مقالاتمقالات مختارة

عماد الدين زنكي.. مؤسس مشروع تحرير القدس

عماد الدين زنكي.. مؤسس مشروع تحرير القدس

بقلم وداد زارعي

في الوقت الذي كان فيه الاجتياح الصليبي بالغًا ذروته كان العالم الإسلامي يتخبط في انكساره وعجزه، باحثًا عن بصيص أمل لينقذ به ما وقع منه في أيدي الإفرنج. كان المسلمون يبحثون عن زعيم قوي يلملم شتاتهم ويجمع صفهم تحت راية التوحيد، فأرض المسلمين الخصبة قد أنجبت من رحمها أبطالاً عظماء لم ينقطع نسلهم بل استمرّ يقدّم قادةً تلو قادة، فكان لابدّ لهم من أن يظهروا و يعيدوا للإسلام عزته. وعندما اشتدّ سواد الليل وأطبق اليأس على المسلمين وخيّمت غيمة الاستكانة عليهم، عندها فقط بزغزت شمس الأمل من وراء سحاب اليأس، ودبّت الحياة من جديد في أوصال المشرق الإسلامي وتوحدت الهمم والتف الجميع حول القائد الجديد الذي يحمل مشعل النصر والعزّة، ويبشر بفجر جديد من القوّة ليمهّد الطريق للأجيال التالية لتسير على دربه حاملة لواء النصر والذود عن الإسلام؛ هذا البطل هو “عماد الدين زنكي”.

وإنه لمن الإجحاف أن نشيد بتحرير صلاح الدين الأيوبي للقدس دون أن نذكر ما قام به الجيل الأول بقيادة عماد الدين زنكي، كيف لا وهو الذي أسس لمشروع التحرير ووضع لبناته الأولى ومن بعده ابنه نور الدين زنكي. ولد عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان عام 477 هجري، وقد كان أبوه مقربًا من السلطان السلجوقي “ملكشاه” حيث ولاّه حلب وكانت مهد طفولته، وقد ترعرع فيها على يد أبيه ونهل من أخلاقه الحميدة و شجاعته ما ساعده على لمعان نجمه كسياسي بارع و قائد مِقدام. وقد كان للدور الذي لعبه أبوه آق سنقر آل ترغان في خدمة السلاطين السلاجقة دور هام في تدعيم مكانة عماد الدين زنكي لديهم، حيث تولى أمير الموصل “كربوقا” آنذاك تربيته بعد وفاة أبيه وظل ملازمًا له إلى أن توفي الأمير سنة 495 هجري.

وبقي عماد الدين يتلقى الرعاية من مماليك السلطان السلجوقي بالموصل، وقد جمعته بهم علاقات وطيدة، وقد بدأت علامات الشجاعة والبسالة تظهر عليه عندما شارك “مودود” (الوالي الجديد للموصل) عدّة معارك وملاحم ضدّ الصليبيين في الشام. وبعد أنْ قُتل مودود التحق عماد الدين زنكي بالأمير آق سنقر البرسقي، الذيّ وجهه السلطان السلجوقي محمد لقتال الصليبيين؛ فشارك معه في القتال في كل من الرها و سميساط و سروج، ونظرًا لما عرف عنه من بسالة وشجاعة وحسن تخطيط وتدبير فقد وليّ زنكي إدارة إمارة واسط والبصرة وأظهر مقدرة عسكرية وسياسية لا تخلو من سداد رأي، وهذا مما رفع من مكانته لدى رجالات الدولة.

وفي سنة 521 هجري / 1127م عُيّنَ عماد الدين زنكي واليًا على الموصل، وقد كان لهذا التعيين أثره في إرساء حجر الجهاد في المشرق الإسلامي، حيث تم غرس بذرة الوحدة بين المسلمين. لقد كان عماد الدين زنكي يشعر بمسؤلية كبيرة كمسلم، سواء في سياسته وعلاقاته العامة أو في سلوكه الشخصيّ، إذْ أنه كرّس حياته وطاقاته في سبيل الجهاد ضدّ الصليبيين واعتبر نفسه قائد المسلمين الأوّل للوقوف بوجه الخطر الذي يحدق بالعالم الإسلامي. ومن المسؤوليات التي تحملها عماد الدين ضبط إمارته وإرساء نظم تحفظ أمن وسلامة الموصل وحلب وتوطيد دعائمها، وتعزيز مكانتها العسكرية والاقتصادية، وتوحيد الإمارات الصغيرة المتفرقة تحت لوائه، وذلك تهيئة منه للعالم الإسلامي لخوض غمار حرب تهز معاقل الصليبيين.

وفي كل يوم يمرّ كان العرب المسلمون يزدادون حقدًا و نفورًا من تلك الأقوام الغربية التي جاءت من وراء البحر، جاءت لتوطن على جزء مقدس من أراضي المسلمين إمبراطورية صليبية! إمبراطورية اتخذت لها شعارا وهدفا وهو القضاء على الدين الإسلامي! ولعّل ما يقض مضاجع الصليبيين أكثر من أيّ أمر آخر هو أنّ منْ تصدى لهم في ذلك الآن وقاتلهم بشراسة وعنف هم جيل الشباب الذين ولدوا وشبّوا بعد استقرار الكيان الصليبي في بلاد الشام؛ فكأنّ الأم العربية كانت ترضع ولدها مع لبنها الكره والحقد لكلّ فرنجي صليبيٍّ دخيل، وأن الوصية الوحيدة التي يتركها العربي لأبنائه بعد وفاته هي قتال الصليبيين وتحرير أراضي المسلمين من نجسهم.

ومن ذاك الجيل الشاب الفتيّ برز عماد الدين زنكي الذي استطاع أن يحقق قسطًا كبيرًا من أهدافه التي رسمها، واستطاع أن يؤسس لنفسه مكانة خاصةً في التاريخ كسياسيٍّ بارع و عسكريٍّ متمكن ومسلم واعٍ أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي؛ وانطلاقًا من ذلك كله قضى عماد الدين على عوامل التجزئة و الانقسام، وجمّع القوى، ووحّد المدن في نطاق دولة واحدة. وبعد انتهاء عماد الدين من مهمة التوحيد والتجميع قرر مباشرة مداهمة المواقع الصليبية، مستهدفًا أقربها وأخطرها على كيانه السياسي بحلب، وقد تمكن في سنة 529 هجري من تحقيق انتصارات جديدة في بلاد الشّام؛ فاستولى على خمس مواقع صليبية كانت تمثّل خط دفاع يحمي” أنطاكية ” باعتبارها إحدى أهم الإمارات الفرنجية.

وبعد الإنتهاء من ذلك تولى عماد الدين زنكي عبء إسقاط إمارة ” الرّها “، وهي أول المعاقل الصليبية في بلاد الشام، وقد مثلت خط الدفاع الأول عن بقية الإمارات بالمشرق الإسلامي؛ فقد ساعدت وفرة ثروات ” الرّها ” على توسيع رقعة الصليبيين وشكلت خطرًا كبيرًا على المواصلات الإسلامية بين حلب والموصل وبغداد، وكانت عائقًا حال دون قيام الوحدة الإسلامية، وهو ما دفع عماد الدين إلى ضرورة إعادتها إلى الإمارات الإسلامية.

فوضع عماد الدين لفتح “الرها” خطّة محكمة استدرج بها أمير “الرها”، وفي 26 جمادي من سنة 539 هجري وبعد مرور 28 يوم من الحصار اجتاحت قوات المسلمين المدينة فاستسلمت القلعة بعد يومين من اجتياحها، وسُلّمت “الرّها” لعماد الدين زنكي، وقد رتّب هو بنفسه من رآه أهلاً لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها، ووعد أهلها بإجمال السيرة و بسط العدالة. لقد عمل عماد الدين زنكي على توحيد الجبهة الإسلامية بفضل اللّه ثم بفضل خططه السياسية البارعة وقدرته العسكرية وفطنته، إذ أنه لم يقد أي معركة ضدّ الصليبيين قبل أن يثبت أقدام إمارته الجديدة، وقد كان فتح الرها من أهم أعماله؛ فارتفع شأنه بذلك النصر إلى حدّ بعيد، إذن أن ذلك النصر جعله المدافع الأول عن الديّن، فدارت في المحافل الإسلامية أحاديث تمحورت حول شخصيته، تصور مدى الإعجاب والتقدير الذي حصّله إثر تحقيقه هذا النصر.

وقد مهد عماد الدين بانتصاراته وبذله الطريق لابنه نور الدين زنكي وللقائد صلاح الدين الأيوبي لتحقيق مزيد النصر وحمل المشعل من بعده. وفي ليلة الخامس من ربيع الآخر عام 541 هجري وعندما كان عماد الدين يحاصر قلعة “جعبر” تم اغتياله على يد أحد حراسه مدفوعًا بعدّة أهداف! فأمسى رحمه الله وقد خانه الأمل، وأدركه الأجل.. فأي نجم للإسلام قد أفل! وأي ناصر للإيمان قد رحل!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى