مقالاتمقالات مختارة

عمائمُ البلاط

بقلم عبد الرحمن الجندي – مدونات الجزيرة

إن الإنسانَ بفطرته يعلمُ أن الأرضَ ليست المستقر، وإنما هو فيها بإرادة ربِ آدم وحواء، ومستقرهُ الحقيقي الجنة إن قصد بفعلهِ الصواب ومصيرُه النارُ إن ظلَ في سكرتِهِ واتبعَ هواهُ وتجاهلَ ما أمرهُ الدينُ.. فإن كان الأنبياءُ والرُسلُ هم مصدر الدين، فإن العُلماء هم ورثة الدين وحملته، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم “العلماءُ ورثةُ الأنبياء” لذلكَ كان شأن العلماءِ عظيمًا لأنهم المنوطون بحفظِ دين الله في الأرض، وتطبيقِ ما أمرهُ الخالِقُ وإيضاحُ ما استشكل على العِبادِ فِهمُهُ ببصيرتهم، وتنويرِ البشرِ ليسيروا على الصراطِ القويم، هذا لأنهم أجلُ من يخافون الله “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”، ولما كانَ هذا المنصبِ مخولًا من الله عزوجل بحملِ الأمانةِ بعد الرُسل، فإن ابن عساكرٍ يقول في كتابهِ تبيين كذبِ المفتري “أن لُحومَ العُلمَاءِ مسمُومَةٌ، وعادَةُ الله في هتك أستَارِ مُنتَقِصِيهم معلومةٌ، فإن من أطلقَ لِسَانَه فِي العلماء بالثلبِ، ابتلاهُ الله تعالى قبل موتِهِ بموتِ القلبِ، فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبَهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم”.

ولما كانَ هذا موطِنَ العُلماء، استشرت في النفوسِ منهم غبطة، وصارت ملابسهم قبلة.. والحديثُ بلسانهم حرفة، يحلو في بلاطِ السلاطينِ ويزهو في منابرِ الحُكامِ، الكُلُ يريدُ نُفوذَهم، ويَحسِدُ وجودهم ويسعى إلى مزاحمتهم دون التحلي بصفاتِ العلماءِ ولا مناقبهم ولا يحمل قضاياهم، فهو أعرجٌ في العلمِ وإن كان سباقًا؛ لأنهُ أولُ من قال الله فيهم “كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” وأولُ من يشهدُ الزُورَ وهو الذي يقرأ في صلاتهِ“فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ” وهوَ الذاكِرُ والمرددُ دائمًا أن العالِمَ موقِف ولم يقف للحقِ موقفًا ولم تثُر ثورتهُ إلا لزعيمٍ أو لقائد أو لسلطانٍ أو لملك.

لم تخلُ الأمةُ من شيوخٍ داهنوا السلاطينَ وأحبوا مسايرتهم؛ فقاضي القُضاةِ حينما دعا للاجين -سُلطان المماليكِ- بطول العُمرِ لم يكن يخفى عليهِ أنه قاتلُ سابقِه؛ ما دعى لاجين ذاتهُ لسؤالهِ: “ألم يُشرِع الدينُ أن القاتِلَ يُقتَل”، فتبعها قاضي القُضاة بإنا لله وإنا إليه راجعون! ليُسلِمَ لاجين رُوحَهُ بين يدي قاضيه بعدها بدقائق ويُذعن القاضي بالولاءِ لكرجي القاتِلِ الجديد أو السُلطانِ الجديد.

وشيخُ الأزهرِ الذي أفتى لعبدالناصر بأن الصُلحَ مع إسرائيلَ حرامٌ كان هو الذي أفتى للساداتِ بحلِ معاهدةِ السلام .. وبينَ الإمامِ الذي صعد على المنبرِ ونادى بنبوءةِ رئيسٍ ووزيرِ داخليته، إلى إمامِ مسجدٍ غازل الملك فؤاد وطه حُسين في صلاة الجمعةِ قائلًا: لم يعبَس ولم يتولى أن جاءهُ الأعمى معظمًا جلالة الملك وهازئًا برسول الله مرورًا بالعديد ممن باركوا البلاطَ بعمائمهم في العصرِ الحديث، والدُعاءُ بفضل قناة السويس عند الله، وعذابُ من لم ينزل إلى انتخاباتِ رئاسة مصر أو مجلس نوابها، وأيضًا من بارَكُ الفُرقةُ والتشتت من العُلماء بالدعاءِ لرئيسٍ أو سلطانٍ أو ملك، وآخر يدعوا بطيبِ الأيامِ على جميعِ الأمةِ إلا الشِعبِ الذين يدينُ بنفسِ الدين، إلا أنهُ نُبِذَ لخلافاتٍ لم يكُن العالِمُ الجليل ليعرفها أو أنهُ عرِفها وأصرَ على تجاهُلها، يبتغي إطالةً في عمامتهِ أو قُربًا من البلاطِ في القصر ولا شئ آخر.

وليسَ العالِمُ كغيرهِ من البشر، فزلةُ العالمِ قد تُعتبَرُ فتوى يؤخذُ بها في منازِلِ القضاء، وإن لم يحسبُ العالمِ نفسه بقدرِها فلا يلفظها؛ فقد جُذبتِ يدُ الإمامِ مالك حتى انخلع كتِفُه، وضُرِبَ بالسوط لفتوى قالها ولم يرجِع عنها بين يدي أبو جعفر المنصور، وفي فتنةِ خلقِ القرآن لم ينطق ابن حنبل بالموافقة، على الرُغم من أنهُ كان في حضرةِ المأمون؛ وقضى نحبًا في السِجنِ وعُذِبَ حتى يلين، حتى قيلَ له “إلا من أُكرِه وقلبُهُ مطمئنٌ بالإيمان” إلا أنهُ لم يستكِن ولم ينطِق إلا بما قنعت نفسه ودان قلبُه، فحفظَ الله الدينَ على يدِه وبقي الناسُ إلى اليومِ ينادون بأن كلامَ الله مُنزَلٌ وليس بمخلوق وعُرِفَ بحفظِ السُنة رحمه الله!

جُلِدَ الإمامُ أبوحنيفةَ أكثر من مائةِ جلدةٍ لتورعهِ عن منصبِ القاضي وسُجِنَ مرةً أخرى لرفضهِ نفسَ المنصب فكانَ رحمهُ الله عازفًا عن أمورِ الدُنيا كارهًا جِوَارَ السلاطين، وفرَ سفيانُ الثوري هربًا من منصبِ قاضي القُضاة، واعتذرَ الشافعيُ لهارون الرشيد، وهم أقدرُ العُلماءِ وإن لم يكثُرِ الخبثُ في رجالِ جيلهم كما هو الحالُ اليوم.

فإلى الله المَفر، إن كان من نَفِرّ إليهم لنورِ بصيرتهِم هم أكثرُ الناسِ ضلالًا وأكثرُ الخلقِ مداهنةً وخوفًا، ليسَ ثمةَ غضبٌ على العِبادِ من ربهم أكبرُ ولا أعظمُ من قبضِ العلماء، ذلك لأن الله لا ينزعُ العلمَ انتزاعًا ولكن ينزعهُ بقبضِ العُلماء .. فيا لسعدِ من عاصروا ابن حنبل، ويا لحظِ من عاصروا الشافعي ويالشؤم عصرِنا إن خلا إلا من عمائمِ البلاط وإلى الله المفرُ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى