عَالَمُ القُوَّة وتَنازُعُ الطُّغاة
بقلم علي عقلة عرسان
عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ما زلنا أسراه، وتحكُمنا قواه ونتائجه وسياساته، وتتحكَّم بنا صراعات أقويائه.. عالمٌ محكوم بنزوع دوله العظمى إلى النفوذ والهيمنة والاستغلال والتغالب والتعالي، وبتنازع أولئك الأقوياء الطغاة القساة إلى السيطرة على الدول والشعوب، وتطلعهم لنوع من الاستعمار الجديد مدفوع القيمة مشكور الهمَّة، وإلى مزيد من الاستثمار في الترهيب والإرهاب والحرب. ونرى عالمنا هذا يتدحرج نحو تكتلات وتحالفات من شأنها أن تقضي على الثقة المتبادلة والاعتماد المتبادل اللذين يعززان الأمن والسلم والنمو والازدهار ومن دونهما الصراع الدامي والحروب المهلكة.
نحن في عالمنا هذا اليوم أمام توجهات وتحركات ووقائع لا تبشر بخير لمن ينتظرون من الهيئات الدولية والقوى العظمى والحاكمين المتحكمين سياسات ومواقف وقرارت توقف الحروب والصراعات الدامية، وتقدم حلولاً للأزمات والضائقات وتخفيفاً للمعاناة، وعدلاً ونصرة للحق والأخلاق والقيم الإنسانية.
إن نظرة سريعة نلقيها على سياسات وتوجهات ووقائع في ما يمكن القول إنه يمين عالمنا ويساره، أو معسكر الشرق والغرب فيه ـ إن صح التعبير والقياس على ما كان ـ تضعنا أمام وقائع واستنتاجات وتوقعات لا ترضي ولا تطمئن، بل تبعث على القلق والخوف والقنوط..
ومن خلال هذه النظرة نرى إلى روسيا والصين من جهة وإلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي “أوروبا” من جهة أخرى:
1 ـ فالصين تتمدَّد عالمياً، وتزحف اقتصادياً، وتتقدم تقنياً وعسكرياً ومعلوماتياً وفضائياً، وتعقد الاتفاقيات والمعاهدات، وتخطط للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط في خطوات لاستكمال مشروعها الكبير “الطريق والحزام”، طريق الحرير بخطيه البري والبحري.. فقد وقعت الصين مع إيران في آذار/ مارس ٢٠٢١ مذكرة تفاهم، “صيغة معاهدة”، تعاون اقتصادي واستراتيجي لمدة 25 عاما قادمة، ستحصل خلالها على النفط الإيراني بأسعار مخفضة للغاية.. وتستثمر مبلغ 400 مليار دولار في إيران تشمل مجالات: “الصرافة، والاتصالات، والموانئ، والسكك الحديدية، والرعاية الصحية، وتكنولوجيا المعلومات، والمجالات الأمنية والعسكرية”.
وينتظر البلدان تنفيذ مشاريع مشتركة لبناء محطات كهرباء وإنشاء خط سكك حديدية دولية، وكذلك إعادة إعمار دول في المنطقة بما في ذلك العراق وسوريا وإفغانستان وباكستان، تمشياً مع ذلك المشروع العملاق “الطريق والحزام” عبر إيران.
كما أعلنت الصين فشل الولايات المتحدة في أفغانستان، وعرضت إقامة معاهدة تعاون اقتصادي واستراتيجي صيني ـ أفغاني، “حيث تدرس مع السلطات في كابل تمديد الممر الاقتصادي الصيني ـ الباكستاني الذي يضم عدداً من مشاريع البنى التحتية بقيمة 62 مليار دولار، ويهدف لإنشاء طريق برية تربط بين مدينة كاشغر في الصين وميناء جوادر الباكستاني، كجزء من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية”.. ليصل إلى البحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسوريا.
وفي تعليق له على ذلك قال بيتر بروكس نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لشؤون آسيا والمحيط الهادي: “الصين ترغب في أن تكون البديل للولايات المتحدة في المحيط الهادئ، وفي الشرق الأوسط”.
وتتعاون الصين تعاوناً وثيقاً ـ استراتيجياً فيما يبدو ـ مع روسيا الاتحادية التي تنمي بدورها قدراتها الاقتصادية والقتالية، وتطور أسلحة نوعية، وتجرِّب أسلحتها الحديثة والقديمة على البشر في الدول الميادين، وتوسع أسواق السلاح ومجالات النفوذ، وتنشئ قواعد بحرية وجوية وبرية لها، وتعزز علاقاتها مع الصين.. بما تسميه الولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً لأعدائها الرئيسين، الصين وروسيا الاتحادية، ضدها.
2 ـ والولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى وقائد حلف شمال الأطلسي وأوروبا عموماً تزحف بدورها نحو الشرق الأقصى عسكرياً وتحاول أن تحجِّم الصين وتحاصرها اقتصادياً وتفرض عقوبات عليها وعلى روسيا، وتنشر قوات بالقرب من الحدود الروسية على جبهات عدة، وتستعيد قدراتها الاقتصادية وتعلن عودتها “قيادة للعالم حسب بايدن”..
وهي تعيد انتشارها في العالم فقد أعلنت إدارة بايدن بلسان وزير الدفاع لويد أوستن عن سحب بطاريات الباتريوت من السعودية والكويت والأردن والعراق للصيانة، وسحبت آلاف أطنان الأسلحة من أفغانستان وأعادت تركيزها وتمركزها في مواقع أخرى، وقلصت وجودها العسكري المباشر في ما يسمى الشرق الأوسط لتكثِّفه بمواجهة الصين وروسيا الدولتين اللتين أعلنتهما عدوتين لها وقدمت مواجهتهما على كل ما عدا ذلك.
ولم تتوقف الإدارات الأمريكية، بما فيها إدارة بايدن، عن التركيز على تعزيز قوة حلفائها وعلى رأسهم “إسرائيل”، لتكون الأخيرة القائد المباشر لمن تلتزم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بحمايتهم من المتحالفين معها والمعتمدين على حمايتها في الشرق الأوسط، ومنهم أعضاء ما يسمى “اتفاق إبراهيم”، والانفصاليون ـ الإرهابيون الأكراد في سوريا والعراق، وميليشيات المرتزقة الذين تشكلهم وتشغِّلهم لتواجه بهم من تراهم أعداءها وخصومها ومنافسيها الدوليين، ولاحتواء مَن تعمل على احتوائهم وتَحجيمهم ولجمهم في المنطقة وعلى رأسهم إيران ذات القوة والنفوذ والطموح والميليشيات والأذرع الطويلة في دول ومناطق عربية، ومَن يعمل معها ولصالحها وبأوامر منها أو بتنسيق معها من قوى ودول في بلدان عربية وآسيوية..
لم تتوقف الإدارات الأمريكية، بما فيها إدارة بايدن، عن التركيز على تعزيز قوة حلفائها وعلى رأسهم “إسرائيل”، لتكون الأخيرة القائد المباشر لمن تلتزم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بحمايتهم من المتحالفين معها والمعتمدين على حمايتها في الشرق الأوسط، ومنهم أعضاء ما يسمى “اتفاق إبراهيم”،
ويلاحظ نمو هذا التوجه الاستراتيجي لدى طرفي التكتل في عالمنا “يسار ويمين، شرق وغرب” بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أن الصين وروسيا هما أكبر وأخطر أعدائها وأن عليها أن تواجه هذين العدوين، وتمنع العملاق الصيني من التقدم وتتغلب عليه اقتصادياً وتقنياً وسيبرانياً وعسكرياً، وتمنع روسيا من التفوق في الصناعات العسكرية وغزو الأسواق وأن تشكل مع الصين وحلفائهما قوة تتفوق على قوتها وعلى قوة حلف شمال الأطلسي، الناتو، وتحجم مغالبة هذا الطرف لها على النفوذ العالمي.
ولا يبدو أن قمة بايدن ـ بوتين الأخيرة قد بددت مخاوف موسكو وواشنطن إحداهما من الأخرى، أو رفعت علاقاتهما من الحضيض الذي وصلت إليه وإعادتها إلى مستوى الثقة المتبادلة، ذلك لأن الثقة بينهما مفقودة، وكل ما يقوم على انعدامها يبقى هشاً وتجميلياً ومجاملاتياً ويشبه وضع طبقات من القطن والشاش بين جلدي القنفذين المستوفزين وشوكهما المستنفر.
فحلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية يستمر في زحفه نحو حدود روسيا، وشرر الاحتكاك أو دخانه يظهر من آن لآخر في الجو والبحر، لا سيما في بحر البلطيق والبحر الأسود الذي “يتحول إلى ساحة مواجهة عسكرية” كما قالت موسكو، كما يظهر في البر، حيث مناطق الاحتكاك المباشر مع بعض بلدان الجوار الروسي كأوكرايينا وبولندا ودول البلطيق الثلاث “إستونيا وليتوانيا ولاتفيا”..
وفي أجواء القطب الشمالي والهجمات السيبرانية تتقاطع.. والصراع السياسي والاقتصادي يستمر، وسباق التسلح يتصاعد بين الكتلتين أو التكتلين.. ففي كل عام ترصد مئات مليارات الدولارات في موازنات وزارات الدفاع في كل دولة وفي موازنة الناتو، ويأخذ ذلك الأمر أولوية قبل التربية والتعليم.. وتُرصد مليارات أخرى لتطوير الأسلحة والذخائر والقطاع السيبراني بوصفه سلاحاً، والمُسيّرات القتالية، وعسكرة الفضاء، ولتطوير الأسلحة والذخائر ولا يقتصر ذلك على التقليدية الفتاكة بأنواعها المتقدمة فقط، بل يشمل أنواعاً جديدة من الأسلحة النووية “التكتيكية” لتحاشي استخدام القنابل النووية الفتاكة التي يوجد منها مخزون استراتيجي كبير لدى الطرفين، فما تملكه الولايات المتحدة وروسيا وحدهما كفيل بتدمير الحياة على الكرة الأرضية عدة مرات حسب تصريحات لمسؤولين فيها.
وتتسابق الدول الكبرى المصنعة للأسلحة والذخائر على تسويق مخزونها من السلاح بأنواعه في دول العالم، لتكسب المال وتتابع تمويل إنتاج أجيال من الأسلحة المتطورة وتحديث واختراع وسائل القتل والتدمير فحين تمتلك الأحدث والأكثر تصبح الأقوى والأغنى والأكثر فتكاً وإرعاباً وإرهاباً. ومن البدهي أن رواج البضاعة يستدعي كثرة الأسواق وحيويتها والشطارة في فنون التجارة.. وهذا يعني أن عليها إيجاد بؤر التوتر وتفجير المزروع منها بانتظار التفجير، وإذكاء صراعات وأزمات، والاستثمار في الفتن الدامية، وتغذية الحروب واستنفار مَن يخوضها أصالة أو وكالة، والشعوب والبلدان هي الميادين والأدوات والمقاتلين والمقتولين.
إن الكبار يشعلون نار الحرب في بلدان وبين بلدان فيتسابق المتقاتلون على شراء السلاح وهم يبيعون لهم بالجملة والمفرَّق، نقداً أو دَيناً.. ولا يعنيهم أن يتسببوا في نزف الدم وإزهاق الأرواح وإحداث المجاعات والجائحات وإفقار مئات الملايين من البشر.. فالاستثمار في الموت مربح والربح فوق القيم والمبادئ، وتطوير الإنتاج التدميري ضرورة حيوية للمغالبة والسيطرة على العالم؟!..
ونتيجة لذلك أو من بعض نتائجه انتشار منظمات المرتزقة، والدول المرتزقة التي تحمي لقاء مقابل، وتقتل لقاء مقابل، وتستعمر لقاء مقابل.. فهي تخلق الظروف الملائمة بسياسات وعبر أجهزة ومرتبطين وعملاء، وتستغل الأوضاع الداخلية لبلدان وأنظمة حكم، فتدعم أطرافاً في صراعات وحروب ومتحاربين، وتسيطر على أنظمة حكم بعد أن تدعمها وتدفعها إلى الغرق في المستنقعات الضحلة ثم تلوح لها بالتخلي عنها فتزحف بين يديها طالبة العون والرحمة وتستجديها أن تَستَعمرها تحت غلالة استدعاء وصداقة.. وبذلك تنقلب المفاهيم والقيم وتتخلى دول وشعوب عن الحرية والاستقلال والتحرير ومحاربة الاحتلال والاستعمار، وتنقلب مواقفها وتاريخها ورؤاها وقيمها ومفاهيمها رأساً على عقب.
إن الكبار يشعلون نار الحرب في بلدان وبين بلدان فيتسابق المتقاتلون على شراء السلاح وهم يبيعون لهم بالجملة والمفرَّق، نقداً أو دَيناً.. ولا يعنيهم أن يتسببوا في نزف الدم وإزهاق الأرواح وإحداث المجاعات والجائحات وإفقار مئات الملايين من البشر.. فالاستثمار في الموت مربح والربح فوق القيم والمبادئ،
هكذا يعبث كبار عالمنا وأقوياؤه مِن ورثة الحرب العالمية الثانية ونتائجها وتطوراتها بالدول والشعوب الضعيفة والمستضعفة، ويستثمرون في تجارة الدم والموت، ويغرِقون البشر في الكراهية والحقد المقت والبؤس والكوارث.. ولا ينسون الشطارة واللياقة في عصر “حضارة قتل الحضارة وقيمها”، فيتلفع كل منهم بأثواب الأخيار ويفتحون سوقاً موازية لسوق السلاح والتجارة بالدم والموت والبؤس، يفتحون سوق الكلام عن الأمن والسلم العالميين وعن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، وعن المساعدات الخيرية والممرات الإنسانية.. ويملؤون العالم صخباً.. بينما سواقي الدم البشري الذي يريقونه أو يتسببون في إراقته واستمرار نزيفه تجري بلا انقطاع.
إن استقراء تاريخ الحربين العالمتين الأولى والثانية، والحروب ما بينهما، باردة وحارقة، والأقرب من ذلك والأبعد لا يشير إلى أن التجارب المأساوية التي حدثت قد أنتجت نبذاً لهذا السلوك وردعاً عقلانياً ووجدانياً لكل من يسلكه، ولا إلى أن ذلك أدى إلى تغيير عميق في التفكير والتدبير سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً وإنسانياً.. فقساة القلوب وتجار الحروب الذين كلَّفوا البشرية ويكلفونها عشرات ملايين الضحايا في الحروب والصراعات الدامية والفِتن المدمرة ما زالوا يمارسون تجارتهم تلك بجشع، ويتقدمون في أساليب الخداع والمكر ويكذبون ويموهون ويضللون، وهم يمتلكون اليوم قدرة على تسويغ ما يفعلون عبر الدعاية ووسائل الإعلام والاتصال والتواصل بأشكالها..
ويصل بعض مجرمي الحرب إلى حدود إقناع أنفسهم والناس من حولهم بأنهم رسل الزمن الذين اختارهم الله للإنقاذ.. ولذا يرخص بعيونهم الدم البشري ويرون إراقته واجباً على مذابح الرسالة التي يتوهمون أنهم مكلفون بها.. ومن أكبر مصائب الناس أن تراهم في هذا البؤس يركضون دولاً وشعوباً بين أيدي الطغاة وتجار الحروب والسلاح والدماء طالبين الرعاية والحماية وأن يُعطوا ما يتقاتلون به وما يدمرون به أنفسهم وبلدانهم وقيمهم وإنسانيتهم.
ولله سبحانه وتعالى في خلقه شؤون وشؤون.
المصدر: عربي21