مقالاتمقالات مختارة

طغيان المال والعلم والرئاسة

خطبة لفضيلة د. عقيل بن محمد المقطري ( عضو رابطة علماء المسلمين )

العناصر:

1- طغيان المال والعلم والجاه.

2- أهمية شكر النعم.

3- طغيان فرعون.

4- الحل من الفتن.

5- حياة الشعوب.

6- بيان هيئة العلماء.

إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن الله تعالى حذر من الطغيان، وحذر من طغيان النفس. هذا الطغيان الذي هو كامن في كل نفس وخاصة إذا رزق هذا الإنسان إحدى ثلاث نِعم: المال والعلم والرئاسة.

فهذه الثلاث إذا لم يتسم صاحبها ويصاحبها الإيمان بالله عز وجل وكبح النفس من الطغيان والجبروت والظلم والتسلط؛ فإن الطغيان يظهر على هذه النفس، لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم رغم ما آتاه الله عز وجل من النعم فقد آتاه نعمة النبوة، وآتاه نعمة العلم، إلا أنه في غاية من التواضع، وهو الأسوة والقدوة صلى الله عليه وسلم لنا معاشر المسلمين، كان يخالط الناس، وكان يجلس مع الناس في مجالسهم وكان لا يفرق بينه وبين الناس فارق أبداً، حتى إذا جاء الغريب ما يكاد يعرف نبينا صلى الله عليه وسلم حتى يسأل عنه: أيكم محمد؟ فيقال: هذا الذي جالس هنا.

إن الله تعالى خيره بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا نبيا، كما في الحديث: «جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، قال: أفملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولاً، قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبداً رسولاً»(1).

هذا هو المنهاج الذي يجب أن نسلكه حكاما ومحكومين، وأن نسير على هذا المنوال تواضعاً لله عز وجل.

كبح الأنفس بالإيمان وبالخوف من الله عز وجل جميع شرائح المجتمع حكاما ومحكومين، وزراء وعمال وأزواج آباء وأبناء وجيران مع بعضهم.. تجار مع عامة الناس أن يكون الناس يعيشون متواضعين؛ لأن هذا الجبروت والطغيان محتقر لدى النفوس السليمة أنهم يرون الناس صغارا ويراهم بقية الناس أصغر وأحقر، لذلك فإن هؤلاء المتجبرين والطغاة والظالمين يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة كأمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم؛ لأنهم تكبروا وتجبروا وطغوا على عباد الله عز وجل.

أيها المؤمنون!

إن القرآن يعالج هذا الطغيان بقصص مؤثرة للغاية حتى لا تسلك الأنفس تلك الطرق التي توصل إلى الظلم والشنار.. يعالجها القرآن في سورة سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتلوها كل أسبوع، إنها سورة الكهف، لقد عالج طغيان نعمة المال بقصة صاحب الجنتين وما آل إليه الحال، وعالج نعمة العلم عند موسى عليه السلام والخضر، وعالج قضية الرئاسة والجاه بقضية ذي القرنين، وكيف كان حال هذا ومآل ذاك، لقد سن صلى الله عليه وسلم أن نقرأها في كل جمعة من أجل أن تبقى الأنفس على صلة بالإيمان وعلى صلة بالدروس والعبر والعظات التي تستنبط وتستقى من هذه السورة ومن هذه القصص.

أيها المؤمنون!

إن نعمة الجاه إذا استخدمت في الخير نفعت وإن لم تستخدم في ذلك ضرت فتؤدي إلى فساد الحياة، وما ينتفض الناس وما يصرخ الناس إلا نتيجة لهذا الطغيان الذي يحدث من هذا الشخص الكبير، أومن ذلك الذليل الحقير.

الحاصل: أن الأنفس تنفر من الظلم وتنفر من الطغيان لا تريده وتأنف وتستنكف أن يظلمها الناس، ولا يمكن أن يستمر ذلك إلا من وصل به الحال إلى أنه يحب حياة العبودية مع أنه في قرارة نفسه لا يؤمن ولا يرضى بذلك إطلاقاً، فكم تمرد من العبيد -والتاريخ يحكي ويروي لنا ذلك- الذين استمرءوا حياة الذل والعبودية، سواء كانوا أفراداً أو جماعات.

أيها الإخوة!

إن القرآن الكريم وآيات كثيرة منه تدل دلالة واحدة على أن النعم قد تتحول إلى نقم على الأفراد وعلى الشعوب إن لم تستخدم في طاعة الله عز وجل، وإن الله تعالى قد أنزل القرآن هدى للناس، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].

هذا يهدي به المؤمنين غيرهم ويهتدون به في حياتهم.

أيها المؤمنون!

هذه نعمة المال يقول الله جل وعلا فيها: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى:7} [العلق الآيات:6-7].

يعني بسبب غناه يصل به الحال إن لم يكبح نفسه بالإيمان إلى أن يطغى وإلى أن يصير طاغية وإلى أن يحتقر الناس، وإلى أن ينظر إلى الناس أمامه أنهم رمم وجيف، فإذا صافح أحدا صافحه فبأطراف أصابعه أو أنه لا يصافحه إطلاقاً.

من ذلك: أنه يحتجب ويتأفف أن ينظر إلى الفقراء والمعدمين ولا ينظر إلى ذوي الحاجات ولا إلى ذوي العاهات.. كل ذلك طغياناً لأن الله تعالى رزقه المال.

و إن العلم ينقلب إلى نقمة على صاحبه؛ لأنه طغى بسبب هذه النعمة فربما اشترى به ثمنا قليلاً، وربما داهن في هذا العلم، وربما صير هذا العلم خادما للدنيا لا خادما للدين كما فعل بنو إسرائيل واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون.

إن العلم أحيانا قد ينقلب على صاحبه طغيانا وضررا وذلك إذا لم يتعظ بما يأتي من المحن، وإذا لم يتعظ بالحق والإيمان؛ فإن ذلك ينقلب على صاحبه ضررا يضره {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83]، أي: أنهم فرحوا بالعلم الذي عندهم ولم يلتفتوا إلى البينات ولا إلى الحق، وكما فعل النصارى يوم بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم.

وأما نعمة الرئاسة والجاه فإن طغيانها أعظم من هذا؛ فإن صاحبها قد ينصب نفسه ربا من دون الله تعالى، كما قال الله تعالى عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ}[القصص:38].. {قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].

وهكذا قال ذلك الملك الذي حاج إبراهيم في ربه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].

هكذا تنقلب هذه النعمة إلى نقمة ليس على صاحبها فحسب وإنما تنقلب نقمة على الشعب كله؛ لأن طغيان الرياسة ما بعده طغيان. هذا النمرود الذي يجادل في ربوبية الله عز وجل، وذاك فرعون الذي قال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].

أيها المؤمنون!

إذا كان الكبر كبيرة فإن من سنن الله تعالى أنه يمهل ويملي للظالم {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، وقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45].

«إن الله ليملي لظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، إن إمهال الله للعباد ليس نسيانا أبدا.. بل إنه سبحانه يرخي لهم الحبل ويمكن لهم في الأمر ليمدهم في طغيانهم قال تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].

لقد ذكر المفسرون أن الملك الذي حاج إبراهيم عليه السلام مكث في طغيانه وظلمه وجبروته أربعة قرون، لقد كانت الأمم تحيا آلاف السنين وإن أربعمائة عام بالنسبة إلى أعمارهم كثلاثين سنة وأربعين سنة في أعمارنا.

إن هذا الملك مكث أربعة قرون في طغيانه وجبروته يتجبر ويطغي على عباد الله عز وجل ويستعبد الناس استعبادا تاماً.

وإن فرعون لما أمده الله تعالى في الحياة ولما مكن له في ملكه لما كان يقول للناس: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].

إن هذا الطاغية الذي قتل الذكور من بني إسرائيل واستحيا النساء يظن أنه مخلد.. بل أوحى للناس أنه لا يموت وأوحى للناس أن الأيدي لا تطاله بحال من الأحوال، وأوحى إلى الناس أن حياته أبدية، فربما يفنى الناس كلهم ويبقي هو، ولما أغرق الله تعالى فرعون وشاع الخبر بأن فرعون قد هلك فإن فئاماً من الناس ما صدقوا أن فرعون هلك أو أنه مات؛ لأن الطاغية إذا نظر إليه الإنسان من خارجه هاب وارتعد وخاف وارتعش، لكنه لو قرأه من داخله لو جده ذليلا ولوجده حقيرا ولوجده خائفا وجلا مرتعشاً.

وإذا بدأ عرشه يهتز فإن حقيقته تظهر بجلاء، لذلك لما كان الناس في مصر غير مصدقين أن فرعون قد مات وأن فرعون قد هلك أراد الله تعالى أن يريهم: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92]، فأراهم هذه الآية أولئك.

إن الذين كانوا يمدحونه، وأولئك الذين كانوا يبجلونه، ووسائل الإعلام التي تلمعه وجعلته إلهاً من دون الله والتي وصفته بأوصاف تقذف في قلوب الناس الرعب ما صدقوا ومن ثم تلعثمت ألسنتهم وبدءوا يتراجعون ونحن كنا وكنا.. أين أنتم من الحق؟ أين وقفتكم؟ تدورون حول أنفسكم وحول منافع أنفسكم فحسب.. لقد رأينا طغاة كثر استقر لهم الأمر في زماننا المعاصر ثلاثين سنة أو أربعين سنة وزيادة على هذا بقليل لكن جاءت رياح التغير التي ينظر إليها الناس بحذر، فمنهم من هو متفاءل، ومنهم من هو متشاءم، لكن الذي يعنينا أن وراءها ما وراءها ونحن من المستبشرين بإذن الله تعالى أن وراءها خيرا كثيرا، وإن كان فيه شيء من الدخن كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في الجاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»(2).

هذا الدخن سيزول في فترة من الفترات كما وضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة على منهاج النبوة التي تحتكم إلى كتاب الله والسنة، سيعود رغم أنوف كثير من الناس حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت صلى الله عليه وسلم.

لا عجب أن نقرأ أن النمرود ينازع الله في ربوبيته، ولا عجب أن نقرأ عن مثل فرعون الذي ادعى الربوبية وفي وقتنا المعاصر ظهر من يقول: إنه هو الأمة.. هو القدر، وأنه هو المجد وأن الناس إنما هم عبيد له أو جرذان أو أنه إذا اهتز عرشه سيحرق الأخضر واليابس.. ذلك الطغيان الذي ظهر في ليبيا من القتل والعنف المفرط وإن كان ثمة شيء اسمه عنف مفرط فقتل النفس وإراقة الدم من الأمور المحرمة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق»(3).

فكيف بالآلاف المؤلفة التي تحصدها الطائرات تحصدها الدبابات أمثال هؤلاء قد طغوا وبغوا في البلاد، والذين جعلوا أنفسهم هم الرموز التي يجب على بقية الناس من الشعوب أن تعبدهم وأن تسمع وتطيع لهم، وأن تخضع لهم. هذا الكلام الذي سمعه ملايين بل مليارات من المسلمين سمعوه بكافة اللغات بتلك الهجمة المتعالية؛ إنه داء العظمة.. إنه طغيان النفس بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى، وأنه سوف يقاتل إلى آخر قطرة من دمه، ولم يجد من ينصره.. إنهم كانوا مظلومين، كانوا إذا رفع الإنسان صوته أودع في غياهب السجون ثم عد من المفقودين لا يعرف أين ذهب، لذلك حاول الالتجاء إلى قبيلته فلم تنجده، بعد ذلك لجاء إلى المرتزقة من أولئك الحقراء الذين يأتون من بلدان ربما يكونون نصارى من أجل أن يغتصبوا نساء المسلمين ويسلبوا أموالهم ويدمروا ويعيثون في الأرض فساداً.. كل ذلك من أجل أن يحافظ هذا الرجل على ملكه وعلى الأموال والثروات التي نهبها من أموال الشعب؛ إنه يدعي أنه لا مال له وها نحن نسمع اليوم أن أكثر من مائة وعشرين مليار دولار أرصدته في بريطانيا وحدها، فماذا يملك في فرنسا؟ وماذا يملك في سويسرا؟ والليالي حبالى يلدن كل عجيب!

أيها المؤمنون!

إن هؤلاء الطغاة ليتكلمون حينما يمدحون أنفسهم لا تظنوا أنهم غير راضين عن هذه النفس بل يعتقدون أن ذلك هو الحق. وهل تعتقدون أنهم يعتقدون أن عامة الناس لا يصدقونهم؟ بل إنهم يعتقدون أن الناس يصدقونهم.

هذا الطغيان سيكون له حد حين ينكسر هذا القيد وينكسر هذا الصمت؛ لأن الحرية لا يوازيها شيء، إن المسلمين حين ينظرون إلى الشعوب الكافرة في أمريكا وفي بريطانيا في فرنسا وفي سويسرا وفي السويد هنا وهناك ينعمون بالحرية وينعمون برغد العيش، ما الذي يفرق بينهم وبين هؤلاء الناس؟ إن الذي يفرق بينهم أولئك الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد:

أيها المؤمنون! هذه الأحداث التي تدور في عالمنا العربي والإسلامي وراءها ما وراءها، لا تصدقوا أن مثل هذه القضايا هي ما تخطط لها أمريكا من الفوضى الخلاقة، كلا بل هي إرادة الله تعالى التي لا نعلم ما وراءها، إن هذه الثورات وهبة الشعوب إنها لا تدعوا إلا إلى الحرية.. حرية التدين.. حرية العمل.. وحرية القول والتعبير، وأن يحيا الناس حياة كريمة، هل تصدقون أن كثيراً من الشباب والشيبة يؤخذون في صلاة الفجر إلى السجون فلا يدري أين هم؟ هل تصدقون أنه كان في تونس لا يدخل المسجد إلا ببطائق؟ إذا أراد أن يدخل مسجد آخر طلب منه البطاقة فيقال له: إنه غير مسموح أن تدخل هذا المسجد، هل تصدقون أنه في الجزائر وفي تونس لا يسمح للمرأة التي تغطي شعرها لها بالوظائف العامة، ولا يسمح لها أن تركب في المواصلات العامة؟ هل تصدقون كل هذا؟ أبعد هذا الطغيان من طغيان؟! كلا والله، لكن الله تعالى لهؤلاء الطغاة بالمرصاد.

إن مثل هذه الفتن ليس لها إلا الرجوع إلى الله عز وجل والاستغفار وتحكيم الشريعة ليس لها سوى العدل والمساواة بين المسلمين ألا تكون هنالك قبلية مفرطة ولا حزبية موغلة ولا شيء من هذا.

إن العدل والمساواة وتحكيم شريعة الله عز وجل هو صمام الأمان لمثل هذه القضايا، ثم الاعتصام بحبل الله عز وجل.

ومن هنا أيها المسلمون إن هيئة علماء اليمن قد انعقدت يوم الإثنين الماضي الثامن عشر من شهر ربيع الأول 1432هـ الحادي والعشرين من شهر فبراير2011م في صنعاء وقررت هذه الهيئة عدة قرارات وأطلقت مبادرة لإخراج اليمن من الفتن والقلاقل وإراقة الدماء تحملاً للمسئولية؛ حتى لا يقول الناس إن العلماء كانوا غائبين أو مغيبين، ومن ذلك أن هيئة علماء اليمن قررت عدة قرارات أقرؤها عليكم باختصار.

القرار الأول: حسن الصلة بالله عز وجل.

ثانياً: الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة كما نص عليها دستور البلد.

ثالثاً: جمع كلمة أبناء اليمن وتوحيد الصف والحفاظ على أمن البلد والتحذير من انقسامه.

رابعاً: الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني جامع يخرج البلد من هذه المحنة.

خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهمية ذلك.

سادساً: إصلاح القضاء وجعله قضاء مستقلاً لا تابعا للسلطة التنفيذية ولا يؤثر عليه من قبل السلطة التنفيذية بحال من الأحوال.

سابعاً: منع أي توقيف واعتقال تعسفي وحظر تعذيب السجناء.

ثامناً: محاسبة كل من باشر وتسبب بضرب أو قتل للمتظاهرين سليما.

تاسعاً: التعجيل بما يلي:

– سحب وإلغاء جميع الإجراءات الانفرادية التي تمت عبر البرلمان.

– إقالة الفاسدين والعابثين بالمال العام.

– تشكيل لجنة متفق عليها من قبل العلماء والقضاة المشهور لهم بالنزاهة للبتِّ في القضايا المتنازع بها بين السلطة والمعارضة وكافة القوى.

عاشراً: ضمان جميع الحقوق والواجبات والحريات في ضوء الشريعة الإسلامية.

الحادي عشر: إعادة دعم السلع الغذائية والدواء والنفط ومشتقاته.

الثاني عشر: التعامل مع المواطنين بالسوية وإزالة أي صورة من صور التمييز حزبية أو قبلية أو مناطقية.

وفي الختام دعت الهيئة إلى ما يلي:

دعوة كافة القوى الخارجية إلى الالتزام باحترام السيادة اليمنية، ومنها أيضا: الدعوة إلى الالتفاف حول هذا البيان ودعوة مشايخ القبائل لتأييد هذا البيان.

هذه مبادرة العلماء بعد مشاورات ومداولات دامت أسابيع؛ بل أشهر من قبل أزمة تونس والعلماء في انعقاد دائم، وكلما أصدروا بيانا رأوا الأحداث تسبقهم ومن ثم رأوا أن يوجدوا مبادرة تتمثل بقضايا ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فكان هذا نتاجها، ثم حدث التواصل أيضا مع السلطة في يوم الثلاثاء وحدث أيضا تواصل مع المعارضة في يوم الأربعاء، ولعله في الأيام القادمة إن شاء الله تعالى ترون مبادرة العلماء تبرز وتظهر وإن كان قد عتم عليها من وسائل الإعلام فالقضية ليست قضية بهرجة إعلامية ولكن القضية هي إرضاء الله تعالى أولا، ثم معذرة إلى ربكم، ثم الحفاظ على البلد وعدم الانقسام والخوف من الحرب الأهلية وإراقة الدماء. هذا هو المقصد الأسمى لهذه الهيئة ولمبادرتها، أسأل الله تعالى أن يكللها بالنجاح.

ختاماً: أيها الإخوة إن مثل وضع البلد ينبغي أن ينادى بالإصلاح وليس بالفوضى، أن يصلح النظام وأن ينتهي من الإخلال وأن يحاسب أولئك الذين يتسببون في الفوضى، ونحن ضد الاضطرابات والقتل وسفك الدماء وضد تقسيم البلاد، فإنه لو جد انفلاتاً أمنياً داخل البلد قد يحدث ما لا يحمد عقباه فربما انشطر الجنوب وربما انشطر بصعدة وربما تمزق الوطن وهذا ما يجب أن تحافظ عليه قلوب أبناء اليمن الشرفاء الوطنيين.

والحمد لله رب العالمين.

_______________________

(1) مسند أحمد 2/231.

(2) البخاري 3/1319.

(3) ابن ماجه 2/874.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى