عن «الاستبداد» قرأت
بقلم د. خالد سعد النجار
المستبد والمستبد به .. ركني الاستبداد على مر الزمان والمكان والعصور والدهور، فلا يجود مستبد إلا وله بيئة من شعب يألف العبودية ويستسيغ مرارة طعمها، قال تعالى: { {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} } [الزخرف:54]، فالشعوب المغيبة هي الحاضنة للاستبداد، الذي ينمو كشجرة خبيثة تتشعب جذورها فتخنق أرض العدالة، وتمتد أغصانها فتعكر سماء الحرية، وكتابات المفكرين عن الاستبداد لا تخرج بأي حالي عن ركني الاستبداد، فإما تحليل لرأس الاستبداد أو تشريح لطبيعة شعبه، ومن أروع من تناول هذه الظاهرة في عالمنا العربي والإسلامي (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، والمفكر الفرنسي (أتييان بواسييه) في كتابه «العبودية الطوعية» يقول الكواكبي: ** المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه أنه كان إنسانا فصار إلها ** الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرا أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المرتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طبعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا، ولهذا لابد من أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤما وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه. بناء عليه فالمستبد، وهو من لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه، لا يأمن على بابه إلا من لا يثق به أنه أظلم منه للناس وأبعد منه عن أعدائه والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الأمة. ** الأكابر حريصون على أن يبقى الاستبداد مطلقا لتبقى أيديهم مطلقة في الأموال ** المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين، والأمة –أي أمة كانت- ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والاهتداء والثبات، حتى إذا ما اكفهرت سماء عقول بنيها قيض الله لها من جمعهم الكبير أفرادا كبار النفوس، قادة أبرارا، يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم، حيث يكون الله جعل في ذلك لذتهم، ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلقهم، كما خلق رجال عهد الاستبداد فساقا فجارا، مهالكهم الشهوات والمثالب. فسبحان الذي يختار من يشاء لما يشاء وهو الخلاق العظيم ** الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال! ** إن الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضة لسلب المستبد وأعوانه وعماله غصبا، أو بحجة باطلة، وعرضة أيضا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظل أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يحصل إلا بالمشقة فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم الأمن على الانتفاع بالثمرة. حفظ المال في عهد الإدارة المستبدة أصعب من كسبه، لأن ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتظاهر بالفقر والفاقة، ولهذا ورد في أمثال الأسراء: أن حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأن أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكام ولا يعرفونه. ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضا قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة ونذالة، خوف البغاث من العقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلا عن الإنكار، كأنهم يتوهمون أن داخل رؤوسهم جواسيس عليهم، وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم فعلا رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان رضاؤه. ويقول الكاتب والمفكر الفرنسي (أتييان بواسييه) في كتابه «العبودية الطوعية»: عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد ويظهر فيه ما يسمى المواطن المستقر وتنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء. الدين: لا علاقة له بالحق والعدل وإنما هو مجرد أداء للطقوس واستيفاء للشكل فالذين يمارسون الكذب والنفاق والرشوة يحسون بالذنب فقط إذا فاتتهم إحدى الصلوات وهذا المواطن لا يدافع عن دينه إلا إذا تأكد أنه لن يصيبه أذى من ذلك. لقمة العيش: هي الركن الثاني لحياة المواطن المستقر فهو لا يعبأ إطلاقا بحقوقه السياسية ويعمل فقط من أجل تربية أطفاله حتى يزوج البنات ويشغل الأولاد. كرة القدم: تنسيه همومه وتحقق له العدالة التي فقدها فخلال 90 دقيقة تخضع هذه اللعبة لقواعد واضحة عادلة تطبق على الجميع. المواطن المستقر هو العائق الحقيقي أمام كل تقدم ممكن ولن يتحقق التغيير إلا عندما يخرج هذا المواطن من عالمه الضيق !! وأخيرا، يقول الشيخ عبد العزيز الطريفي حفظه الله يصعد الظالم على سُلّم الظلم، فلا تحزن لارتفاعه فله خطوة على غير عتب قال تعالى: { {أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً} }
(المصدر: طريق الإسلام)