بقلم أحمد بن عبد المحسن العساف
@ahmalassaf
في أمتنا الإسلاميّة علماء أجلّاء، وأعلام أفذاذ، رفعوا راية العلم، والعمل، والدّعوة على بصيرة راشدة، وبوعي ثاقب يخلو من الثّغرات التي طالما نفذ منها المبطلون، فلبّسوا على الفضلاء؛ لنشر الإفك، وبثّ الأراجيف، وإشاعة الزّور، وما أحوج أهل الفقه والعلم إلى الحصانة والتّحرز؛ كي لا يسّخرهم المجرمون، ثم يسخروا منهم، خاصّة وقد تكاثرت القذائف، وخرج الصّيادون من كلّ جحر وطرف.
ومن الأمثلة المعاصرة على هؤلاء الرّجال الكبار، العالم العامل الشّيخ د. جعفر شيخ إدريس -شفاه الله وعافاه وأحسن لنا وله الختام-، وللشّيخ أجزل الله مثوبته إنتاج علمي ضخم، خلافًا للمعتاد من بعض مثقفي السّودان العزيز وعلمائه. ومع أنّ إرث د. جعفر العلمي قد صدر عبر عدّة كتب من مركز البيان للبحوث والدّراسات؛ إلّا أنّ قسمًا منه لايزال في شتات هنا وهناك.
ولذلك، تسامت همّة تلميذه البّار د. مبارك بن حمد الحامد الشّريف، وسعى إلى جمع ما تفرق من علم شيخه وبيانه الذي لم ينشر، وأصدر جهده في جزءين يقعان في (968) صفحة، بعنوان: جعفر شيخ إدريس: سيرته، مقالاته، محاضراته، بحوثه، وكانت طبعتهما الأولى عام 1439=2018م، عن دار كنوز إشبيليا للنّشر والتّوزيع، وبعض ما في هذا الكتاب يعود تاريخه إلى أربعة عقود مضت، وغالب الظّن أنّ مصير بعضه مهدّد بالاندثار لولا أن هيّأ الله له من يبعثه من مرقده.
ويتكون هذا الكتاب المتين بعد تصدير الشّيخ ومقدّمة الجامع، من ترجمة موجزة للدّكتور جعفر، ثمّ أكثر من عشرين حوارًا يظهر منها عمق د. إدريس، ووضوحه، وصلابته في الحقّ، ويحوي القسم الثالث أزيد من ستين مقالة ممّا لم ينشر في مجلة البيان.
وأمّا القسم الرّابع من هذا الكنز الثّمين، فيضمّ قريبًا من خمسين محاضرة، وهو قسم مجهد لصعوبة التّتبع، وقدم بعض التّسجيلات، ثم مشقة التّحويل من منطوق إلى مكتوب، بيد أنّ اجتهاد د. الشريف، ونيته-كما نحسبه- قد جعلت العسير يسيرًا، وانتهى الكتاب في القسم الخامس إلى حشد أكثر من عشرين بحثًا ودراسة وندوة.
وحتى يجعل د. مبارك الفائدة من الكتاب على أتمّ وجه، كسره على خمسة أصناف، هي الثّقافة الإسلاميّة والدعوة إلى الله، ثمّ الإسلام والفكر الغربي، فعلوم الدّين والعلوم الطبيعيّة، ثمّ نظرية المعرفة ومناهج التّفكير، وأخيرًا موضوعات متفرقة، وفي كلّ صنف يوجد مقالات وبحوث ومحاضرات، ويا باغي غرر الفوائد الغزيرة أقبل!
ومن خبر الشّيخ جعفر، أنّه جمع علمي الشّريعة والفلسفة، ودرس في جامعات عربيّة وأجنبيّة، وبعد ذلك درّس عند العرب وبين الغرب، وخالط علماء مسلمين وكافرين، وقرأ كثيرًا بلغتين، وهو بطيء القراءة؛ بيد أنه دقيق الفهم، بعيد الغور، وإذا قرأ كتابًا أساسيّاً كرّره كي تثبت معلوماته، وحججه.
وقد أفاد من الدّراسة والعمل في أوروبا وأمريكا معرفة واسعة بحضارتهم، وطرق تفكيرهم، وأسفرت له الدّيمقراطية عن قبائحها فلم يحفل بها، ولم يصبه شيء من سهام عشقها؛ إذ يراها فارغة من المضمون، وأيّ مزيّة في فكرة بدون محتوى! وأيّ فضيلة عند فكرة بان عوارها بمجرد أن أفاد منها المخالف لأمريكا وأوروبا! وفي معاينته للغرب غدا بصيرًا بتيار الإلحاد؛ ومقالاته وكتبه عن الإلحاد متميزة.
ويبدي د. جعفر إعجابًا بالغاً بابن تيميّة، وبالشّيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله، ويرى أنّ المعتزلة والأشاعرة الأوائل أصدق تدينًا من أدعياء العقل المعاصرين، وبحدب المؤمن يحذّر الطّلاب المسلمين المبتعثين للخارج، من أن يكونوا سببًا في تغريب مجتمعاتهم، أو يصبحوا قنطرة للعلمانيّة من حيث لا يشعرون، ومن مفاخر كليّة الدّعوة والإعلام بجامعة الإمام، أنّ الشّيخ جعفر، وصديقه الرّاحل الشّيخ زين العابدين الرّكابي، قد حاضرا فيها.
إنّ لأكابر الأمة واجبًا مغلّظًا في عنق طلّابهم وأبنائهم، ولا مناص من حفظ علومهم؛ كي لا يكون مصيرها كمذهب الليث بن سعد، وما أجدر الجامعات أو المراكز البحثيّة، بجمع الأعمال الكاملة لهؤلاء المؤثرين، كالشّيخ د. جعفر، والشّيخ صالح الحصين، وغيرهما، فالأعمال الكاملة تعطي صورة واضحة، وتحفظ تراث العالم، كما نراه جليّاً في أعمال ابن باديس، والخضر حسين، والبشير الإبراهيمي، والطّنطاوي، ومالك بن نبي، وغيرهم، رحمة الله عليهم وبركاته.
وحين زارني زورة خاطفة بهيجة ذات ظهر، صديقي الأثير خالد بن حمزة المدني، يحمل لي هذه الهديّة الغالية، كتب على صفحتها البيضاء الأولى: تميّز د. جعفر بصدق إتباعه للدّليل، وعمق أفكاره، مع فهم دقيق للنّظريات الغربيّة، واستعلاء في طرح فكره الإسلامي، مع قدرة بارعة على تلخيص أفكاره، فعزمت على أن أنظر فيه عاجلًا، وأكتب عنه سائلًا الله الأجر والمثوبة لأطرافه الأربعة، ولمن قال آمين.
(المصدر: صيد الفوائد)