عن امرأة هزمت التعب .. بقلم “لمى خاطر -فك الله أسرها-“
هي ليست شخصية ذائعة الصيت في أوساط الإعلام أو السياسة أو الفن، ولم تصنف يوماً ضمن لائحة النساء الأكثر تأثيراً في العالم، ولم تتناول الصحف الغربية اسمها كشخصية نسائية لامعة، ولم تكن أضواء الشهرة تلاحقها حيثما حلت، لكن مبعث نورها وعطر أثرها كانا مختلفين، وموردهما متصل بمعانٍ سماوية فذة، وسرّ حضورها كان مستمداً من وحي ما كابدت طيلة حياتها، ومع أبنائها التسعة، وبناتها الأربع، الذين كان لكل واحد منهم حكاية مع البطولة، جهاداً أو أسراً أو شهادة، ثم ما لبثت أن امتدت إلى الأحفاد.
إنها الحاجة صبحية القواسمي (أم حسن)، من مدينة الخليل في فلسطين، التي توفيت قبل بضعة أيام، بعد اشتداد المرض عليها، بعد أن أمهلها حتى تمكنت من رؤية أحد أبنائها إذ تحرر من سجون الاحتلال، ثم فاضت روحها إلى بارئها في اليوم التالي لخروجه من السجن.
حكاية عائلة أم حسن معروفة لدى أهل الجهاد وجمهور المقاومة في فلسطين، فهي تنتمي لعائلة عريقة في التضحية، أما أسرتها المكونة منها وزوجها وأبناؤها وبناتها، فلها نصيب وافر من العطاء والجهاد ومكابدة المحن المختلفة على مدى أعوام طويلة، فقد استشهد لها اثنان من الأبناء، وهدم بيتها وبعض بيوت أبنائها عدة مرات، ولها عدة أبناء في سجون الاحتلال، بعضهم يقضي أحكاماً عالية، ومرّ عليها وقت كان فيه أبناؤها التسعة داخل السجن، ولم يحدث أن اجتمعت بهم كلهم في وقت واحد، فيما هم موزعون بين الأسر والشهادة والإبعاد.
لكن أم حسن لم تقابل أي محنة بالشكوى والتذمر ونفاد الصبر، وكنت كلما رأيتها أجدها مستبشرة وشاكرة الله وراضية بقدره، فقد اعتادت العطاء بقدر ما عظُمت في نفسها معاني الصبر والجلد والرضا، وهي على هذا الحال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني كان بعض بنيها في طليعة من يتقدم الدرب غير هياب من فداحة ضريبته، حتى بعد كل سنوات السجن التي أكلت من أعمارهم واستقرارهم.
ليست أم حسن مثالاً وحيداً للعطاء، أو رمزاً منفرداً في رساليته العالية، فمثلها نماذج نسائية كثيرة في فلسطين، وبعضها لا يعلم إلا الله بصنيعها وحسن صبرها وإعدادها أبناءها ليكونوا مجاهدين، لكن كل واحدة منهن تحتاج احتفاءً خاصاً حين يدهمها خطب، أو حين تودّع الدنيا تاركة أثرها ودروس حياتها وبذلها وصمودها، فهؤلاء مصانع الرجال الأولى، وفيهن تتشكل معالم نفسيات الرجال، فإما أن يشبوا على الرجولة، أو يظلوا عبيداً راتعين في لجة المذلة واستطابة الهوان.
وحين نفتش عن النساء اللاتي يقفن في محيط الرجال العظماء ستدهشنا نوعياتهن، وخصائص نفوسهن، ومدى إدراكهن لمتطلبات الغايات الرسالية، لذلك فإن أقل الواجب أن نسرج من حولهن القناديل، ليهتدي بنورهن الفياض رجال ونساء لم يفقهوا من معاني الحياة غير الدوران حول الذات وتحري السلامة الشخصية واستثقال التضحية والتهيب من الوقوف في بؤرة الفعل ومركز الإقدام.
رحلت أم حسن، وكان رحيلها المحفوف بالرضا والصبر، والوصية بأن يلف نعشها في الراية ذاتها التي لف بها نعش ابنها الشهيد مراد، كان هذا الرحيل مدرسة، كما كانت حياتها في ظل راية لم تنكّس مدرسة أخرى، غير أن الرحيل يقول دائماً أشياء إضافية، غير ذلك الحزن الذي يظلل أهداب من تلمسوا بركة حضورها في حياتهم، منها أن التعب كله إلى زوال، والمشقة في الدنيا إلى انتهاء، وأن ما يبقى طيب الأثر والأجر الأخروي وعطر السيرة الناصعة التي كان عنوانها هزيمة التعب ومجالدة الألم والاستظلال الدائم بلواء التضحية.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)