بقلم راجي سلطاني
الأرض العطشانة تحتاج لأي ماء، حتى وإن كان هذا الماء آسنٌ في بعضه. وساحة الفكر الإسلامي عطشانة حقا، تحتاج مجددين يروونها بماء عذب، وما زالت أبواب الاجتهاد غير مفتوحة كما ينبغي. ولما ألح البعض في طرق أبواب الاجتهاد لكي تفتح في زماننا المعاصر، فُتحت هذه الأبواب بعض الشيء، ولكنها أدخلت حينها الكثيرين ممن ليسوا من أهل الدخول، واختلط الحابل بالنابل، وأصبح الأمر فوضى. وهذا طبيعي إلى حد ما، فإن الضغط الشديد يعقبه الانفجار، وقد ضغط الضاغطون كثيرا على حتمية التبعية والتقليد للأقدمين في كل شيء، فلما جاء الانفجار، حمل معه حتمية المخالفة للمتعارف عليه في كل شيء؛ الصحيح والباطل؛ الثابت والمضطرب؛ المجمع عليه والمختلف فيه.
من الإنصاف أن ننظر في منتج كل مفكر، فنأخذ منه ونترك، نأخذ ما يستحق أن يُؤخذ، ونترك ما يستحق أن يُترك. هناك بعض المفكرين نستطيع أن نقول إن كل إنتاجهم متروك، وهؤلاء هم من يجعلون المشروع الإسلامي بل والدين الإسلامي خصما وعدوا، فيجعلون كل إنتاجهم ضربا فيه وتشويها له. أما أولئك الذين يفكرون ويبحثون ويدلون بآرائهم من غير مرجعية عدائية، فهؤلاء يستحقون أن ننظر في منتجهم، ولن نُعدم من فكرة صحيحة وفائدة لازمة.
والحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق بها. حتى أننا مطالبون في ذلك أن ننظر لخصوم الفكرة الإسلامية الذين لا ينطلقون من عداء حِقدي، هؤلاءء الخصوم الذين وصلوا لخصومتهم من خلال النظر العقلي والاستدلال المنطقي، فهؤلاء يحتاجون منا إلى النظر في معطياتهم، للبحث فيها والرد عليها، وقد لا نعدم في هذه أيضا من فائدة.
تحدث الدكتور محمد مختار الشنقيطي عن الدكتور عدنان إبراهيم فقال: (لا أوافق من يتهمون عدنان إبراهيم بالجهل. فهو عالم ضليع ومتحدث بليغ، أُوتيَ لسانا لافظا وقلبا حافظا. لكنه جمع بين وفرة العلم الشرعي ونقص الموقف الشرعي، بين ثراء العقل وفقر الضمير. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان” صحيح الجامع الصغير). ورد عليه الكثيرون رافضين فكرة أن يوصف الدكتور عدنان بالعالم الضليع.
إن كان الحديث عن الدكتور عدنان إبراهيم مقارنة بالأولين، فلا يصح أن نصفه بالعالم الضليع، أما إذا قارناه بالمعاصرين فهو عالم، وذلك لأنهم جميعا مثله؛ اللملمة والخطف من هنا وهناك |
ولقد كنت في زمان سابق أظن أن العلماء المعاصرين أوفر حظا في العلم من السابقين الأوائل، لأنهم قد وجدوا من الوسائل ما لم يجد سابقوهم، وكذلك فكل منتج السابقين معروض أمامهم بكل ما فيه، في حين أن كثيرا من السابقين قد فاتتهم الكثير من المؤلفات والمراجع بسبب عدم وجود الطبع وصعوبة الكتابة والنسخ. ولكنني أدركت مع مرور الزمن أن علم المعاصرين لا يساوي شيئا أمام علم الأولين، فقد آتى الله الأولين الحوافظ المذهلة والعقول الفذة، وإن مستوى قراءات المتأخرين واطلاعهم على المؤلفات والمراجع لا يساوي شيئا كذلك أمام حال الأولين.
ومن هنا، فإن كان الحديث عن الدكتور عدنان إبراهيم مقارنة بالأولين، فلا يصح أن نصفه بالعالم الضليع، أما إذا قارناه بالمعاصرين فهو عالم، وذلك لأنهم جميعا مثله؛ اللملمة والخطف من هنا وهناك، وعدم الصبر على هضم المراجع والأصول وحفظها واستيعابها كاملة غير منقوصة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد (إن من البيان لسحرا). وقد آتى الله البعض حلاوة وسحرا في حديثهم وبيانهم، وربما يسحر هذا البيان المستمع أو القارئ فيجعله يقبل الأفكار المطروحة مع ما فيها من عوار ونقص. والدكتور عدنان إبراهيم من هؤلاء، أولئك الذين أعطاهم الله لسانا بليغا، كما أن طريقته في العرض والسرد طريقة غير تقليدية، وجدت لها طريقا إلى الشعبية والجماهيرية. وإذا كان الناس قد جادلوا الدكتور محمد المختار الشنقيطي في مسألة وصف الدكتور عدنان بأنه عالم ضليع، فلاأظن أن أحدا جادله أو سيجادله في وصفه له بأنه صاحب (لسان لافظ وقلب حافظ).
قديما قالوا ( كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا)، ونقول نحن اليوم( كثرة الكلام تناقض بعضه ببعضه). والدكتور عدنان مع ما للسانه من حلاوة وسحر، إلا أنه كثير الكلام وسريعه بدرجة كبيرة، وهذا يجعله يذكر في بعض الأحيان أفكارا جزئية صغيرة فيما بين سطور الأفكار الكبيرة، وربما لا ينتبه لها، ثم يخالفها من بعد في عرض آخر، وربما دون أن ينتبه كذلك. وتجعله -سرعة الكلام هذه- يبدأ في صياغة الفكرة فيغريه حسن اللفظ وسلاسته عن التوقف والتبين، فيسترسل في عرضه اللفظي الشائق، مع ظهور عوار الفكرة ونقصها.
ما أحسن وصف الدكتور الشنقيطي للدكتور عدنان إبراهيم في نهاية حديثه عنه إذ قال: (لكنه جمع بين وفرة العلم الشرعي ونقص الموقف الشرعي، بين ثراء العقل وفقر الضمير. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان” صحيح الجامع الصغير).
فالدكتور عدنان إبراهيم برغم ما في طرحه الفكري من نقاط تستحق الوقوف والتأمل، إلا أن كل ذلك ليذهب هباء بسبب موقفه الأخلاقي القيمي، حيث وقوفه الأخير ضد ثورات الشعوب العربية على أنظمة الطغيان والظلم، بل وتأييده لبعض هذه الأنظمة علانية، برغم أنها أنظمة فاسدة بائنة الفساد، ظالمة بائنة الظلم، توالي أعداء الأمة وتتآمر معهم علانية وسرا، وتسير ببلادها ناحية العلمانية والتحرر، بعيدا عن الإسلام وشريعته وقوانينه وروحه.
مذهب الدكتور عدنان الفكري البحث عن المساحات الجدلية والحديث عنها، والمساحات الجدلية مساحات تستهوي الباحثين عن الشهرة وذيوع الصيت، كما أنها تستهوي أصحاب الفكر الذين يريدون أن يكون لهم رأي في كل قضية بعيدا عن النوايا والمنطلقات. وهذا الأمر يحتاج إلى تروي العالم وتؤدته حتى لا ينزلق في أتون هذه المساحات الجدلية التي تتسم بأنها منزلقات خطيرة.
أغلب نتاج الدكتور عدنان خطب ومحاضرات، ويقل بجانبه جدا نتاجه المكتوب في كتب وأبحاث. والكلمة المكتوبة أوثق وأثبت من الكلمة المنطوقة
ينسب للإمام علي قوله (ليس كل ما يعرف يقال). وقديما نُسب إلى علي بن الحسين قوله. يا رب جوهر علم لو ألوذ به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مجرمون دمي ورأوا قبيح الذي يأتونه حسنا. وهذه الأبيات بالرغم من الخلاف في نسبتها لعلي بن الحسين، وبالرغم من الاختلاف حول مدى صحة معناها، إلا أنها لا تخلو من بعض الصحة، فإن بعض الرأي إن ذكر يحدث بلبلة شرها أكبر من خيرها، وعندئذ يكون عدم ذكر الرأي أولى من ذكره. وللدكتور عدنان بعض الآراء التي ذكر الملحدون أنها ساعدتهم على حسم الرأي في اضطرابهم العقائدي وجعلتهم يمضون قدما في إلحادهم، وقد كان على الدكتور عدنان أن ينتبه لمثل هذا.
القراءة في العقليات- أي ما يتصل بالفكر والفلسفة والمذاهب والتيارات- تستهوي الشباب؛ لأنهم يجدون في أنفسهم طاقة موّارة تدفعهم للتفكر والتساؤل، ويريدون أن يشبعوها ويرووا ظمأهم. وهذا منزلق خطير، أن يهتم الشباب بالعقليات قبل أن يأخذوا قدرًا من العلوم الشرعية، ولو بالحد الأدنى؛ بحيث يتثبت الشاب من عقيدته، ومن توجيهات الإسلام في العلم والمعرفة، ويفهم طبيعة عمل العقل وحدوده ومجالاته، ومدى اقتراب ذلك وتداخله مع العلوم الشرعية التي مصدرها الوحي والتلقي).. من مقال للأستاذ السنوسي محمد السنوسي.
وما ذكره الكاتب في هذه الفقرة متحدثا عن الشباب، هو موجود أيضا في كثير من مفكري الإسلام المعاصرين أمثال الدكتور عدنان، فإنهم يقرؤون في الفلسفات والعقليات أكثر مما يقرؤون في الشرعيات، فيخرج منتجهم الفكري مشوها في بعضه، منتج يميل إلى الاعتماد على العقل أكثر من النص.
أغلب نتاج الدكتور عدنان خطب ومحاضرات، ويقل بجانبه جدا نتاجه المكتوب في كتب وأبحاث. والكلمة المكتوبة أوثق وأثبت من الكلمة المنطوقة، لأن الكاتب له مساحة كبيرة من التثبت والتيقن والموازنة عند كتابته، وله مساحة كبيرة من المراجعة والحذف والإضافة والتعديل بعد ذلك، كل ذلك قبل الطبع والنشر. أما أهل الكلمة المنطوقة، وخصوصا في مجال الفكر والفلسفة، فهم الأكثر عرضة لاضطراب الأفكار وخللها وتناقضها، لأنهم مطالبون بصياغة فكرتهم في لحظة إلقائها على المستمعين دون توقف أو تبين أو روية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)