مقالاتمقالات مختارة

غايتنا سلامة المنهج لا منهج السلامة

في المحن والشدائد يطلب الكثير منهج السلامة، بينما يطلب الصفوة سلامة المنهج، وبهذه الصفوة يُحفظ الدين، وتُنصر الملة.

ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

اليوم يوم العزائم لا يوم الهزائم، واليوم يوم التضحيات لا يوم المكتسبات. وقديما قيل:

على قدرِ أهلِ العزمِ تأتِي العزائم *** وتأتِي على قدرِ الكرامِ المكارمُ

وتكبر في عينِ الصغير صغارُها *** وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ

إن الترهات والتفاهات لا يليق بالأمة المجاهدة، وإن التذبذب والتلون لا يليق بالأمة القائدة، فالله كره لنا سفاسف الأمور، وأحب لنا معالي الأمور، وإن من أعظم المعالي هو الثبات على سلامة المنهج رغم كل أزمة ومحنة.

1- مثال لمن آثر منهج السلامة:

إن ديننا الحنيف يحذر من اتباع الهوى والميل إلى الدعة وحب الخنا، وينكر على من يبحث عن السلامة في الضلالة والشبهات، ويشنع على من يطلب الراحة في الرذيلة والشهوات، قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7-8].

قال الله ناهياً عن منهج السلامة ومحذراً من اتباع أهله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]؛ لأن دربهم وخيم ومصيرهم إلى الجحيم، أرادوا شيئاً فعوقبوا بخلاف ما أردوا، ظنوا أنهم على شيء وما هم على شيء، مثلهم في زماننا أقوام يطلبون السلامة ولو في ديار الكفار، ويسعون للسلامة ولو على سبيل دينهم ومعتقدهم، علماء وقادة يهادنون في الحق، هؤلاء شرٌّ مكاناً وأضل عن سواء السبيل؛ فحذار أن تركن لهم وأن ترضى بهم وبفعلهم، واعلموا أنهم على باطل في قولهم وفعلهم، وأنه الباطل مهما علا وأرغد وأزبد فهو جفاء، وهو سراب يحسبهم الظمآن ماء، وصدق الله في ضرب مثال من يريد منهج السلامة ومن يطلب سلامة المنهج فقال وهو خير القائلين: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17].

وإن أظهر مثلٍ لمن آثر منهج السلامة على سلامة المنهج ذاك الدنيء الخاسر والخبيث الفاجر جبلة بن الأيهم عندما تكبر على منهج الحق والسلامة واختار منهج الباطل والجاهلية، رفض أن ينصاع لحكم الله، وظن أنه إن هرب وارتد نال السلامة والسيادة فاختار هلاكه وهو يحسب أنه النجاة، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

قال له عمر: “أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ قال له جبلة: لست ممن ينكر شيئا أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي. قال له عمر: أرضِ الفتى لابد من إرضائه ما زال ظفرك عالقًا بدمائه أو يهشمن الآن أنفك وتنال ما فعلته كفك. قال له جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين هو سوقة وأنا عرش وتاج كيف ترضى أن يخر النجم أرضًا؟ قال له عمر: نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحًا جديدًا وتساوى الناس أحرارًا لدينا وعبيدا.

قال له جبلة: كان وهمًا ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز أنا مرتد إذا ما أكرهتني.

قال له عمر: عاَلم نبنيه كل صدع فيه يداوى وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.

وهرب من عمر وآثر طول العمر، وشرب الخمور وأظهر الفجور وظن أنه نال السرور، ونسي عاقبة الأمور، وأن الله يمهل للظالم ولا يهمله، وأن من اختار منهج السلامة كان مصيره إلى النار وبئس القرار.

وهذا حال كثير من الناس اليوم عندما يختاروا البقاء في ظلال الظالم والمجرم الحاكم، بدعوى أن هذا أسلم ولا يجوز أن نرمي بأنفسنا إلى التهلكة.

ما هم بأمة أحمد *** لا والذي فطر السماء

ما هم بأمة خير خل *** ق الله بدءًا وانتهاء

إن يزرعوا فحصادهم *** يا حسرتاه كان الهواء

إن يقتلوا فقتيلهم *** كان المودة والإخاء

وللأسف رغم أنه الحق أبلج، والباطل لجلج، إلا أن كثيراً من الناس يرغب بمنهج السلامة ويستعجل الثمرة ويريد ألا يؤذى في الله ولا يضحي بشيء لدين الله، همه الحفاظ على سلامته وهدفه الإبقاء على حياته ونجده كمثل اليهود: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)؛ لذلك جاء تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- ونكيره على من يختار منهج السلامة شديداً واضحاً.

2- نماذج ممن آثروا سلامة المنهج:

بشير بن الخصاصية؛ فعن بشير بن الخصاصية قال: “أتيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأبايعه على الإسلام، فاشترط علي: “تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتصلي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله؟” قال: قلت: يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما، أما الزكاة فمالي إلا عشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولَّى، فقد باء بغضب من الله، فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت، وخشعت نفسي، قال: فقبض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يده ثم حركها ثم قال: “لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة؟” قال: ثم قلت: يا رسول الله أبايعك فبايعني عليهن كلهن [1].

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:147].

انظروا كيف رفض رسول الله البيعة على منهج السلامة، وبايع أصحابه على سلامة المنهج.

إبراهيم الخليل وابنه الذبيح:

إن ديننا القويم يدعوكم ويدعوُ المؤمنين بل يأمركم ويأمرهم بالثبات على المنهج السليم والتزام الصراط المستقيم، مهما كان الصعوبات ومهما كثرت المغريات، قال الله -تعالى- في محكم الآيات: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28].

لهذا أمرنا أن نردد يومياً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وحذرنا من التقلب والبحث عن سلامة المنهج، فقال: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة: 77].

ويزكي ويمدح من يختار سلامة المنهج على منهج السلامة؛ كما قص الله لنا قصة واضحة لكل ذي عقل وبصيرة، إنها قصة الخليل إبراهيم مع ولده الذبيح إسماعيل فقد رضيا بسلامة منهجهم في اتباع أمر ربهم فمدحهم ربهم وخلد ذكرهم فقال: (فلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات: 103-111].

فالزمْ طريقَ الهدَى، ولا يضرُّكَ قلَّةُ السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين.

خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم

محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

فلله درّهم عندما قدموا مهجهم من أجل سلامة منهجهم فها هو سيد الخلق وحبيب الحق محمد -صلى الله عليه وسلم- يضرب أروع الأمثلة وأوضح الصور فيقول: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ”[2].

وأتبع القول العمل صلى الله عليه وسلم ففي يوم حنين وقد انكشف عنه أصحابه يقتحم جيش المشركين بلا لثام ويعلنها قائلاً: “أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب”.

بادر أُخَيَّ لرفع اللواء *** على كل قِطْع ولا تحجمِ

وزف هدى الله للعالمين *** بآياتِ قرآنك المحكمِ

سمواً سماءً بوحي الإله *** وجاهد وصابر ولا تسأمِ

ماشطة بنات فرعون:

وهذا -أيها الإخوة- ليس فقط في الأنبياء أو الرجال الأشداء بل إن سلامة المنهج مطلب حتى عند الضعفاء من الولدان والنساء فهاكم ماشطة بنات فرعون وأولادها مثلاً يضرب في الثبات على الحق رغم شدة البلاء وقسوة الأعداء؛ فقد روى أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لما كانت الليلةُ التي أسري بي فيها، أتتْ على رائحةٌ طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيبة؟” فقال: هذه رائحة ماشطةِ ابنةِ فرعون وأولادها، قال: قلت: “وما شأنها؟” قال: بينما هي تمشط ابنةَ فرعون ذات يوم إذْ سقطتْ المدْرَى من يديها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي! قالت: لا، وَلكن ربي ورب أبيك الله، قالت: أُخْبِره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرتْه، فدعاها، فقال: يا فلاَنة، وِإن لك رَباً غيري؟ قالت: نعم، ربي وربُّك الله، فأمر ببقرةٍ: من نحاس فأُحْميَتْ، ثم أَمر بها أن تلقى هي وأولادُها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة، قالَ: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظامَ ولدي في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأمر بِأولادها فأُلقوا بين يديها واحداً واحداً، إلى أن انتَهى ذلك إلى صبي لها مُرْضعٌ، وكأنها تقاعستْ من أجله، قال: يا أُمَّه، اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فاقتحمتْ”[3].

ضحت بأبنائها الخمسة وبنفسها من أجل كلمة التوحيد، وعندما أعرج النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء وفي صعوده اشتم رائحة جميلة، فقال: ما هذه الرائحة؟ فقيل له: هذه ماشطة بنات فرعون وأبنائها.

