مقالاتمقالات مختارة

طبيعة الطغيان

طبيعة الطغيان

بقلم د. محمد قماري

لو خيّر الإنسان الراشد بين مرافقة صديق (أحمق) أو عدو (عاقل)، وهذا المعنى جرى على ألسنة العرب في مضرب الحكمة، فقالوا: «عدو عاقل خير من صديق جاهل» ، والجاهل هنا ليس كما قد يتبادر إلى أذهاننا في زماننا هذا، ذاك الذي لم يتلق تعليما ولم يحز على شهادة، إنما الجاهل في عرف العرب قديما هو الأحمق الأخرق الذي لا ينطلق من العقل الراشد في الحكم على الأمور وسياستها…
ولأجل ذلك أطلق القرآن مصطلح (الجاهلية) على حياة العرب قبل الإسلام، وفيهم فطاحل الشعر والبيان، وفيهم من يكتب ومن يقرأ، لكن المنظومة التي كانت تسيّر حياتهم لا رشد فيها، إذ تستغيث في عبادتها بالحجر والشجر، وتدفن البنات أحياء، وتأتي المنكرات كلها، فقد يكون المرء جاهليا وإن حاز على أعلى الشهادات الجامعيّة، لأن تلك الشهادات لم تعمل في تشكيل عقله وصياغة وجدانه…
إن الحكمة العربيّة وهي تتحدث عن (العدو العاقل) و(الصديق الجاهل)، لا تقصد بالجاهل أولئك الذي أصيبوا بالخبل أو المرضى بالحمق، فهؤلاء أمرهم يسير، ولا حيلة لهم في خاصة أمرهم، فالمواهب العقليّة أرزاق، كالمال والعلم والذريّة، وإنما قصدت فصيلا من الناس أوتي من موهبة العقل رزقا، لكنه يتنكب الحق ويرفض الحقائق البديهية لكبر في نفسه وعوج في سجيته، وقديما اعتبر المتنبي مخاطبتهم نوع من البلاء العظيم:
ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن غييه، وخطاب من لا يفهم
والعدو العاقل…بمعنى المخالف، فكثير من الناس يضيق ذرعا بمن ليس على شاكلته، ويرى في صاحب الرأي المخالف (عدوا)، فكما تتبع بعض قطعان الماشية أذناب بعضها بعضا، يضيق صدر بعض الناس بمن تتسع دائرة تفكيره وتتفتح آفاق تدبيره، وهو ما أدركت بلواه الأمم المتحضرة في هذا العصر، وكأنها فهمت خطر الإكراه على البشر، وخنق التنّوع فيهم، فأفسحت لكل ذي رأي مكانا، والعبرة بالتنافس بين أصحاب العقول فيمن يقدم الأجود والأحسن، والأقدر على الإتيان بما (ينفع الناس).
وفي واقعنا عملت كثير من الدعايات على الصاق (التعصب) بفصيل واحد في المجتمع، فالفكر (المغلق) هو ما ارتبط بالدين وتراث الأمة، ولذلك يجب محاصرته بالقول وبالفعل وبالأراجيف، وحلال بعد ذلك على كل الملل والنحل أن تعرض ما عندها، فيكفي أن تذكر (السلفيّة) بمعناها الواسع أي استلهام تاريخنا، حتى تنطلق أبواق تشجب (الماضوية) وتبشر بـ(الحداثة)، فإذا دنوت من هذه الحداثة وجدتها تكفر بعمادها وركيزتها، ووجدت (سلفيّة) أخرى، تعود بك إلى قرون خلت في أوربا…
إن تلك السلفيّة (الحداثيّة) أكثر انغلاقًا في بعض أوجهها من (بعض سلفية) التراث الإسلامي، فهي لا تناقش ولا تفكر إلا ضمن القوالب (المعلبة)، وفي منظور تجربة (القرون الوسطى) الأوربية وتكفر بما وراءها، ولقد استطاعت أن تشنق كل سلفي تراثي بأمعائه لفعلت…وهي في سعيها ذلك تنتقل من منطق (الرفاق) اليساري إلى منطق (العولمة) اليميني في انتهازية منقطعة النظر في تاريخ الفكر.
ولقد ذكر القرآن الكريم منطق الطغيان وطبيعته، يوم وضع ذلك السؤال الاستنكاري عقب ذكر رفض أجيال من أقوام الرسل لمنطق الحجاج والمقابلة، حتى بدا المشهد وكأن السلف يوصي الخلف بذلك المنطق (الجاهل)، قال تعالى: «كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ؛ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ» (الذاريات/53)…
يا الله، يا لها من طبيعة تركن إلى الأراجيف (ساحر أو مجنون) لا يهم، المهم هو تمرير الأراجيف وتحييد الخصم بالوسم الذي ينقص من قيمته…سواء أكان ساحرا أو مجنونا أو رجعيا أو ماضويا أو متخلفا أو قرن أوسطيا أو ما شاء ألفاظ القاموس أن تحمل، العبرة بالتحييد وتضليل العقل ومصادرة الوعي، وهذا منطق يسري عبر الزمن، ليس من الضروري أن ينتقل بقوانين الوراثة، ولا بالتوصية بل هو منطق وطبيعة معوجة تتنكب (المنطق السليم) وترفض الحجاج المبصر…
جاءت هذه الآية تعقيبا عن معاناة تلك الكوكبة من رسل الله، عليهم السلام، إلى أقوامهم على مختلف الإثنيات ومختلف المناطق ومختلف العصور، لكن طبيعة الطغيان واحدة (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ…)، الأراجيف نفسها والدعايات (السوداء) ذاتها، ربما اختلفت العبارات قليلاً، لكنها تصب في خانة (الساحر) الذي لا يركن إلى الملموس أو (المجنون) الذي غادر واقع دنيا الناس…
تلك هي الماضوية التي غادرت واقع الناس، وتلك هي (الأصولية) التي اغرقت في البحث عن الجذور، دون النظر إلى ما هو فوق السطح…

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى