مقالاتمقالات مختارة

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

بقلم د. محمد عمارة

عندما نقرأ في “تقرير اليونسكو” عن عام 2016م “أن 1% من سكان العالم يمتلكون نصف ثراوات العالم، وأن 62 مليارديرا يمتلكون ثروة تعادل ما يمتلكه 3.5 مليارات من سكان العالم، أي نصف البشرية”، وعندما تنشر منظمة “أوكسفام” “أن 20% من دول العالم – الذين هم سكان الشمال – يستحوذون على 85% من مدخرات العالم وخيراته”، نتذكر أعظم وأعمق ما كتب في الفكر الإنساني عن الاستبداد، كتاب المجدد المجاهد الشهيد عبد الرحمن الكواكبي (1270 – 1320هـ ، 1854 – 1902م) “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الذي حلل فيه منابع ومصادر الاستبداد ومظاهره ومخاطره وطرق مقاومته والخلاص من شروره.

وفي هذا الكتاب الفذ تحدث الكواكبي عن الاستبداد المالي – استبداد القلة بمعظم الثروة – فقال ضمن ما قال: “إن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقون ذلك في الرفه والإسراف، مثال ذلك، أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحيانا متراوحين بين الملاهي والمواخير، ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام”.

ثم أهل الصنائع النفسية والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة، ويقدرون كذلك بخمسة في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع، وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره.

وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلا، إنما يعيشون بالحيلة، كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب أو الدين، وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك.

ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد، يذلهم فيئنون ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها.

وإن الأكابر حريصون على أن يبقى الاستبداد مطلقا، لتبقى أيديهم مطلقة في الأموال.

وكما تستند “الفرعونية السياسية” إلى “القارونية المالية” فإنها تستند كذلك إلى قوة الجند والجندية.

وفي الحديث عن دور العسكر والعسكرة والجند والجندية أبدع الكواكبي في تشخيص هذا الداء العضال، فكتب يقول: “أما الجندية، فإنها تفسد أخلاق الأمة، حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط وفكرة الاستقلال، وإذا كان الشيطان هو مخترع الجندية، فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم”!

وعلى حين ظن البعض – ولا يزالون يظنون – أن الاستبداد مركوز فقط في السلطة السياسية، نبه الكواكبي إلى القوى العديدة الداعمة للاستبداد السياسي، ومنها: قوة الإرهاب بالعظمة وقوة الجند وقوة المال وقوة الألفة على القسوة وقوة رجال الدين وقوة أهل الثروات وقوة الأنصار من الأجانب.

وقبل أن يكتب “لينين” (1870 – 1924م) كتابه “الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية”، تحدث الكواكبي عن دور الرأسمالية الربوية في الاستعمار، وذلك عندما “تُقوي الاستبداد الخارجي، فتسهل للأمم التي تغنى بغناء أفرادها التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة، ولذلك يجب تحريم الربا تحريما مغلظا”.

وإذا كان البعض قد اكتفى – في مقاومته الاستبداد – بتغيير رأس السلطة المستبدة، فإن الكواكبي قد سمى ذلك “حماقة” عندما قال: “إن الثورة الحمقاء تكتفي بقطع شجرة الاستبداد، ولا تقتطع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولا”.

إنه كتاب الساعة، ولكن الكثير لا يفقهون!

(المصدر: عربي 21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى