(بقلم أ. مجاهد ديرانية -حفيد الشيخ علي الطنطاوي “رحمه الله”)
نشرت ذات يوم مقالة انتقدت فيها الجرائم التي يرتكبها غُلاةٌ يَنسبون أنفسهم إلى الجهاد، فعلّق أحدهم عليها قائلاً: لو كان جدك حياً لأنّبك وأدّبك على هذه المقالة! وكتب غيرُه تعليقاً على مقالة غيرها: لو قرأ جدك ما تكتبه عن المجاهدين لصفعك عشر صفعات! وفي بعض الأوقات سألني آخرون: ماذا كان رأي الشيخ علي الطنطاوي في الغلوّ والغلاة؟ لكل أولئك: هذا هو الجواب.
كان جدي -رحمه الله- من أكثر الناس بغضاً للتشدد والغلوّ وأشدّهم نفوراً من المتنطّعين والمتشددين، وقد قال في بعض كتبه: “لا يأتينا الضرر ولا يقع بيننا الخلاف إلاّ من أصحاب الغلوّ والتشدّد” (الذكريات ج5/195). وقال في موضع آخر: “من مداخل الشيطان الابتعاد عن قصد السبيل وترك أوساط الأمور والميل إلى جانبَيها والغلو في كل شيء. وفي الغلو الهلاك، كالماشي على القنطرة الضيقة، إنْ سارَ في وسطها سَلِمَ، وإن غلا في التيامُن أو التياسُر بلغ حافتها، فزلَّت به قدمه فسقط” (صور وخواطر: مقالة “يوم مع الشيطان”).
وكان ينهانا عن العزيمة في موضع الرخصة ويقاوم أي ميل إلى التشدد ولا يحب الإفراط في التطوع لدرجة الإثقال والإملال، ويرى ذلك كله من التنطع والغلو المَنهيّ عنه. وقد أرشدني مرة -وأنا شاب- إلى قراءة ما كتبه الشُرّاح في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري في الصحيح: “إن الدين يُسْرٌ، ولن يُشادّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة”، فوجدت عجباً من المعاني التي يغفل عنها كثير من المتدينين والمتعبّدين.
* * *
لمّا كنت طالباً في كلية الهندسة بجامعة الملك عبد العزيز في جدة كنت أذهب إلى مكة آخرَ الأسبوع فأمضي مع جدي يومَي الخميس والجمعة، وكنت أصوم يوم الخميس نفلاً في كثير من الأسابيع، ولم تكن المكيفات قد انتشرت في البيوت آنذاك (قبل أربعين سنة) فإذا اقترب الصيف وطال النهار واشتد الحر نهكني الصوم، فإذا رآني كذلك نهاني عنه وأرغمني على الفطر وقال: إنّ تعذيب النفس عمل مكروه غير محمود.
وسافرت مرة في رمضان صيفاً في سيارة ليس فيها تكييف، ولا أذكر أنني تعبت في عمري كما تعبت في تلك السفرة: عشر ساعات وريحُ الصحراء الحارة تلفح وجهي وبدني كلفح النار حتى تشقق جوفي من العطش، فلما وصلت إلى مكة وعرف ما صنعت لامني أشدّ اللوم وبالغ في الإنكار وقال: لقد عذّبت نفسك بلا طائل وتركت الأفضل وعملت بالمفضول، ولو فقهت لعلمت أن فطرك في مثل هذا السفر أحب إلى الله، فلا تصنع ذلك بعد اليوم. ثم كبرت وفقهت فلم أصنعه من بعد.
على أن ذلك لم يكن أهمَّ درس تلقيته منه رحمه الله؛ لقد جاء الدرس الأهمّ في يوم متأخر من شهر محرّم عام 1400، وكان درساً مرتبطاً بحادثة كبرى ختمت القرن الهجري المنصرم.
في فجر اليوم الأول من آخر سنوات القرن الهجري الرابع عشر دخل إلى الحرم المكي نحو مئتَي مسلّح، وقد أخفوا أسلحتهم في نعوش زعموا أنها لموتى أرادوا أن يُصلَّى عليهم في الحرم، فلما انقضت الصلاة أخرجوا الأسلحة وأوصدوا أبواب الحرم، وعلَوا المآذنَ والسطوح فقنصوا الحرّاس ورجال الأمن بالبواريد، ثم أعلنوا ظهور المهدي وأرغموا أهل الحرم على مبايعته.
استمرت فتنة جهيمان وأصحابه أربعة عشر يوماً بقي الحرم فيها مغلقاً، فلم يدخله أحد ولم يخرج منه إلا الأطفال والنساء، ثم انتهت أخيراً بعدما أُريقت فيها دماء بريئة وهزَّت العالم الإسلامي كله من أدناه إلى أقصاه.
* * *
في تلك الأيام كان من دأب لجنة التوعية الإسلامية في الجامعة أن تنظم محاضرة عامة مساء كل أربعاء، واتفق أن الضيف الذي دُعي لأولى المحاضرات بعد الحادثة كان هو الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله. ولما كنت أحد أعضاء لجنة التوعية فقد تطوعت لاصطحاب جدي بسيارتي من مكة إلى جدة، وخبّرني في الطريق أنه سيعلّق على الحادثة في أول المحاضرة، وكان رأيه في مرتكبيها شديداً حديداً صارماً قاسياً، فرجوته أن لا يفعل.
كنت يومها في الثانية والعشرين، ومَن كانت هذه سِنّه غلبت عاطفتُه عقلَه، فناقشته فقلت: لقد أخطأ القوم بلا ريب، لكنهم -فيما يظهر- ديّنون مخلصون، ألا نعتذر لهم بنيّتهم الصالحة؟ قال: الخوارج كانوا أصدق نيّةً وأكثر إخلاصاً، ولم ينقذهم الدين والإخلاص من أن يكون مآلهم إلى النار. إن من ارتكب مثل هذا الجرم الفظيع في الحرم لا يُعذَر، فإن ربنا لا يحاسب المرء على ما لم يفعله ويعفو عن نيّة السوء بفضله وكرمه، إلا في الحرم، فإن نيّة الأذى والظلم والعدوان فيه تستجلب غضب الله، لذلك قال في الآية الكريمة: {ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلم نُذِقْه من عذاب أليم}، فرتّب العذابَ على إرادة الإلحاد بالظلم لا عليه نفسه، والإلحاد هو استحلال ما حرّم الله من الظلم والقتل في الحرم، وهو كل شر وإيذاء وترويع لأهله الآمنين.
قلت أخيراً: أما أنا فقد اقتنعت، لكنْ هل أنت مضطر إلى إعلان رأيك على الناس؟ ألا يكفي أن تعرف الصواب ثم تسكت عنه؟ قال: لو سكتُّ أثمت، لأن الواجب على العالم ليس أن يَعلم فحسب، بل أن يُعْلم الناس بما علم. لو أني لم أبيّن ما أعلمه وأعتقده لكنت شيطاناً أخرس، وأنا لا أرضى أن أكون شيطاناً ناطقاً فضلاً عن أن أكون شيطاناً أخرس (كان ذلك من أهم المبادئ التي ثبت عليها علي الطنطاوي عمرَه كله، وقد تكرر هذا المعنى في أحاديثه وكتاباته ما لا يُحصى من المرات، عليه رحمة الله).
* * *
ربما أحبّ بعض القراء أن يعرفوا ما قاله في المحاضرة، ولئن كتبت حواري معه من الذاكرة (والذاكرة قد تبلَى مع الأيام) فإنني سأنقل كلامه عن مرتكبي جريمة الحرم بنصّه من الشريط الذي بقي عندي منذ ذلك اليوم، لكيلا أقوّله ما لم يقل أو أغيّر صفة وصف بها القوم.
بدأ المحاضرة باعتذار عن التأخير قائلاً: هؤلاء المجرمون الذين عملوا فتنة الحرم هم سبب تأخيري عنكم، فقد تسببوا في نصب حواجز وحراسات على الطرق التي بقيت دهراً آمنةً بلا حواجز ولا حراسات.
ثم قال: إنهم مجرمون في نظر الشرع لأنهم أراقوا الدم الحرام في البيت الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام، ليس في المسلمين اثنان يختلفان على أن ما قاموا به جريمة، مهما كان الدافع الذي دفعهم إلى الفعل الذي فعلوه. ربما أرادوا الخير، أنا لا أعرفهم ولا أعرف دوافعهم، لكنني أحكم على الفعل نفسه، وهو جريمة فظيعة ما كان يخطر في البال أن تقع، ولم يقع مثلها منذ أكثر من ألف سنة، من يوم احتلّ القرامطةُ الحرمَ وذبحوا الناس في المطاف. إن إزهاق النفس البشرية من غير وجه مشروع من الكبائر، بل إن إزهاق نفس مسلمة واحدة أكبرُ من هدم الكعبة كما بَيّنَ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تكلم عن حرمة الكعبة، لأن الكعبة لو هُدِمت تُبنَى، وقد هُدمت وبُنِيَت مرات، أما الروح التي تُزهَق فلا يقدر على إرجاعها إلاّ الله.
* * *
وبعد، لقد صرّح علي الطنطاوي بما اعتقدَه حقاً وإنْ خالف هوى بعض الناس، وأجزم أنه لو عاش إلى اليوم ورأى ما يصنعه الغلاة في سوريا باسم الجهاد لكان من أشدّ المنكرين عليهم وعلى جرائمهم، ولكان بيانُه فيهم أجلى وأقسى من كل ما كتبته أنا وكتبه غيري إلى اليوم.
إنّ الرجل الذي دعا قَتَلة المسلمين في الحرم “مجرمين” لن يتردد في استخدام الاسم نفسه لوصف من يعتدون في سوريا على الفصائل ويقاتلون المسلمين؛ لم تضلّله لحى القوم الأوّلين وشعاراتهم الإسلامية ولن تخدعه لحى الآخرين وشعاراتهم الإسلامية، وكما سمّى البغيَ الأول جريمة سوف يسمّي بهذه التسمية كلَّ بغيٍ جديد وكل عدوان.
على أنني ما كنت لأغيّر ما أنا عليه ولا كنت لأسكت عن جرائم الغلاة وأترك ذمّ الغلو ولو مدحه علي الطنطاوي (وما كان ليفعل) فإنّ أعظم ما تعلمته منه هو أن أحاكم الأمور بعقل مستقل وأن أزن الأفعال بميزان الشرع وأن لا أخاف إلا الله، فما عرفته حقاً قلته وما عرفته صواباً صنعته، لا أهاب الناس في الأولى ولا أجاملهم في الثانية، ولا أكون إمّعة أساير الناس في الخطأ كما أسايرهم في الصواب. وهو كان كذلك حياتَه كلها وعلى هذا الموقف لقي الله، عليه رحمة الله.