طوفان الأقصى وحروب الذاكرة (4) .. الروايات الكاذبة
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
يتناول هذا المقال بعضاً من طرائق قادة عدونا الصهيوني؛ المدعوم أمريكياً وأوروبياً، الماكرة والماهرة والمخادعة للحفاظ على باطلهم بتزييف الذاكرة: ذاكرة من يضلونهم بغير علم من العالمين ومن بني جلدتهم ودينهم، وكيف يخططون وينفذون ويهندسون خرائط الذاكرة في العقل والقلب عبر قلب الحقائق وتزييف الوقائع، وجمع الأنصار والأعوان للترويج لذلك من خلال الطامعين والمتزلفين والمبغضين للحقيقة والحق من أهل الباطل.
فطرائق تزييف الذاكرة كثيرة ومتعددة ومتشعبة تحتاج لمتابعة دؤوبة وتعلم من أعدائنا كيف نحافظ على الذاكرة حية؟ وكيف ننشطها ونرفدها بالقوة والقانون والسلطة والإعلام حتى تظل متوهجة مضيئة تنير دربنا نحو تحررنا الكامل من الاستعمار والاستبداد؟ وفي هذا المقال محاولة أولية لتتبع خطوات حبك رواية كاذبة عن بعض ما جرى في 7 أكتوبر حتى وصلت لأروقة الأمم المتحدة.
منذ بضعة أيام نشر خبر عن مشاركة السفيرة ليندا توماس غرينفيلد (سنعود لها في مقال لاحق لنرى كيف يتم تشويه ذاكرة البشر؟) في طاولة مستديرة مع “شهود” على “فظائع” حركة حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفي بيانه الإعلامي 27يوم شباط/فبراير 2024م، ذكر نايت إيفنز متحدث مكتب الصحافة والدبلوماسية العامة لبعثة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة أن السفيرة ليندا قد اجتمعت كممثلة للولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة بوفد من “الشهود” على الهجمات التي “ارتكبتها” حركة حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر “لتسمع” منهم عن أعمال “العنف القائم على النوع الاجتماعي” الذي وثقوه وراقبوه، بما في ذلك “العنف الجنسي”.
وضم المشاركون أيضاً فرداً من “أسرة رهينة” لا تزال حركة حماس تحتجزها، وشارك “الشهود” “قصصهم” بشأن “الصدمة” التي تعرضوا لها بفعل “الفظائع” التي ارتكبتها حركة حماس و“الصدمة المتواصلة” بفعل مواصلتها احتجاز أكثر من 130 رهينة في غزة بشكل “غير مشروع”. وأعربت السفيرة عن “تضامنها” وشددت على أهمية أن “يواصل الشهود مشاركة قصصهم” حتى “لا ينسى العالم” أفعال حماس. وشددت السفيرة على “إدانة” الولايات المتحدة الصريحة لحركة حماس “واختطافها للرهائن” و“أعمال العنف الجنسي التي ارتكبتها”، وأكدت على أن الولايات المتحدة لن توفر جهداً لتحاول ضمان الإفراج عن الرهائن وإعادتهم إلى أحبائهم. وشددت السفيرة كذلك على أهمية محاسبة الجناة.
هذا هو الخبر، لكن ماذا عن الحقيقة؟ وكيف وصل هؤلاء “الشهود” إلى الأمم المتحدة، وكيف عقدوا مائدة مستديرة مع مندوبة القوة العظمى في الأمم المتحدة ليحكوا “قصصهم” الأليمة عما فعلته حركة “حماس” “الإرهابية” بهم، وكيف سنصل لمحاسبة الجناة كما قالت السفيرة الأمريكية؟ يحتاج الأمر لمتابعة تسلسل الكذب منذ بدأت الغزوة حتى تاريخ المائدة المستديرة لتزوير الحقائق.
بداية نقوم بلفت الأنظار لما يحمله هذا النص القصير من ألغام معرفية ومفهومية في كل جملة منه. لكننا في هذا المقال سنقف عند عملية حبك القصة الكاذبة والرواية المزورة كما جمعناها من بعض الأخبار، أما عن الحقيقة وعن دور الأمم المتحدة والولايات المتحدة في تزييف الذاكرة عبر ما يسمى ببعثات تقصي الحقائق والمبعوثين للتحقيق في الجرائم المختلفة وتقديم تقارير لهيئة الأمم المتحدة لاتخاذ تدابير وقرارات حيالها، فإن لذلك مقالات لاحقة إن شاء الله.
بعد غزوة طوفان الأقصى المباركة حرص العدو الصهيوني على تشويه صورة حركة حماس وتصوير ما حدث كجرائم حرب واعتداء على الإنسانية، مدعوماً في ذلك بالانحياز الأمريكي، ومتسلحاً بحيازته لقوة ضغط وترغيب وترهيب لوسائل البحث والإعلام الغربية، وبجهاز للكذب الإعلامي، وخبراء في التزييف والتزوير مدربون على أعلى مستوى من العلم الممزوج بانحطاط أخلاقي لا حد له يجعلهم يقلبون الحقائق ويزورون الوقائع لصالح باطلهم ودولة الباطل المحتلة لأرض فلسطين،
ففي معالجة سريعة لتشويه صورة حركة حماس في العالم عبر حشو ذاكرة العالمين بوقائع باطلة يُدًعى أن حماس قامت بها أثناء الغزوة، قامت حكومة الاحتلال ممثلة في جيشه المجرم، وبعد ثلاثة أسابيع من الغزوة، كما نشر يوم 24 أكتوبر 2023، بعرض أدلة مصورة جديدة توثق هجوم أكتوبر من خلال مقطع فيديو مدته 47 دقيقة يظهر صور عمليات القتل التي نفذتها حماس عبر جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر. وقد شملت الأدلة المصورة لقطات من كاميرات التي يرتديها مقاتلو الحركة الذين قتلوا، والكاميرات الأمنية والهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي للضحايا الإسرائيليين.
وتم عرض الفيديو على 170 صحفياً في قاعدة عسكرية على مشارف تل أبيب، ويظهر فيه مشاهد الرعب الناجمة عن الهجمات التي استمرت لساعات، حسبما يشير تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
وتم نشر مقتطف من تلك الأدلة المصورة، ومدته دقيقة واحدة تقريباً، حيث يظهر مقاتلي حماس وهم يوقفون سيارة بينما كانت تسير ببطء على طول طريق ريفي، وفق صحيفة “الغارديان” البريطانية. وأطلق المسلحون النار، فأصابوا السيارة التي انحرفت وتوقفت، مما أدى إلى سقوط شخصين في المقاعد الأمامية. وفي مشهد آخر، دخل مهاجمو حماس إلى منزل وتحدثوا إلى فتاة مختبئة تحت طاولة. وكتب جوتام كونفينو، أحد المراسلين الذين حضروا الفيديو، على تويتر: “بعد الحديث معها، أطلقوا النار عليها وقتلوها، من الصعب تحديد عمرها ولكن يبدو أنها تبلغ من العمر 7-9 سنوات”.
وأظهر مشهد آخر أباً وولديه، الذين تتراوح أعمارهم بين سبعة وتسعة أعوام تقريباً، وهم يركضون بملابسهم الداخلية إلى ما يبدو أنه ملجأ، حسبما تذكر “وول ستريت جورنال”. وألقى أحد مهاجمي حماس قنبلة يدوية مما أدى إلى مقتل الرجل، قبل أن يخرج الأولاد ملطخين بالدماء ويهربون.
وأظهرت لقطات أخرى مسلحاً بأداة زراعية يقطع رأس رجل ملقى على الأرض، ومسلحون يقتلون جنديات إسرائيليات مصابات، ومقاتلاً مبتهجاً من حماس يتصل بعائلته: “لقد قتلت 10 يهود بيدي”، وفق “الغارديان”.
وأظهر مقطع آخر امرأة إسرائيلية وهي تتفقد جثة امرأة محترقة جزئياً لمعرفة ما إذا كان أحد أفراد الأسرة، حيث تم سحب فستان الضحية حتى خصرها وتم إزالة سروالها الداخلي. ويظهر في مقاطع الفيديو مقاتلي حماس وهم ينقلون الضحايا الإسرائيليين المصابين، أحدهم مبتور الذراع، إلى قطاع غزة. وتظهر مقاطع الفيديو مقاتلي حماس وهم يطلقون النار على النساء المسنات المختبئات في منازلهن والفتيات الصغيرات المختبئات في الملاجئ.
ويدلنا خبر آخر بشكل غير مباشر على كيفية إعداد الصورة المزيفة لما حدث وكيف تم بلورتها باحترافية عبر ما صرحت به إحدى مهندسات عملية التزوير التي استعانت بها حكومة الكيان الصهيوني فقد أكدت كوخاف الكيام ليفي، الدكتورة والأكاديمية الإسرائيلية التي عينتها الحكومة للتحقيق في “جرائم الاعتداء الجنسي” التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر، أن حماس “استخدمت العنف ضد النساء كسلاح” لكسر “روح الإسرائيليين”. وقالت ليفي لصحيفة “هآارتس” الإسرائيلية، في مقابلة في 30 نوفمبر: “تم استخدام تعذيب النساء كسلاح للتدمير، وفي زرع الرعب العام وتحطيم روح الإسرائيليين“. وأضافت: “لقد نفذ إرهابيو حماس بشكل منهجي أعمال اغتصاب واعتداء جنسي“. لكنها قالت أنه “ليس هناك عجلة للاعتراف بذلك في الخارج”.
ويستند استنتاج ليفي إلى عدد متزايد من شهادات شهود العيان، والأدلة الفوتوغرافية، والاعترافات المسجلة بالفيديو للإرهابيين الفلسطينيين الذين اعتقلتهم قوات الأمن الإسرائيلية. واعترف اثنان على الأقل صراحة بأن العنف الجنسي كان بمثابة استراتيجية مصممة لغزو حماس.
وقد أوضح تقرير معهد واشنطن جوانب أخرى من الحبكة الدرامية الكاذبة لصالح تشويه ذاكرة العالمين تمهيداً لشيطنة حماس فيما بعد، ومعهد واشنطن لمن لا يعرف يسعى إلى تعزيز فهم متوازن وواقعي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط والنهوض بالسياسات التي تؤمّنها(سنقوم بالتعرض لدور وأهداف هذا المعهد في مقالات قادمة إن شاء الله)، لذلك يمدنا ويمد متابعي من الأمريكان والعالمين بتفاصيل أكثر عن جريمة تزوير الذاكرة وتحريفها من خلال تقريره المنشور على موقعه بواسطة ماثيو ليفيت, وديلاني سوليداي يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023م، والدكتور ماثيو ليفيت هو زميل أقدم في برنامج الزمالة “فرومر وويكسلر” ومدير “برنامج جانيت وايلي راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات” في معهد واشنطن. وديلاني سوليداي هي مساعدة باحثة في “برنامج راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب” التابع للمعهد.
نقرأ في التقرير للمعهد “العلمي”: أن إسرائيل تجمع أدلة وشهادات على ارتكاب حماس جرائم جنسية ويؤكد التقرير إن الوثائق الخاصة بـ “حماس” والمتعلقة بالفظائع التي ارتكبتها الحركة تدحض ادعاءاتها بأنها لم تستهدف المدنيين. فالاعتداء على المجتمعات المدنية الإسرائيلية هو وصمة عار لا تمحى، وعناصر الحركة قاتلي أطفال، وليسوا محاربين من أجل الحرية. فقد قدمت “حماس” نفسها بعضاً من الأدلة الأكثر إدانة على فظائعها، بما في ذلك: وثائق تم العثور عليها على جثث المهاجمين والتي تأمرهم بقتل المدنيين واختطافهم، فضلاً عن مقاطع مصوّرة من كاميرات “جو برو” التي كانوا يرتدونها لتوثيق مجزرتهم، ومقاطع فيديو وصور تم نشرها على قنوات الحركة على قناة “تلغرام” خلال الهجمات.
ويستمر التقرير في وصف ردود الفعل على هذه الجرائم الفظيعة، ويقول: بعد رؤية الأدلة على وحشية المهاجمين، صرّح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأنها “تذكرنا بأسوأ ما قام به تنظيم داعش”. ووصف الوزير الهجوم بصراحةٍ مؤلمة قائلاً: “ذبح الأطفال وتدنيس الأجساد وحرق الشباب وهم أحياء واغتصاب النساء وإعدام الآباء أمام أبنائهم والأطفال أمام والديهم”. ومن بين القتلى مواطنون من ما لا يقل عن خمسة وثلاثين دولة. من بينهم أطفال لا تتجاوز أعمارهم العشرة أشهر.
ويستمر التقرير في بيان الأدلة على تلك الجرائم فيقول: توثّق مقاطع فيديو إضافية من كاميرات “جو برو” تم الحصول عليها من المستجيبين الأوائل عدداً من الإرهابيين وهم يستعدون لإطلاق قذيفة صاروخية الدفع (“أر.بي.جي”) نحو أحد المنازل المدنية، وإطلاق النار على إطارات سيارة إسعاف، وقتل امرأةً تحتمي في غرفة الجلوس في منزلها. وقد وثّق أحد الفيديوهات أحد إرهابيي “حماس” وهو يطلق النار على مدني يركض للاحتماء ويصيبه في رأسه من الخلف، ومن ثم يصيبه بطلقتين أخريين حالما ارتطم جسده بالرصيف. وتظهر مقاطع فيديو تمت مراجعتها بعد المجزرة عنصرين من “حماس” وهما ينقلان جثةً من الطريق إلى مركبةٍ قريبة، ويعبثان بممتلكات الضحية، ويأخذان ما يبدو على أنه هاتف محمول. واستخدمت “حماس” الهواتف المسروقة للاستيلاء على حسابات الضحايا على مواقع التواصل الاجتماعي وحساباتهم على تطبيق “واتساب” لنشر مقاطع مباشرة عن الهجمات، وتوجيه التهديدات للعائلات، والدعوة لتنفيذ المزيد من أعمال العنف.
وتشمل الوثائق التي تم العثور عليها على جثث مهاجمي “حماس”: تقارير استخبارية مفصلة حول المجتمعات المدنية المستهدفة والتعليمات المرتبطة بالعمليات. وتؤكد هذه الوثائق أن الهجوم لم يكن مجرد عملية مارقة، وأن “حماس” خططت استهداف المدنيين منذ البداية. على سبيل المثال، تضمنت إحدى الوثائق، التي كُتب عليها “سري للغاية” وتم العثور عليها على عناصر “حماس” الذين هاجموا كيبوتس “كفار سعد”، تعليماتٍ واضحة بـ”إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية” و”احتجاز الرهائن”. وتأمر الوثيقة على وجه التحديد وحدتَي القتال التابعتين لحركة “حماس” اللتين تهاجمان الكيبوتس باستهداف المدارس الابتدائية ومركز للشباب. ودعت الخطة إلى احتجاز الرهائن في غرفة الطعام في الكيبوتس والاستعداد لترحيل عدد منهم إلى قطاع غزة. وفي مقابلة مصوّرة نشرها “جيش الدفاع الإسرائيلي”، كشف أحد المقاتلين الأسرى أن “كل شخص يحضر معه رهينة [إلى غزة] يحصل على مبلغ 10 آلاف دولار وشقة”. ونشر “جيش الدفاع الإسرائيلي” أيضاً “أدلة إرشادية للخطف” تابعة لـ “حماس” توجّه الحركة من خلالها المقاتلين حول كيفية استهداف الرهائن وأسرهم وإخضاعهم.
ويصف التقرير هذا الهجوم بأنه يشكّل أحد أسوأ أعمال الإرهاب الدولية المسجلة في جميع المقاييس. أن هجوم “حماس” قد حمل آثاراً مدمرةً على الولايات المتحدة أيضاً، فقد قُتل اثنان وثلاثون مواطناً أمريكياً على الأقل وفُقد ما لا يقل عن عشرة مواطنين. ولم يتم احتجاز هذا العدد الكبير من الرهائن الأمريكيين في حادثةٍ واحدة منذ عام 1979 عندما اختطف إيرانيون ستةً وستين مواطناً أمريكياً. ولم يلقَ هذا العدد الكبير من الأمريكيين حتفهم على أرضٍ أجنبية في هجومٍ واحد منذ تفجير “حزب الله الحجاز” (المعروف أيضاً باسم “حزب الله” السعودي) «أبراج الخُبر» عام 1996 – وهي العملية التي أسفرت عن مقتل تسعة عشر شخصاً وإصابة 372 آخرين بجروح. ويؤكد التقرير بأن الفرقة الخارجية لـ”مكتب التحقيقات الفيدرالي” ستفتح عدداً مذهلاً من قضايا الإرهاب الدولي المرتبطة بهجوم “حماس”. كما أن العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم – وخاصة تلك التي قُتل مواطنوها أو جُرحوا أو اختُطفوا – قد تنظر إلى الحركة بنظرةٍ جديدة وأكثر خطورةً إلى الأبد.
وهكذا كما جاء في الأخبار والتقارير عاليه (والتي تمتلأ بالكذب والتزوير اللذين سنقم ببيانهما في مقالات قادمة) فقد جمع “الجيش الصهيوني المحتل” الأدلة التي تدين حماس، من كاميرات وهواتف أعضاء حماس الذين استشهدوا في الغزوة، ومن كاميرات وتليفونات قتلى الكيان الذين حضروا الغزوة(لا ندري كيف قاموا بذلك، وهم بين قتيل وهارب وجريح ورهينة وطفل مذعور من فظائع حماس، لكن لابأس نكمل)، ماذا بعد تجميع الرواية حتى هذا التاريخ: هل عرضت على جهات محايدة للتأكد من صحتها؟ هل أظهرت ما حدث كاملاً؟ لا لقد تم جلب 70 1 صحفياً (لا ندري من أين؟ وما توجهاتهم ورؤيتهم لما حدث؟ وهل هم من اليهود فقط أم من ديانات وجنسيات أخرى؟ كل ما نعرفه من الخبر أن بعضهم إن لم يكن كلهم يعملون أو يراسلون صحفاً غربية شهيرة كما جاء في الخبر: الجارديان، وول ستريت جورنال، ثم نجد صدى ما رأى هؤلاء مباشرة بعد ما رأوا ما عرضه جيش الاحتلال منشوراً في صحفهم وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، بالإضافة للخبيرين الباحثين المرموقين في معهد واشنطن البحثي الرصين، هكذا دونما تحقيق أو تأكد أو حتى بنشر رواية موازية من الجانب الفلسطيني. الجميع يتماهى مع الرواية الصهيونية منوهاً عما يجب أن يجري لحماس من عقاب على جرائمها على يد أمريكا والعالم الحر الذي يرفض إجرامها، والدول التي لها رهائن لديها.
وهكذا يعاد بناء الحدث لتشويه الذاكرة :تجميع صورة معينة للحدث، حشد باحثين وإعلاميين متمرسين لصحف ووسائل إعلام معروفة ومنتشرة ومهيمنة على صناعة الخبر وتوجيهه بين العالمين وتعريضهم للرواية المبتورة، ثم تركهم يصيغون الرسالة المطلوب توصيلها للعالمين عبر تلك الوسائل. ثم ماذا بعد؟
لا بد أن يستيقظ الضمير العالمي من أجل شجب تلك الفظائع ومحاسبة من ارتكبوها من المجرمين الآثمين، فكيف ذلك؟ لقد بدأت القصة وجمعت الأدلة وقدمت المرافعات وحددت الجرائم وشحذت العقول والقلوب من أجل اتخاذ الاجراءات الواجبة تجاه هؤلاء المجرمين، يتبقى أن تقوم جهة مفوضة عالمياً بالتصديق على ذلك حتى تبدأ العقوبات بأشكالها المختلفة وتطمس الرواية الأخرى إن وجدت كما حدث من قبل طوال فترات الصراع منذ أكثر من قرن.
حسناً، لتقوم الأمم المتحدة ومجلس الأمن بدورهما الآن، والبداية لا بد أن تكون من الأمم المتحدة التي تحضر الوقائع وتصيغها في شكل لجان تحقيق ترفعها لمجلس الأمن ليتخذ ما يراه من عقوبات في شأن هؤلاء المجرمين.
لا بد أن تتحرك الأمم المتحدة التي حاول أمينها أن يبدو متوازناً بين الطرفين فشجب وأدان الطرفين، لكن ذلك ليس عدلاً ولا صحيحاً في رؤية الكيان الصهيوني وداعمته المجرمة أمريكا، فكان ولا بد أن تظهر الأمم المتحدة رفضها لما تقوم به حماس حسب الرواية الصهيونية من فظائع واختطاف رهائن وعنف جنسي، خاصة وإنها قد تعرضت لانتقادات بسبب رد فعلها البطيء جداً على اتهام اسرائيل حركة حماس بارتكاب عمليات اغتصاب وعنف جنسي خلال هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول غير المسبوق. لذلك كان ولا بد أن تنتقد “إسرائيل” منظمة الأمم المتحدة بسبب عدم قيامها بما يكفي لمعالجة هذه المسألة في إطار محاولة للحصول على اعتراف أكبر بالجرائم المزعومة. وقال السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، متوجهاً إلى المؤسسات الدولية التي اتهمها بالصمت “استخدمت حماس الاغتصاب والعنف الجنسي كسلاح حرب”. ومن ثم فلم يكن أمام الأمم المتحدة من بد للتدخل والقيام بدورها في رفض تلك الجرائم.
وسرعان ما تطالعنا الأخبار بأن مسؤولة بالأمم المتحدة تدين هجمات حماس في 7 أكتوبر وتعتبر الرد الإسرائيلي “غير متناسب” ونشر ذلك يوم 11 ديسمبر / كانون الأول 2023م، يقول الخبر: قدمت مسؤولة كبيرة في الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، تقييماً قاتماً للحرب الإسرائيلية في غزة، حيث أدانت هجمات حماس على إسرائيل، وقالت إن الرد الإسرائيلي غير متناسب، في حين يحتفل العالم باليوم العالمي لحقوق الإنسان.
وأضافت هاستينغز: “كان من الممكن أن يكون اليوم احتفالاً بالذكرى الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وُلد من فظائع حربين عالميتين. وبدلاً من ذلك، يتم الاعتداء على حقوق الإنسان في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، ولن تجلب الانتهاكات المرتكبة ضد كلا الشعبين السلام ولا الأمن لأي من هاتين الدولتين”.
وأشارت هاستينغز إلى أن الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية، مثل حماس، عليها التزامات بموجب القانون الدولي، وأنه يجب محاسبة مرتكبي هجمات 7 أكتوبر، التي قُتل فيها أكثر من 1400 إسرائيلي، واُحتجز أكثر من 240 آخرين كرهائن. لكن ماذا عن آلاف الشهداء والجرحى والجوعى والدمار الذي لحق بكل شبر في غزة، هذا لا يهم كثيرا الآن. وليس ذلك وحسب بل وقالت إن “عمليات القتل والعنف الجنسي والاختطاف… صدمت أمة بأكملها، ولم يسلم منها كبار السن والمعاقون والأطفال”. لكن الحرب الشاملة التي قتلت الآلاف وجرحت الآلاف وأشعلت النار في كل غزة ودمرتها وجوعت أهلها ومنعت عنهم كل أسباب الحياة لم تصدم أمة بأكملها.
حسناً لنكمل الرواية. تتطور الأمور خطوة بخطوة، فبعد تصريح المندوبة الأممية، تبدأ الهيئة الأممية في تنسيق جهودها من أجل تقصي حقائق ما جرى من خلال قيام مسؤولة أممية بزيارة إسرائيل لجمع معلومات حول اتهام حماس بارتكاب “عنف جنسي” في 7 أكتوبر، وماذا عما حدث في غزة: لا شيء؟؟ العنف الجنسي المزعوم أخطر بكثير من تدمير أمة بأكملها؟
وفي يوم 8 يناير 2024 نقرأ في الأخبار عن صدور بيان لخبيرين بالأمم المتحدة عن “الجرائم الجنسية” بهجوم 7 أكتوبر. حيث دعا خبيران في مجال حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، إلى معاقبة مسلحي حماس بتهمة ارتكاب عدد كبير من الجرائم، بينها اعتداءات جنسية، على الأراضي الإسرائيلية خلال هجوم السابع من أكتوبر.
وأكّد الخبيران أن هذه الجرائم تشكل انتهاكات خطرة للقانون الدولي، ويمكن “تصنيفها بالجرائم ضد الإنسانية“. وأشارا إلى أشخاص أُحرقوا وهم أحياء داخل منازلهم أو في ملاجئ، وإلى جثث قُطعت رؤوسها أو شوّهت، أو ظهرت عليها علامات تؤشر إلى أنّها تعرّضت للإعدام. وقالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالتعذيب أليس جيل إدواردز، والمقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء موريس تيدبال-بينز، في بيان، “إن الأدلة المتزايدة على العنف الجنسي التي أُبلغ عنها مفجعة بصورة كبيرة”. ودان الخبيران “عمليات تعذيب جنسي يُزعم أنها ارتُكبت، أبرزها حالات اغتصاب واغتصاب جماعي واعتداءات جنسية وحالات تشويه وإطلاق نيران على الأعضاء التناسلية”. وتابعا: “عُثر على جثث نساء رُفعت ملابسهنّ حتى الخصر، أو نُزعت ملابسهنّ الداخلية أو مُزّقت أو لُطّخت بالدماء”. وهذان المسؤولان خبيران مستقلان يعيّنهما مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لكنهما لا يتحدثان باسم الأمم المتحدة.
وها هو المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك يقول في يوم 11/01/2024م، إنه من المقرر أن تزور ممثلة المنظمة الدولية الموكلة مسألة العنف الجنسي خلال فترات النزاعات براميلا باتن إسرائيل نهاية يناير/كانون الثاني، “لجمع معلومات” حول اتهام حركة حماس بارتكاب عنف جنسي خلال هجومها المباغت في 7 أكتوبر/تشرين الأول. بأن باتن “ستقود مهمة في إسرائيل والضفة الغربية في نهاية الشهر (…) لجمع معلومات حول اتهامات بالعنف الجنسي ارتُكبت في سياق هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول وتبعاتها”. مشيرا إلى أن الأمر ليس “تحقيقاً” في حد ذاته.
كما من المقرر أن تلتقي باتن التي سيرافقها خبراء في الطب الشرعي ومتخصّصون في إجراء مقابلات من هذا النوع بـ “ناجين وشهود وغيرهم من الأشخاص المتضررين من العنف الجنسي”، إلى جانب “رهائن وسجناء أُفرج عنهم مؤخرا”، وفق دوجاريك، الذي أوضح أيضا: “ستقدم تقريرا عما رأته وسمعته في إطار ولايتها لمكافحة الاستخدام الوحشي والمتزايد للعنف الجنسي خلال المعارك، ولإعطاء صوت أممي لما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول وما بعده”.
ثم نجد أنفسنا في فبراير مع المائدة المستديرة التي بدأ منها المقال، حيث يصل “الشهود” إلى الأمم المتحدة ليوثقوا شهاداتهم بشأن جرائم حماس، ولتتوالى فصول الرواية الكاذبة حتى تتحقق الإدانة الأممية للأمة الوحيدة القائمة بالحق وعليه في عالمنا، في غياب كامل للرواية الأخرى.
فهل لدينا على الضفة الأخرى أي مؤسسة عربية أو إسلامية تقوم بما قام به الجيش الصهيوني وراعيته أمريكا، أم نظل هكذا نلدغ من ذات الجحر آلاف المرات، خاصة وأن “الجيش” الصهيوني لا يزال يجمع الأدلة من جنوب إسرائيل ويعمل على تجميع رواية شاملة عن هجوم حماس لاستكمال إدانتها وتشويه ما قامت تقوم به من جهاد ضد أبغض احتلال على وجه الأرض.
ولا حول ولا قوة إلا بالله