بقلم د. يوسف القرضاوي
مقدمة
هذه المسرحية جديدة قديمة، جديدة في صورتها هذه، قديمة في موضوعها نفسه. فقد كنت كتبتها بشكل آخر منذ سبعة عشر عامًا، وقدر لها أن تمثل وأن تلقى نجاحًا وقبولًا حسنًا، ثم قدِّر لها أن تضيع مني فلا أجدها. وهنا تعود بي الذاكرة إلى سنة 1949م، إذ كنت أحد الطلاب الذين اختطفتهم «كلاب الصيد» وألقت بنا في بطون المعتقلات ما بين «هايكستب» و«جبل الطور» من أراضي مصر، وما نقموا منا إلا أننا ندعو إلى الإسلام الصحيح: دينًا ودولةً، عبادةً وقيادةً، صلاةً وجهادًا، مصحفًا وسيفًا.
وفي معتقل «هايكستب» في الصحراء كنت أقرأ في كتب الأدب والتاريخ، فكان مما راقني وأثر في نفسي موقف سعيد بن جبير العالم الفقيه الشجاع، من الطاغية المتجبر الحجاج بن يوسف. وكان لي شغف بالأدب المسرحي حينذاك، حتى أنني ألَّفت – وأنا طالب بالصف الأول الثانوي – مسرحية شعرية، عنوانها «يوسف الصديق». ولهذا رأيت قصة سعيد مع الحجاج صالحةً لأن تكون مسرحية ذات هدف ورسالة، وخاصة أننا كنا نصارع طغيانًا كطغيان الحجاج، فما أحوجنا إلى مواقف كموقف سعيد! وكتبت المسرحية، ومثِّلت في معتقل الطور… وضاعت أخيرًا.
واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتتكرر المأساة، ويتجدد الطغيان والاضطهاد لحملة الدعوة الإسلامية، ولكن بصورةٍ أعنف وأقسى، وأشد ضراوةً ووحشيةً، وتبرز مواقف كمواقف سعيد في مواجهة طغيان أخبث وأعتى وأشد كفرًا من طغيان الحجاج.
ومن هنا وجدت الدافع الذي دفعني إلى كتابتها بالأمس لا يزال قائمًا اليوم، بل هو أقوى، وبدأت أكتبها من جديدٍ، مُستلهمًا تاريخ تلك الحقبة الغنية بالبطولات والمواقف الرائعة إلى جوار ما حفلتُ به من مظالم، وما طفحت به من تجبر وطغيان، ومُستهديًا بشخصية سعيد بن جبير، وما عُرف به من علم وإيمانٍ وشجاعةٍ وثباتٍ، سجَّلتْها لنا كتب الأدب والتاريخ والرجال.
ومَن هو سعيد بن جبير؟
إنه إمام من أئمة التابعين، كان ابن عباس حبر الأمة إذا سأله أحد من أهل الكوفة في مسألةٍ قال: “أتسألونني وعندكم سعيد بن جبير؟”. وقال فيه أحمد بن حنبل: “قُتل سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه”. وقد أنكر سعيد – كما أنكر غيره من الفقهاء – سيرة الحجاج في الناس، وعلوه في الأرض بغير الحق، وإذلاله للمسلمين، وسفكه للدماء، ووأده للحريات، وانتهاكه للحرمات.
ولهذا لم يكد القائد الداهية الشجاع عبد الرحمن بن الأشعث القيسي يعلن ثورته على الحجاج وبني أمية، ويزحف بجنوده على العراق، حتى انضم إليه كثير من أهل العلم والدين، وفي طليعتهم سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ومطرف بن عبد الله بن الشِّخير.
ودارت المعارك بين جنود ابن الأشعث وجنود الحجاج، انتصر فيها الأول في أول الأمر… ولكن الحجاج بدهائه وجبروته وصبره استطاع في النهاية أن يتغلب ويهزم ابن الأشعث هزيمةً ساحقةً في معركةٍ مشهودةٍ، هي معركة «دير الجماجم»، فقد فر من بعدها ابن الأشعث، وقُتِل مَن قُتل من أنصاره، وأُسر مَن أُسر، وهرب مَن هرب.
وكان سعيد بن جبير أحد الذين فروا واختفوا، وكان المفروض في منطق الإسلام أن يترك هؤلاء الفارون المنهزمون… ألا يتبع مدبرهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يُجْهَز على جريحهم، ولكن الحجاج لم يتقيَّد بهذا الحكم، فقتل كثيرًا من الأسرى، واتَّبع كثيرًا من المُدبرين، فجاء بهم وضرب أعناقهم. وهكذا طلب سعيدًا حتى قبض عليه بعد بضعة عشر عامًا، ومع هذه المدة الطويلة لم يُسامحه، وكان من أمره ما كان.
ومضى سعيد بن جبير مثلًا في تاريخ الإسلام للعلماء المجاهدين، والدعاة الصادقين: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39) .
المؤلف
يوسف القرضاوي
الدوحة في: ذي الحجة سنة 1387هـ
شباط «فبراير» سنة 1968م
(المصدر: موقع العلامة القرضاوي)