عندما تهُبّ نسائم الخشوع!
بقلم أ.د.فؤاد البنا (خاص بالمنتدى)
هبّت ذات يوم طيب نسمة من نسائم الخشوع الحقيقي على أنحاء قلبي وأنا أصلي المغرب؛ فتذوقت حلاوة آيات القرآن بصورة أذهلتني، والعجيب أني كنت أقرأ مقطعاً قد قرأته مئات المرات، لكني أحسست هذه المرة كأنه قد انسكب أول مرة على قلبي، فقد لوّعني وعدُ الله الكريم وغمرني شلال رحمته المتدفق، وروّعني وعيدُه المرعب وهزّني الشعور بجلاله العظيم!
لقد أحسست بعظمة الله وهي تكتنفني بلطف رغم ضآلتي وضعفي، وشعرت بمدى رأفته وهو يخاطب كائنا مثلي، وكيف أنه رغم ملكوته العظيم وغناه القطعي عني يحرص على دفعي نحو ما ينفعني في المعاش وما يسعدني في المعاد؛ وذلك من خلال ضربه للأمثال الباعثة على التفكر والاعتبار، واتخاذ أساليب بالغة التأثير في الترغيب بثمار الطاعة والترهيب من عواقب المعصية!
لقد حدث هذا لي كما لم يحدث من قبل وأنا أتلو هذه الآيات العجيبة، رغم تلاوتي لها مرارا وتكرارا من قبل، وكأن تلك النسائم قد هزّت جذع شجرة الخير الثاوية في ذاتي الترابية حينما نفخ في جسم أبي آدم من روحه، فأسقطت رطبا جَنياً بفضل الله تعالى؛ إذ استنبط عقلي معنى جديدا لم يتبادر إلى ذهني من قبل ولم أقرأه لغيري، واهتز وجداني طربا لثواب الله الكريم، وانتفض قلبي رعبا من عقابه الأليم، وأحسست حينها بانبجاس ينابيع الوجَل من بين حجارة القسوة، وبتخلص عيني من جمودها لتسيل دموعُ الشوق والخشية!
إن هذه المنحة الرحمانية التي أتت من غير ميعاد، قد أكدت لي بطريقة عملية أن أسباب عدم انفعالنا بالقرآن الكريم، إنما تكمن في ذواتنا الغافلة، ولا تقلل في حقيقة الأمر من عظمة القرآن الذي صاغه الله بطريقة معجزة، وما يؤكد هذا أنني عندما عدت لغفلتي لم تهزني تلك الآيات كما فعلت من قبل، وكأنها ليست ذات الآيات التي هزت أعماقي بالأمس القريب، فما الذي تغير؟ بالتأكيد لقد تغيرت أنا فتغير وقع القرآن على جوانحي!
ويشهد واقع الحال بأن عشرات الملايين من المسلمين في أصقاع الأرض يتلون القرآن باستمرار، لكن أثر القرآن على أغلبهم يتراوح بين الضعيف والمعدوم، ذلك أن النتائج من جنس المقدمات. إن هؤلاء يتلون القرآن لكنهم لا يتذوقون إعجازه المذهل، لا في البلاغة التي يتسم بها إلى حد الإبهار، ولا في الومضات المتصلة بعلوم الأنفس والآفاق التي أوردها كبراهين مستمرة على ربانيته وصدقه، ولا في كشوفاته الغيبية التي أفصح عنها، ولا يمتلئون بهداياته الكفيلة بتفجير طاقات المؤمن وجعله شديد الفعالية في مضمار صناعة الحياة، ولا يسيرون خلف تعاليمه التي تهدي للتي هي أقوم في كل مجالات العروج نحو أمة الشهود الحضاري!
ويعود السبب الجوهري في هذه الظاهرة السقيمة إلى أن التلاوة تتم في الأغلب الأعم من دون تطبيق المنهج القرآني في التعامل مع القرآن، وجوهر هذا المنهج هو التدبر بشقيه:
الأول: الشق المعرفي الذي يُحل الآيات في مدارك العقل فتزيده معرفة ووعيا بدينه وواقعه وبسنن الله الفاعلة في أرضه.
الثاني: الشق الوجداني الذي يوطّن الآيات في شغاف القلب، فتنبعث منها المشاعر التي تزيده إحساسا بحضور الله معه في كل ساعات وقته وظروف حياته، بكل ما له سبحانه من جلال وجمال وبما يمتلك من ثواب وعقاب يعجز منتهى الخيال عن إدراك أبسط مستوياتهما.
ومن هنا فقد وجدنا القرآن الكريم يحث في عشرات الآيات على أهمية التدبر، بأساليب وصيغ وعبارات مختلفة، ونكتفي في هذا المقام بالتذكير بأن الله نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن التعجل في قراءة القرآن وهو أعظم وأذكى رجل أنجبته البشرية، فقد قال له تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيُه وقل ربي زدني علما}. فكأن الله يقول بأن طريق الاستزادة من العلم الشامل هو تدبر القرآن، وإناء التدبر هو التأمل المتأني بعيدا عن العجلة؛ ذلك أن التلاوة السريعة لا تسمح لمدارك العقل وشغاف القلب بالاستقاء من الطاقة المعرفية والشعورية الثاوية في الآيات.
وهكذا فإن الاستزادة المعرفية والوجدانية تحتاج إلى تدبر يوطن كلام الله في الجوانح حتى تتولد الأفكار النافعة في العقل وتنبعث أحاسيس الخشية من الوجدان، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: {وقل ربي زدني علما} في مقام النهي عن التعجل بقراءة القرآن، فالعلم هو معرفة تنير العقل وخشية تعمر القلب في آن واحد، ولقد قال سلفنا الصالح: “إنما العلم الخشية”.