أحزانُ قلبي لا تزولْ *** حتى أُبشّرَ بالقبولْ

وأرى كتابي باليمينْ *** وتُسَرّ عيني بالرسول

هؤلاء هم من أرادوا المنهج السليم فكانت بدايتهم شاقة محرقة، لكن نهايتهم جميلة مشرقة، أولئك تشتاق لهم الجنان وتخطبهم الحور الحسان، ويصدق فيهم قول النبي العدنان -عليه الصلاة والسلام-: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”[4].

إنها الطائفة الناجية المنصورة بسلامة منهجم وصحة توجههم، وحالهم:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدم

إذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام

3- نماذج حاضرة ممن آثروا سلامة المنهج:

ولقد شهدت أمتنا وما زالت تشهد نماذج من ذلكم الجيل الفريد الذي يضحي بالنفس والنفيس والغالي والرخيص من أجل الحفاظ على سلامة المنهج، ورفض ودحض منهج السلامة؛ لأنهم علموا بل وأيقنوا أن العزة والتمكين لا ينال بالسلامة من الأذى، وأن الجنة لا تشترى بالدعاوى، فقدموا لمنهجهم مهجهم وصدق فيهم قول الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) [البقرة: 207].

ها هو عمر المختار يقول في وجه الاستعمار: “نحن أمة لا تهزم ننتصر أو نموت”.

وها هو أحمد الياسين الشيخ المقعد السجين يقول في وجه إسرائيل: “إن فلسطين للمسلمين وإن تحريرها قادم”.

وغيرها من النماذج الكثيرة التي رفضت الحياة مع منهج السلامة، وعشقت الموت مع سلامة المنهج؛ لأنها آمنت أن من عاش ينشد منهج السلامة عاش كالأنعام وعاش بلا قيمة ولا وزن ولا احترام، عاش فاقداً للكرامة وبقي على هامش الحياة بلا أي فائدة ولا قيمة.

ولسان شاعرهم:

فاعرف يا بن أمي في العقيدة *** يا أخا الإسلام في الأرض المديدة

ما حياة المرء من غير عقيدة *** وجهاد وصراعات عنيدة

فهي طوبى واختبارات مجيدة *** فانطلق وامض بإيمان وثيق

وإذا ما مسك الضر صديقي *** فلأنَّا قد مشينا في الطريق

قدوتهم في ذلك بعد الأنبياء والمرسلين سلفهم الصالح من الصحابة المكرمين؛ فها هم بجهادهم يحيون حياة الرعيل الأول، ويبدؤون التاريخ من جديد؛ ليعلم العالَم أن هذه الأمة ولادة وأن دفاعها عن سلامة منهجها وأرضها وكرامتها ومقدساتها دفاع مقدس؛ ولو كان دونه قطع الأرزاق وقص الأعناق، قدوتهم صاحب رسول الله ذي البجادين، عندما اختار التوحيد والإيمان على الشرك والكفران، عندما آثر شريعة الإسلام على جبت وطاغوت الأصنام، عندما اختار رفقة النبي العدنان على رفقة الأهل والخلان، عندما اختار الجهاد في سبيل الله على متاع الحياة، عندما اختار الشهادة في سبيل الله على ترهات الحياة، عندما اختار سلامة المنهج على منهج السلامة؛ إنه ذو البجادين اختار المنهج السليم والمنهج القويم: صبي صغير ويتيم كان في كفالة عمه، فلما سمع بالإسلام أسلم وتابع سلامة المنهج، فقال له عمه: واللات لأن لم تترك الإسلام وتعود لعبادة الأصنام، لأمنعنك كل عطاء كنت أعطيك؛ فلا غذاء ولا دواء ولا مأوى ولا كساء، فقال ذو البجادين: “والله يا عماه لنظرة من محمد رسول الله خير من الدنيا وما فيها”.

فحاصره عمه ومنعه كل عطاء، ولم يبق لذي البجادين إلى ثوب قطعه قطعتين وخرج أشعث أغبر، أبى أن يختار منهج السلامة فعاش في الظاهر في تعاسة.

وما هي إلا أن نادى منادي الجهاد: حي على الجهاد، يوم العسرة يا خيل الله اركبي، فجهز ذو البجادين نفسه للجهاد مع رسول الله، ونال ما طلب من سلامة المنهج فعاش حميداً وقضى شهيداً.

عن عبد الله بن مسعود قال: قَالَ: “قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ: فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، قَالَ: فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِذَا عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيُّ قَدْ مَاتَ، فَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدْلِيَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ: “أَدْلِيَا لِي أَخَاكُمَا”، فَدَلَّوْهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ: “اللهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ”، قَالَ: يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ “[5].

قد اختارنا الله في دعوته *** وإنا سنمضي على سنته

فمنا الذين قضوا نحبهم *** ومنا الحفيظ على ذمته

هكذا هي الحياة في سلامة المنهج في الدنيا خاتمة حسنة وفي الآخرة نعيم الجنة.

اللهم إنا نسألك أن تحيينا على سلامة المنهج لا منهج السلامة.

4- معنى سلامة المنهج:

أيها المؤمنون: ها قد عرضنا لكم سلامة المنهج ومنهج السلامة؛ فأيهما تختارون ولأي الفريقين تصيرون؟

إن سلامة المنهج تعني أن تعيش على التوحيد وتموت عليه ولو قتلت وحرقت وقطعت، تحقق قول الله: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أما منهج السلامة فأن يعيش المرء مشركاً كافراً يتمتع كما تتمتع البهائم والأنعام، ويتحقق فيه قول الله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3].

إن سلامة المنهج أن تقيم شريعة الله وتعمل بطاعة الله رغم كل التحديات والصعاب وتحقق قول الله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163].

وإن سلامة المنهج أن لا تقدم طاعة غير الله على طاعة الله وترضى بترك عبادة الله والصلاة والزكاة عندها يقع عليك قول الله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه: 124-127].

إن سلامة المنهج أن نصبر على البلاء ونقاوم الأعداء، ونعلم أن النصر صبر ساعة، وأن الحق ظاهر والباطل زائل، وأن الله ناصر دينه وأوليائه ونوقن بموعود الله، ونحذر منهج السلامة فنتبع المفسدين، ونخشى من الظالمين، فقد قال الله موضحاً نهاية سلامة المنهج ونهاية منهج السلامة في سورة النور: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].

إن سلامة المنهج هي العاصمة من الزلل، والهادية في حوالك الظلمات، هي التي ميزت الصدِّيق بموقفه يوم الردة، وهي التي عصمت الإمام أحمد يوم المحنة، وهي التي جعلت ابن تيمية يصمد ضد التتار، وهي التي جعلت أبطال الحجارة يقاومون جيش الاحتلال.

إن العاقل من ارتضى لنفسه سلامة المنهج، والمغبون من ركن إلى منهج السلامة، فهو يتقاعس عن القيام بالواجب عليه، ويرفض تحمل المشاق والمسؤولية، وللأسف يختار القلة سلامة المنهج، بينما يختار الكثرة منهج السلامة، وهذا حال أهل الحق قلة مع أهل الباطل كما قال الله: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]ٍ، ولكنهم هم المنصورون: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].

فاصبروا وأبشروا -يا أهلنا في كل مكان- مهما طلال الظلام فإن النصر قادم، والفتح قد لاح صباحه، وما هي إلا أن يفتح الله عليكم وينصركم ويثبت أقدامكم، وقريباً راية الإسلام سترفرف في أرض الله خفاقة:

صبراً يا أمة دعوتنا *** صبراً فالفجر لقد لالا

فجيوش الحق قد اعتدت *** لتعيد أذاناً وبلالا

قامت للحق بهمتها *** تحيي للدين الأجيالا

لا تخشى الوهن عزائمها *** لا تعرف جبناً وكلالا

ستجدد سيرة ماضينا *** ستكون مثالاً وظلالا

لجنود الهادي المختار *** من كانوا أسداً ورجالا

قوم صبروا مر الصبر *** قاسوا في الله الأهوالا

هاموا في نصرة دعوتهم *** بذلوا الأرواح وآجالا

قطعوا في الله علائقهم *** هجروا الأوطان وأمولا

فاشكر يا رب جهادهم *** واحفظ للدين الأنسالا

صبراً يا أمة دعوتنا *** لتروا للدين الإكمالا

فالباطل ليس سوى زبد *** سيكون جفاء وخبالا

وعتاد الباغي أوهام *** ستزول وتصبح أمثالا

وصروح البغي بكثرتها *** ستدك وتبقى أطلالا

المقال لرابطة خطباء الشام بتصرف في بعض عباراته

_______________

[1] المعجم الأوسط: 1126.

[2] البخاري: 7227.

[3] أحمد: 2822

[4] أحمد: 657.

[5] حلية الأولياء: 122.

(المصدر: ملتقى الخطباء / رابطة خطباء الشام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى