحرام إلى الخروج منها بالسلام، فهل هذه المشاهدة تميّز لنا أركان الصلاة التي تبطل الصلاة بترك واحد منها، ثمّ سنن الصلاة، ثم مندوبات الصلاة وفضائلها. هل كنا ندرك أن قراءة (أم الكتاب) فرض، وأنّ قراءة سورة بعدها أو أيّ سنة لا تبطل الصلاة بتركها سهواً؟ وما يدرينا أنه صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم، ثلاثاً)، ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى، ثلاثاً)؟ ومن يدرينا أنّ السلام الأول إلى اليمين فرضٌ، والثاني إلى الشمال ليس فرضاً؟ إن لكل سنة عمليّة سنناً قولية لا في الصلاة وحدها، بل في كل التكاليف؛ وبهذا يدفع هذا الدفع الباطل)(17).

حكم من ينكر السنة النبوية:

ولقد حذّر العلماء تحذيراً شديداً تصطكّ منه الرّكب، كل من ينكر السنة النبوية، حتى ذهبوا إلى تكفيره وخروجه من الملة، فقال الإمام ابن حزم: (ولو أنّ امرءًا قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقلّ ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حدّ للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدّم والمال)(18).

وقال الإمام محمد بن الحسين الآجري: (جميع فرائض الله عزَّ وجل التي فرضها الله في كتابه، لا يُعلم الحكم فيها إلا بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم . هذا قول علماء المسلمين، من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام، ودخل في ملة الملحدين، نعوذ بالله تعالى من الضلالة بعد الهدى)(19).

وقال الإمام السيوطي: (اعلموا –رحمكم الله- أن من ينكر كون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حُجّة فقد كفر وخرج من دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى، أو من شاء من فرق الكفرة)(20).

وقال العلامة الشيخ الدكتور عبد الغني عبد الخالق: (وليت شعري كيف يتصوّر أن يكون نزاع في هذه المسألة بين المسلمين، وأن يأتي رجل في رأسه عقل ويقول: أنا مسلم، ثم ينازع في حجيّة السنّة بجملتها؟ مع أنّ ذلك مما يترتب عليه عدم اعترافه بالدين الإسلاميّ كله من أوّله إلى آخره، فإن أساس هذا الدين هو الكتاب، ولا يمكن القول بأنه كلام الله مع إنكار حجيّة السنة جملة، فإنّ كونه كلام الله لم يثبت إلا بقول الرسول الذي ثبت صدقه بالمعجزة. إن هذا كلام الله وكتابه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا من السنة التي يزعم أنها ليست بحجة، فهل هذا إلا إلحاد وزندقة وإنكار للضروري من الدين، يقصد به تقويض الدين من أساسه)(21).

وأخيراً: فإن العجب كل العجب –وإن شئت فقل لا عجب- كيف يَزْورُّ القرآنيّون عن آيات القرآن الصريحة التي تنص على أن السنة النبوية هي تبيان لما في القرآن، قال الله تعالى: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] {النحل:44} .

وقال:[وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {النحل:64}.

هكذا يبدو لنا ممّا تقدّم أن هؤلاء القرآنيّين –إن أحسنّا الظن بهم- لم يكن لهم علم شرعيّ يُمكّنهم من استنباط الأحكام من أدلتها، ولكن كانت لهم الجرأة على التطاول على إجماع المسلمين منذ عهد الصحابة الكرام إلى يوم الناس هذا.

وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء المتطاولون على شرع الله، إن هو إلا أُنموذج من نماذج الكيد بهذا الدين الذي نرى أمثلةً له بين آونة وأخرى، وتقوم وسائل الإعلام بالتسويق له؛ لزرع الفتنة بعد الفتنة بين المسلمين! ولكن هيهات! فلحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفوس تفتديه، ترد رداً علميّاً على كل ما يتخرّص به المُتخرّصون، ويكيد به الكائدون.

======

(1) جولد تسيهير: مستشرق يهودي، ولد في بلاد المجر في هنغاريا سنة 1850-1921م، ودرّس في أشهر مدارس الاستشراق في برلين وغيرها، ورحل إلى سورية سنة 1873م، وتتلمذ على العلامة الشيخ طاهر الجزائري، ثمّ رحل إلى فلسطين ومصر. له مؤلفات في الفِرق الإسلامية والفقه.

