بقلم د. محمد النمرات
لعله لا يخفى على متابع، ما تعج به أوساطنا الاجتماعية بما يصلح أن يطلق عليه “فوضى الاستدلال بالنصوص الدينية”، بحيث يصار – سريعاً – إلى استدعاء آية قرآنية أو حديث نبوي للتدليل على صحة فكرة يؤمن بها الشخص، أو رأي يتبناه، أو هوىً يستطيبه، دون النظر إلى السياق العام للتنزيل الحكيم، بل حتى دون أن يكلف نفسه عناء النظر في السياق الخاص الذي وردت فيه تلك الآية القرآنية التي يستدل بها.
وبداية، دعوني أشير إلى أن ثمة فرق شاسع بين منهجية الانطلاق في بناء الأفكار والآراء والتصورات من القرآن الكريم، وبين منهجية -أو قل لا منهجية- استعمال القرآن الكريم كمستودع للأدلة التي يصار إلى الرجوع إليه لانتقاء ما يلائم الأفكار والآراء والتصورات التي تم اعتناقها من الخارج من أجل أن يدعمها ويثبت صحتها.
أقول ذلك لأن غالب تلك الفوضى في الاستدلال مردها إلى المنهجية الثانية ومتأتية من أتباعها، وأنها المناخ الأكثر ملاءمة للهوى وحظ النفس الذي لا يأبه صاحبه -أو لا يتنبه إن أحسنا الظن- بما يمكن أن ينجم عن هذا النهج من إشكالات خطيرة، أبرزها نسبة التناقض والاختلاف -ضمناً- للقرآن الكريم.
ثمة فرق شاسع بين منهجية الانطلاق في بناء الأفكار والآراء والتصورات من القرآن الكريم، وبين منهجية -أو قل لا منهجية- استعمال القرآن الكريم كمستودع للأدلة التي يصار إلى الرجوع إليه لانتقاء ما يلائم الأفكار والآراء والتصورات التي تم اعتناقها من الخارج
ودعوني أقف في هذه العجالة مع مثالٍ واحدٍ على هذه الظاهرة المقلقة، وهو استدلال الناس على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الاهتمام بهداية الناس ومحاولة إصلاحهم، أقول استدلالهم على ذلك بقول الله تعالى:《يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ》 (المائدة:١٠٤ – ١٠٥)
والحقيقة أن الأمر لا يحتاج إلى عميق فكر وكثير تدبر حتى يظهر انحراف هذا الاستدلال -المنبثق عن سوء الفهم- عن جادة الصواب؛ فمن حيث السياق العام للتنزيل نقول بأن الخطاب القرآني ما فتئ يحث الناس -بأساليب متنوعة- على بذل كل جهد من أجل نشر النور وإصلاح الأفراد والمجتمعات ، قال تعالى:《كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ》 (آل عمران:110).
وقال تعالى:《قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ》(يوسف:108).
وقال تعالى:《وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ》(الأعراف:165).
ومن هنا فإنه من غير الممكن بعد تلك الآيات -وغيرها الكثير- أن تبرز آية في كتاب الله يخالف مضمونها هذه الآيات الكريمة، وإذا حدث أن توهمنا ذلك فإن مرد ذاك الاختلاف إلى سوء فهمنا لا إلى هذا الكتاب الحكيم.
أما من حيث السياق الخاص الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة، فقد جاءت في سياق إعابة الخطاب القرآني على المنهجية المنحرفة التي يتبعها المشركون، والتي تحول دون هدايتهم، ذاك أنهم رهنوا اختياراتهم -وبالتالي مصائرهم- بما كان عليه آباؤهم الأقدمون من أفكار ضالة وعقائد منحرفة، دون أن يتيحوا لأنفسهم فرصة التفكير والنظر، فكأنه قد كبر عليهم الإقرار بضلال آبائهم، وعز عليهم الإقرار ما يقتضيه ذلك من مصير، فراحوا يتمسكون بباطلهم، قال الله تعالى:《وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ》(المائدة:١٠٤)
وهنا تأتي الآية التالية مخاطبة المؤمنين، داعية إياهم إلى المنهجية السليمة التي يجب أن تتبع في اعتناق الأفكار والعقائد، ومفادها أن ينطلق الفرد في ذلك من قناعته الذاتية هو، مع التأكيد على أن ضلال الآباء الأقدمين لا يعد مسوغاً للوقوع بالضلال، كما أنه لا يضرّ المهتدين من أبنائهم:《يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ》 (المائدة: ١٠٥)
مفاد الآية التأكيد على أن ضلال الآباء الأقدمين لا يعد مسوغاً للوقوع بالضلال، كما أنه لا يضرّ المهتدين من أبنائهم
وهكذا يتبين بأن الآية الكريمة جاءت في سياق بيان المنهجية السليمة في تبني الأفكار والعقائد، وليس في سياق دعوة الآخرين أو عدم دعوتهم ، سيما أن الآية تتحدث عن ضلال أناس قد رحلوا عن الحياة ولا مجال -أصلاً- لبذل أي جهد لإخراجهم مما كانوا عليه من الضلال.
وأخيراً، فقد أشار أبو بكر الصديق إلى الفهم الخاطئ لهذه الآية، وبالتالي التوظيف الخاطئ لها حين قال: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:” إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ” (أخرجه الترمذي وأبو داود)، ومفاد كلامه – رضي الله عنه – أن هذه الآية لا يصلح الاستدلال بها على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(المصدر: موقع بصائر أونلاين)