علمنة نهاية العالم!
بقلم علي حليتيم
هل يمكن أن نحلم بأن يأتي يوم يتحرر فيه العلم من الإيديولوجيات والمواقف المسبقة؟
لقد تحالف العالم منذ نشأته مع الأسطورة والخرافة ليعوض عن عجزه وقصوره، ويقدم للناس رؤية متكاملة للعالم تشبع رغبتهم في المعرفة، وتحقق تطلعهم الفطري لإدراك المعنى والغاية من وجودهم ووجود العالم.
ولقد تجلى ذلك التحالف في أوضح صوره في التراث اليوناني الحافل بالعلوم الرياضية والفلسفة والآداب، والمتخم بالأساطير عن الآلهة وصراعاتها التي لا تنتهي في آن معا.
غير أن ذلك العلم قد اتخذ موقفا مخالفا من الحقائق الغيبية حين يكون مصدرها الدين باعتبار العقائد الدينية معارف غير بشرية المصدر خلافا للخرافات والأساطير، وهو ما يعد شذوذا وموقفا غريبا من العلم، إذ يقبل هذه ويرد تلك.
وكان العلم في رؤيته للعالم يقول طوال تاريخه الطويل إن العالم سرمدي أزلي لا أول له ولا آخر، ولا بداية ولا نهاية، رافضا بذلك فكرة نهاية العالم الدينية رغم إقراره بوجود الخالق المحدث للكون والإنسان.
ثم جاءت الثورة العلمية الأوروبية لتكرس القطيعة بين العلم والدين، وترسخ في أذهان العلماء جملة من المفاهيم عن تلك العلاقة سرعان ما تحولت إلى موقف إيديولوجي من الدين يقضي بالرفض المبدئي لكل المعارف النظرية التي تتوافق مع الدين أو تؤدي إليه انتقاما من الكنيسة التي كانت تحرم الفكر والنظر والعلم والسؤال وتحرق العلماء بتهمة الكفر والهرطقة.
فلما طرحت في بدايات القرن الماضي أفكار توسع الكون وضرورة أن تكون له بداية ونهاية ونظرية الانفجار العظيم كان موقف السواد الأكبر من العلماء في أوروبا هو الرفض والإنكار لهذه النظريات التي تتوافق مع المعارف الدينية حول القيامة ونهاية العالم، ولو لم تفرض هذه الحقائق نفسها فرضا بقوة الحجة والبرهان (صور هابل، قوانين الحرارة، محدودية عمر الشمس….) لاستمر العلماء في رفضها إلى اليوم!
لكن علماء الغرب الذين أقروا ببداية العالم ونهايته لم يلتفتوا إلى الدين كمصدر للمعرفة حصل له السبق حول هذه القضية الغيبية، بل إنهم اتجهوا إلى علمنة نهاية العالم عبر نظريات مختلفة يجمع بينها مشترك واحد: نفي اليد الخارجية في تلك النهاية.
وتنقسم النظريات الغربية المقترحة لنهاية العالم عموما إلى ثلاثة أقسام، يرى أولها أن النهاية ستكون إثر اصطدام بنيزك أو مذنب بكوكبنا يأتي على الحياة الأرضية، كما حصل في الماضي، وقسم يحوي النظريات التي تقول إن النهاية ستكون على إثر زلازل وبراكين مدمرة يستندون في ذلك على الإحصائيات التي تبين ازدياد الزلازل في العقود الأخيرة، ويستندون إلى نبوءات قديمة تتحدث عن زلزال كبير قادم، وقسم ثالث وهو الأهم يقول “إن النهاية ستأتي من الفضاء الكبير حين تتغلب الجاذبية على قوة الدفع فتحطم الكون ويحدث الانكماش أو حين يفقد الكون حرارته، أو إذا أكلته الثقوب السوداء العظيمة”.
إن نظريات الجمود الكبير (big freeze) والانهيار الكبير (big crunch) وغيرها مليئة بالدروس حول الإنسان ورؤاه لنفسه وللكون؛ فهي تعني من جهة أن هذا الإنسان قد غدا مالكا لزمام العلم والمعرفة، وأن نهاية العالم قد غدت حقيقة علمية لا مراء فيها؛ لكنها تعني من جهة أخرى أن العلم الغربي مسكون بالإلحاد كموقف إيديولوجي يدفعه لرفض كل ما يقربه من الدين ولو على حساب نزاهته العلمية.
لقد دفعت حقيقة بداية الكون علماء الغرب إلى اقتراح نظرية الأكوان المتعددة (multi-vers) وهي نظرية أسطورة تقول “أن هذا الكون مكون من عدد لا حصر له من العوالم تماما مثلما يمتلئ برميل الخمر بعدد لا حصر له من الفقاعات، وأن العالم الذي نعيش فيه أحدها فقط ليبرروا – علميا- المقادير المضبوطة التي تسمح بالحياة على كوكبنا وفي مجرتنا، وينفون فكرة الصانع المقدِّر”. واقترحوا فكرة “ما قبل الانفجار الكبير” وهي أضحوكة بلهاء قال بها ستيفن هاوكينغ حاول من خلالها أن يوهم أن الكون قد خلق نفسه من العدم فقط لينفوا الخالق الموجِد واقترحوا الانفجار بعد الانهيار فقط ليعيدوا إحياء فكرة أزلية الكون.
ولا يوجد ميدان اختلط فيه العلم مع الأسطورة والخيال العلمي كما هو في النظرة الغربية لنهاية الكون لكنهم يصرون على أن يبقى الدين بعيدا عن كل ذلك!
لا أفسد للعلم من الموقف الإيديولوجي المسبق المخاصم للدين بسبب عداوة قديمة مع الكنيسة عممت إلى باقي الأديان وجرت إلى تطرف أضر بالدين والعلم جميعاً ولا يزال، ولا أفسد للعلم من علماء لا يدركون حدوده وقصوره فيعوضون ذلك العجز والقصور بأساطير يلبسونها لباس العلم وما هي من العلم في شيء.
إن العلم لا خطاب له ولا يصح من العلماء أن يتخذوا لهم مواقف متشنجة من الدين باسم ذلك العلم وإن المعرفة الإنسانية تقوم على العقل والعلم الذيْن إذا اجتمعا معا فإنهما يدركان أن هذا الكون أعظم من أن يكون قد وجد وحده وأعظم من أن يكون خلق بلا غاية ولا هدف.
لقد أفادت العقائد الدينية عموما والإسلامية خصوصا من الحقائق العلمية التي تقول بحتمية نهاية العالم لكن الغرب يتجه نحو علمنة هذه النهاية ويصر على القطيعة بين العلم والدين بل إنه يلجأ إلى الأساطير القديمة الأمريكية (قبائل الأنكا) والهندية لإشباع رغباته في معرفة تفاصيل تلك النهاية، ويصر في المقابل أن يبقى الدين بعيدا عن هذا الموضوع الذي هو من أخص خصائصه.
لقد قدمت الحضارة الإسلامية طوال أربعة عشر قرنا أنموذجا فريدا لأجيال كثيرة من العلماء في شتى ضروب المعارف بلغوا القمة في العلم وكانوا على الغاية من التدين والتقوى ولم يكونوا يعيشون الفصام النكد بين العلم والدين كما يعيشه علماء الغرب حتى إنه رسخ في أذهان الغربيين أنه لا علم إلا مع الإلحاد وهذه بحد ذاتها خرافة من الخرافات وحتى أن علماء الغرب ليقبلون بالترهات والأساطير (نظرية التطور، نظرية فرويد…) فقط لأنها تتصادم مع الدين وتناقض عقائده في الخلق والنشأة.
وما أحوج العالم اليوم إلى نظرية المعرفة الإسلامية التي تجمع في توازن جميل بين الوحي والعقل والعلوم، وتجعل من نهاية العالم بداية لحياة جديدة وموعدا مع الله يدفع الإنسان للصلاح والاستقامة.
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)