(2) مناهج المستشرقين في دراسة الحديث النبوي. للدكتور: محمد أحمد رضوان صالح. ص107. الطبعة الأولى 1433هـ-2012م. مكتبة الطبري – القاهرة.

(3) جوزيف شاخت: مستشرق ألماني متخصص في الفقه 1902-1969م، له مكانة كبيرة في دراسات المستشرقين، ترجم عدداً من الكتب العربية –وبخاصة في مجال الفقه- وله مشاركاته في (دائرة المعارف الإسلامية) التي وضعها المستشرقون، له عدد من الكتب، أشهرها: تحقيق كتاب الحيل في الفقه لابن أبي حاتم القزويني، وأصول التشريع المحمدي.

(4) هذه مغالطة أيّة مغالطة من هذا المستشرق، فإن الإمام الشافعي مسبوق بإمامين جليلين من أئمة الفقه هما: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، المتوفى سنة 150هـ، والإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة المتوفى سنة 179هـ. أما الإمام الشافعي فقد توفي سنة 204هـ. ومن أصول مذهبي أبي حنيفة ومالك الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وضع الإمام مالك أول كتاب في الحديث هو (الموطأ) ووزع أحاديثه على أبواب الفقه، ووجود هذا الكتاب دليل واضح على تكذيب ما ذهب إليه (شاخت) من أن السنة قبل الإمام الشافعي لم تكن مصدراً للتشريع.

(5) ألفريد غيوم: مستشرق إنجليزي، ولد عام 1888م، تخرّج في جامعة أوكسفورد، وعمل في فرنسا ومصر، نال عدداً من الأوسمة، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع العلمي العراقي، له عدد من المؤلفات، منها: تراث الإسلام، ومدخل إلى علم الحديث، وأثر اليهود في الإسلام.

(6) ينظر كتاب: دراسات في الحديث النبوي. تأليف الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي. ص: ي. طبع سنة 1413هـ-1992م. المكتب الإسلامي – بيروت.

(7) مناهج المستشرقين في دراسة الحديث النبوي. ص107. نقلاً عن كتاب: لمحات من الحديث النبوي. تأليف: محمد أديب صالح. ص52. الطبعة الرابعة 1405هـ-1985م. المكتب الإسلامي – بيروت.

(8) التبشير والاستعمار في البلاد العربية. تأليف: عمر فروخ ومصطفى الخالدي. ص40. طُبع سنة: 1423هـ-2003م. المكتبة العصرية – بيروت.

(9) الإحكام في أصول الأحكام. تأليف: الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري. 1/118. دار الكتب العلمية – بيروت.

(10) فتح الباري شرح صحيح البخاري. لابن حجر العسقلاني. 13/139. الطبعة الثالثة 1421هـ-2000م. دار السلام ودار الفيحاء.

(11) فتح الباري 13/139.

(12) مكانة السنة في التشريع الإسلامي. تأليف: الدكتور محمد لقمان السلفي. ص40. الطبعة الثانية 1420هـ-1999م. دار الداعي – الرياض.

(13) السّلَم: عقد على موصوف في الذمّة ببدلٍ يُعطى عاجلاً. فحين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة رأى الناس يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: «من أسلفَ فليُسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم». رواه الخمسة، ينظر: نيل الأوطار للشوكاني. 5/342. طبعة دار الجيل.

(14) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. للإمام محمد بن علي الشوكاني. ص33. الطبعة الأولى 1356هـ-1937م. مطبعة مصطفى البابي الحلبي.

(15) إرشاد الفحول. ص33.

(16) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية. تأليف: الدكتور عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني. ص136-137. بتصرّف قليل. الطبعة الأولى 1420هـ-1999م. مكتبة وهبة – القاهرة.

(17) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية. ص137.

(18) الإحكام في أصول الأحكام. للإمام ابن حزم الظاهري. 1/214.

(19) كتاب الشريعة للإمام الآجري. ص55. الطبعة الرابعة 1432هـ-2011م. مؤسسة الريان – بيروت.

(20) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة. تأليف: الإمام جلال الدين السيوطي. ص14. الطبعة الأولى 1407هـ-1987م. دار الكتب العلمية – بيروت.

(21) حجية السنة. تأليف الدكتور: عبد الغني عبد الخالق. ص249-250. مطبعة منير – بغداد.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى