بقلم قادة الدين
هل هذه الحروب التي تجتاح بعض المناطق من العالم منطقية؟ هل ما حدث في الجزائر في التسعينات من عمليات تقتيل مروعة، وما يحدث في سوريا الآن وحدث في العراق من قبل تصرفات عفوية؟ هل عمليات القمع الرهيبة التي رافقت الانقلابات الشهيرة في العالم من الشيلي وبنوتشيه إلى السيسي في مصر، هدفها سياسي فقط؟ لما ترافقت هذه الكوارث بعمليات تغيير جذري في المنظومة الاقتصادية المحلية، وتم خلالها التخلي عن النموذج الشامل القائم على سيطرة الدولة وأولوية الطبقات الفقيرة؟ لما خرجت تلك الدول منها أكثر توحشا اقتصاديا؟ وولدت في الغالب طبقة رأسمالية جديدة سيطرت على مقدرات البلدان؟
كلها أسئلة مشروعة، تحيلنا لكتاب “عقيدة الصدمة، صعود رأسمالية الكوارث”، للكندية “نعومي كلاين”، لنستعين به في محاولة فهم أسباب ما وقع، ولنسقط التشريح الذي ورد فيه على ما جرى ويجري في منطقتنا العربية، وهل كل تلك الحروب والكوارث التي حدثت كانت تدافعا طبيعيا؟ ونتاج سيرورة تاريخية طبيعية جرى استغلالها وتجيرها لفائدة عظماء العالم وكباره، أم كانت مصطنعة في الأصل لتمرير مخططات ما؟
فلنقتبس شيئا من كلامها بداية: “الصدم والترهيب؛ عمليتان تستتبعان مخاوف ومخاطر ودمارا يتعذر على الشعب، بشكل عام، وعلى عناصر أو قطاعات محددة من المجتمع المهدد، أو على قيادة هذا المجتمع، أن تفقهها، كذلك يمكن للعناصر الطبيعية، على غرار الأعاصير والزلازل والفيضانات والحرائق المسعورة، والمجاعة والمرض، أن تصدم البشر، وتزرع الرهبة في نفوسهم”!
من أجل فتح العالم المنغلق أمام جحافل الرأسمالية الغربية الزاحفة، يجب كسر وتحطيم بنياتها الاقتصادية والاجتماعية المحلية، ولا يتأتى ذلك إلا بمبدأ “المعالجة بالصدمة” |
ولنأخذ مثالا شهدته الكاتبة خلال فيضان نيو أورلينز المدمر في نهاية صيف 2005، ففي غمرة حالة الأسى التي غمرت سكان المدينة، وحالة الصدمة الرهيبة التي غشيت سكان الولايات المتحدة عقب مناظر الجثث الطافية، والأطراف المترامية، والمساكن المدمرة، والسدود المنهارة، تناقل الناس كلاما، لممثل الولاية الجمهوري في الكونغرس “ريتشارد بايكر” أعلن فيه قائلا: “ها قد حللنا مشكلة الإسكان الشعبي في نيو أورلينز، لم نستطع أن نفعل لكن الله استطاع”! ثم تبع هذا كلاما لأحد أغنى المقاولين في المدينة “جوزيف كانيزارو”: “أظن أننا أمام صفحة بيضاء، تخولنا البدء من جديد، وبرغم هذه الصفحة البيضاء تأتي فرص كبيرة جدا”!
وثقت الكاتبة تذمر المواطنين، الناجين من المأساة والعالقين في مخيمات اللاجئين في مدينة “باتون روج” عاصمة ولاية لويزيانا السياسية، من تلك الأقوال، لقد فوجئ المنكوبون بتقاطر السياسيين وصائدي الفرص من رجال الأعمال على الولاية عقب الكارثة، وسمعت أحدهم يقول: “ماذا أصاب هؤلاء الناس في باتون روج؟ ما حدث هناك ليس بفرصة، إنه مأساة لعينة، هل هم عميان؟”.
وسمعت امرأة تصطحب ابنيها الصغيرين ترد عليه: “كلا هؤلاء ليسوا بضريرين، إنهم شريرون، بل إنهم يبصرون الأمور بشكل ممتاز!” وكان من أولئك المبصرين بامتياز، الذين رأوا في فيضان مدينة نيو أورلينز فرصة سانحة؛ ميلتون فريدمان، الذي أطّل وهو في عمر الثالثة والتسعين عبر افتتاحية صحيفة وول ستريت ليكتب: “باتت معظم مدارس نيو أورلينز حطاما، تماما كما باتت منازل الأطفال، هذه مأساة، لكنها أيضا فرصة تتيح لنا إجراء إصلاحات جذرية في نظام التعليم”، وكان فريدمان يقصد أن تستغل الدولة فرصة انهيار المدارس العمومية، لتتوقف عن دعم التعليم الرسمي، وتترك الفرصة أمام التعليم الخاص وبناء مؤسسات تعليمية ربحية.
في أحد المصحات النفسية بأمريكا في خمسينيات القرن العشرين، خضع المرضى لتجارب حرمان من الحواس الخمسة، كانت في أول الأمر بموافقة المرضى، ثم أصبحت التجارب إجبارية، وكان لهذه التجارب أثر بالغ على صحة المرضى، عانوا بعدها من الاضطرابات وفقدان الذاكرة، يقول الدكتور دونالد هب Dr: Donald Hebb: “لم يكن لدي فكرة عندما اقترحت هذا البحث، عن إمكانية التوصل لسلاح شرير ورهيب هكذا”.
توقف الدكتور هب عن العمل على البحث، وبالرغم من خطورة ما قاله إلا أن الدكتور الكندي “أيوين كاميرون” واصل البحث، فتطور الأمر على يده، وأصبح الهدف هو محو أدمغة المرضى وإدخال أفكار جديدة، فركز كاميرون على تدمير الذاكرة بواسطة الصدمات الكهربائية والمهلوسات، وحاول إلغاء البيانات الحسية بواسطة العزل التام، استفادت ـوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA” من أبحاث الدكتور كاميرون، فعرّضت المعتقلين للصدمات، حتى يكون المعتقل قابل للتعاون، وللتخلي عن أفكاره، وفي سبيل ذلك استخدمت الضرب والتعذيب والصعق الكهربائي والكلاب لصدم المعتقلين.
المعالجة بالصدمة والذي هو مذهب رأسمالية الكوارث، القائم على استغلال كارثة ما، سواء كانت انقلابًا، أو هجومًا إرهابيًا، هي أساسا فكرة فريدمان
ميلتون فريدمان، المرشد الأعظم لحركة الرأسمالية المتوحشة السائبة، صهيوني اشتهر كأستاذ للعلوم الاقتصادية بجامعة شيكاغو، وأحد أبرز منظري الاقتصاد خلال القرن العشرين، نال جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1976، وأسس لما بات يعرف لاحقا ب”صبيان شيكاغو، أو عصابة شيكاغو، أو مدرسة شيكاغو”، وهم التلاميذ الذي تأثروا بفكر فريدمان في التوجه الاقتصادي، ومنهم المحافظون الجدد: “كيسنجر، رامسفيلد، بريمر، جورج بوش الابن، جورج شولتز، ديك تشيني، ولفوويتز، بول بريمر”. وفكرة فريدمان تتلخص في إبعاد الدولة كلية عن الاقتصاد، وفتح السوق على مصراعيه أمام الشركات ورجال الأعمال، والدوس على أفكار المدرسة الكينزية، التي ظهرت عقب الأزمة الاقتصادية سنة 1929، ودعت لتدخل الدولة للجم الاحتكار ومواجهة تغول الرأسمالية.
فمدرسة شيكاغو تتطرف في الدعوة لترك الحرية الاقتصادية للرأسماليين، ومنحهم حرية التملك والعمل وإلغاء الحدود والعوائق واستبعاد أي بعد اجتماعي أو عاطفي أو إنساني، وخفض الإنفاق الحكومي وتسريح أكبر قدر من العمال من القطاع العام، وتسليم الإنتاج والتعليم والصحة للرأسماليين المقتدرين الناجحين، وهذا ما بات يسمى بالرأسمالية المتوحشة، أو “النيو ليبرالية”، وهي أبرز وجه وتفسير للاستعمار الحديث، الذي يهدف لفتح الدول أمام الشركات العملاقة العابرة للحدود، وفي سبيل ذلك لا مانع من توظيف جيوش الدول العظمى والمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية “البنك الدولي، صندوق النقد الدولي”.
سيتخلى الشعب تحت طائل التمسك بالحياة عن أي مطالب زائدة، سينسحب من الحياة السياسية، ولن يحتج على أي عملية خوصصة أو تنازل عن أملاك البلاد لشركات ورأسماليين من الداخل أو الخارج |
ومن أجل فتح العالم المنغلق أمام جحافل الرأسمالية الغربية الزاحفة، يجب كسر وتحطيم بنياتها الاقتصادية والاجتماعية المحلية، ولا يتأتى ذلك إلا بمبدأ “المعالجة بالصدمة”، واقتباس الفكرة التي ولدت في مصحة نفسية، فيتم إنهاء النظم القديمة، وجعل الشعوب تتقبل التغيير، وتقبل صعود نخبة رأسمالية جديدة، وتتفهم سيطرة الشركات والرأسماليين على خيرات البلدان ومقدراتها، وضياع حقوقهم الرئيسية، مهما كان في ذلك من ثمن باهظ.
المعالجة بالصدمة والذي هو مذهب رأسمالية الكوارث، القائم على استغلال كارثة ما، سواء كانت انقلابًا، أو هجومًا إرهابيًا، أو انهيارًا للسوق، أو حربًا، أو تسونامي، أو إعصارً، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية، هي أساسا فكرة فريدمان، الذي نظّر لنقل مبدأ الصدمة من الأفراد إلى الشعوب عبر الكوارث كي تقبل بالتغيير.
فمن المنطقي أن أي شعب سيرفض التغيير في الحالة العادية ويدافع عن حقوقه، وعن بقاء مقدراته في يده أو في يد السلطة التي تمثله، لكن لو حدثت مثلا: حربا أهلية طاحنة أو كارثة ما، أو هجوما خارجيا مدمرا، أو انقلابا مصحوبا بحالة قمع غير مسبوق، سيضطر الشعب تحت وقع الأهوال والدماء التي تسيل إلى النكوص والسلبية، والقبول بأي شيء يطبق. سيتخلى الشعب تحت طائل التمسك بالحياة عن أي مطالب زائدة، سينسحب من الحياة السياسية، ولن يحتج على أي عملية خوصصة أو تنازل عن أملاك البلاد لشركات ورأسماليين من الداخل أو الخارج، سيرفض أن يعترض على أي زيادة في الأسعار، أو إلغاء للبرامج الاجتماعية التي تستهدف محدودي الدخل والفقراء. ستمحو المجازر والرعب والترويع أي أفكار من رؤوس الأكثرية، وستجعلهم يترحمون على أيام المشي تحت الحائط، وتمني حلول السلام والعافية فقط، وستتحول المجتمعات لحالة أولية ولصفحات بيضاء يسهل الكتابة عليها.
إن وقت سفك الدماء هو الزمن المثالي، لإدخال التغيير الرئيسي، إنه الوقت الملائم لتثبيت أسس المنظومة الاقتصادية الجديدة، وهذه فكرة مستوحاة من كلام البارون روتشيلد خلال القرن الثامن عشر: “أفضل الأوقات لشراء العقارات حين تسيل الدماء في الشوارع”. إن الهدف الأخير هو سيطرة الشركات العظمى الغربية، لكن هناك مراحل وسطى، يمكن أن توكل فيها مهام لوسطاء محلين كشركاء في انتظار الهيمنة المطلقة، التي قد تحتاج لصدمات جديدة. منذ سنة 1973 بدأت أفكار فريدمان وصبيان شيكاغو تأخذ طريقها نحو التنفيذ، طبقت لأول مرة في الشيلي عبر بينوتشيه، طبقت في الجزائر في التسعينات، طبقت في العراق، وحاليا لا شك أنها تطبق في مصر، في انتظار انقشاع ضباب المأساة السورية عن واقع لن يفلت من يد صبيان فريدمان.
(المصدر: مدونات الجزيرة)