غياب سُنّة العراق عن حسابات البابا فرنسيس
بقلم عمر الجنابي
الزيارة التي وصفها البابا بـ”الحج”، بدت لها أبعاد سياسية وتاريخية، تحدث عن بعضها المرجع الشيعي الأعلى في العراق “علي السيستاني”، مثل: السلام في فلسطين، والتآلف، وإنهاء الحرب والتهجير، والتعايش السلمي بين الأديان. ولقاء مع معظم الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، خلال حفل أقيم على شرفه في بغداد.
الشيخ “مصطفى البياتي” إمام وخطيب “مسجد أبو حنيفة النعمان” الذي يضم مقر المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء، أكد بتصريح خاص لكاتب المقال، ترحيبه بزيارة البابا فرنسيس إلى العراق، ورجا أن تكون هذه الزيارة مقدمة لفتح باب الحوار بين الأديان على أسس معتبرة. وأكد البياتي أنهم في المجمع يسجلون: “نقطة على برنامج الزيارة وهي غياب زيارة الشخصيات المعنوية للعرب السُّنة في العراق مثل: مسجد ومرقد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، أو مرقد ومسجد الشيخ عبد القادر الگيلاني أو مرقد ومسجد الشيخ معروف الكرخي”.
ووسط انشغال العراق والفاتيكان بالزيارة التاريخية، يشعر العرب السنة في العراق بخيبة أمل كبيرة من الزيارة ونتائجها، حيث غاب سُنة العراق عن أجندة البابا فرنسيس، ولم تحظ ملفاتهم الإنسانية كـ “النازحين، والاختفاء القسري، والمدن المدمرة، والسجناء الأبرياء”، بأي اهتمام ولو هامشي.
كما لم تكن القيادة الدينية المتمثلة بـ(المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء)، على جدول أعمال لقاءات البابا فرنسيس، ومثلها المدن المدمرة ومخيمات النازحين، ولم تصدر أي دعوات من البابا بشكل معلن لإعادة النازحين العرب السنة إلى مناطقهم، خصوصاً تلك المناطق التي أفرِغت من جميع سكانها، مثل “جرف الصخر” شمالي بابل، والتي كان يسكنها قبل عام 2014 أكثر من 140 ألف نسمة ومنذ قرابة 7 سنوات وأهلها في مخيمات النزوح.
حتى أن البابا فرنسيس قدم الشكر للسيستاني “لأنّه رَفَعَ صوته، مع الطائفة الشيعيّة، إزاء العنف والصعوبات الكبيرة التي شَهِدَتها السنوات الأخيرة، دفاعاً عن الضعفاء والمُضطهَدين”، حسب الموقع الرسمي الفاتيكان.
في وقت يرى فيه العرب السّنة في العراق أنهم أكبر المتضررين من دخول داعش الإرهابي إلى مناطقهم، بسبب ما تعرضوا له من تهجير ونزوح وإخفاء قسري وتدمير لمدنهم خلال معارك استعادة الحكومة العراقية السيطرة على تلك المناطق من داعش الإرهابي. بالإضافة إلى الممارسات الطائفية للمليشيات الشيعية خصوصاً تلك المرتبطة بإيران والتي تسمى عرفاً في العراق بـ “المليشيات الولائية”.
تعد مناطق العرب السنة في العراق، أكثر المناطق اتصافاً بـ”الصمت الشعبي” حول ما يدور من أحداث وصراعات وخلافات على مختلف الأصعدة، بعد أن كانت مركزاً للمعارضة السياسية والشعبية قبل عام 2014، ومناطق صراع مسلح 2003 – 2011 حتى خروج القوات الأمريكية من العراق.
والمقصود بـ”الصمت الشعبي” هنا: هو حرص أبناء هذه المناطق على عدم القيام بأي أنشطة احتجاجية كالتظاهرات، أو إثارة مواضيع سياسية وأمنية على مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى التحريك ساكناً حول ما يجري لهم في بعض الأحيان من انتهاكات أو اتهامات، والاكتفاء بالصمت حول كل ما يجري.
دخول داعش الإرهابي لمدن ومحافظات يسكنها العرب السنة واحتلاله لها منتصف عام 2014، ومجيء المليشيات الشيعية المسلحة لتحل محله، تسبب بنزوح سكان تلك المناطق من بيوتهم، وتشتتهم بين مخيمات النزوح وبعض المدن العراقية، وآخرين توزعوا على عدة بلدان هرباً من الموت، كل ذلك ساهم بشكل كبير في بروز الصمت الشعبي الذي قرر أبناء هذه المناطق اتخاذه أو ما أجبروا على فعله خوفاً من سيناريو مشابه لداعش الإرهابي، أو مصير مشابه لآلاف السجناء الأبرياء أو ضحايا الإخفاء القسري (المغيبين) وهم بالآلاف.
بين حين وآخر ينتشل الدفاع المدني بعض الجثث من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى (شمالي العراق)، وهي آخر مدينة استعيدت من داعش الإرهابي، ومازالت المدينة تئن من جراح الحرب حيث لم يُعَد إعمارها أو انتشال الجثث منها بحملة على مستوى حملة تحريرها من داعش الإرهابي.
ومثلها مدن عدة ما زالت مدمرة ولا توجد خدمات لأهلها في وقت أصبحت مناطق عدة في بابل والأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك وبغداد ونينوى، تعاني خطر التغيير الديموغرافي بسبب إفراغ بعضها من سكانها وإلغاء العقود الزراعية لبعض السكان واعتقال وتهجير آخرين.
ملفات كهذه طرحتها بالأرقام منظمات حقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وغيرها، وبشهادة بعثة الأمم المتحدة. وبحسب أطراف سياسية متنفذة فإن الجهات المشرفة على إبقاء هذه الملفات من غير حل هي مليشيات مسلحة تتبع الدولة العراقية ولها أجندة سياسية لكنها مرتبطة بدولة إقليمية ولا يمكن إقناع تلك الدولة بالعدول عن هذه الممارسات التي من شأنها تهديد النسيج الاجتماعي في العراق والتركيبة السكانية لمناطقه بالإضافة إلى الانتهاكات الجسيمة في حقوق الإنسان.
ولعل البابا فرنسيس ليس الشخص المعني بتغيير الواقع المرير للعراقيين بشكل عام والعرب السُّنة على وجه الخصوص، ولكن “التجاهل” الواضح لهم ولمعاناتهم وعدم اللقاء برموزهم والسماع من كل الأطراف وتضمين دفاع الشيعة عن المستضعفين وتجاهل السُّنة الذين شاركوا في الجيش والأجهزة الأمنية وحشد العشائر وحتى أبناء المجتمع السني الذين كانوا رأس الحربة في تحرير مناطقهم من داعش الإرهابي، يشير بشكل واضح إلى أن الإرهاب كأنه “سُني” وأن البابا يرى أن واجبه يقتضي زيارة من قضى على الإرهاب.
وإذا كان هناك تصور شائع بأن تنظيم داعش الإرهابي “سُني”، فإن المليشيات المتورطة بجرائم لا تقل إرهاباً عن داعش هي تنظيمات “شيعية” وخرجت للقتال بفتوى من السيستاني، ومن الظلم تعميم الإرهاب على المجتمع السُّني ورموزه كما من الظلم تعميم ذلك على المجتمع الشيعي ورموزه.
كان على البابا فرنسيس أن يكون أكثر توازنا في لقاءاته وزيارته إلى العراق، وأن لا يظهر وكأنه يحمل العرب السنة – كما فعل غيره- جرائم داعش الإرهابي ومن على شاكلته من التنظيمات الإرهابية. فمن غير المعقول الحديث عن السلام في العراق بتجاهل الملايين من شعبه، كما لا يمكن الحديث عن السلام والسير في نفس مسار الإقصاء الذي تنتهجه الطبقة السياسية الحاكمة في العراق بعد 2003 من خلال ترسيخ الطائفية والانقسام الشعبي.
ولعل أبرز المستفيدين من زيارة البابا فرنسيس بالإضافة إلى مسيحيي العراق الذين عانوا الكثير منذ 2003 وحتى اليوم، هما: النظام السياسي المتصدع بعد تظاهرات تشرين/أكتوبر، والمرجعية الشيعية في النجف التي علا كعبها مجدداً على مرجعية ولاية الفقيه في إيران، أما شعب العراق والسواد الأعظم منه فمعاناتهم لا تحل بهذه الزيارة دون تغيير يشمل جميع مفاصل الدولة، لتسود سلطة القانون لا سواها.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)