مقالاتمقالات مختارة

“طالبان”.. بين الإسلام والإرهاب!

“طالبان”.. بين الإسلام والإرهاب!

بقلم د. حلمي القاعود

أضحت جماعة “طالبان” الأفغانية محط اهتمام دولي وإقليمي ومحلي، بعد إرغامها الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها (36 دولة) على الانسحاب من أفغانستان التي احتلتها عقب أحداث برجي التجارة في نيويورك (11/ 9/ 2001م)، وجعل الحكومة المحلية التي أقامها الغزاة الأمريكيون في مهب الريح، وطلب نحو أربعمائة ألف أفغاني ممن تعاونوا مع الاحتلال مغادرة بلادهم خوفاً من العقاب بسبب خيانة الوطن!

عقب الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، وتشرذم المجاهدين الأفغان بسبب الفتنة التي صنعتها الأجهزة المخابراتية العالمية، استطاعت “طالبان” المكونة من طلاب المعاهد الإسلامية في البلاد أن تقضي على القوى المتصارعة، وتوحد البلاد وتنهي الحرب التي أصابت كل بيت في أفغانستان!

بيد أن قوى الإرهاب العالمي الحقيقية لم تترك أفغانستان وشأنها، ولكنها انطلقت تشوه صورتها بالحق أو بالباطل، وتنتقد مواقفها السياسية والاجتماعية، وتعدها بؤرة للإرهاب العالمي، ومركزاً لتجميع الإرهابيين من كل مكان لمجرد إعلانها أنها تريد أن تقيم دولة إسلامية، وما كادت عملية تفجير برجي التجارة تقع في نيويورك حتى سارعت الولايات المتحدة دون تحقيق دولي أو إثباتات قضائية تتهم تنظيم “القاعدة” الذي تستضيفه جبال تورا بورا بأفغانستان بتدبير حادث التفجير، وتحشد قواتها لمعاقبة الشعب الأفغاني كله، وتسقط حكومة “طالبان”، وتقيم حكومة موالية بقيادة أحد الأفغان الذي يحملون الجنسية الأمريكية، ويدعى حامد كرازاي!

قتل.. وتشهير!

قتلت الولايات المتحدة أكثر من نصف مليون أفغاني ودمرت بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم، وظلت على مدى عشرين عاماً تحارب الشعب الأفغاني وتعمل على سلخه من دينه، وفرض الثقافة الغربية عليه، والتركيز على إخراج المرأة الأفغانية من دينها، وتعريتها، واستغلال بعض الحوادث مثل حادثة الفتاة “ملالا” للتشهير بالإسلام والأفغان جميعاً، ومنحها بعض الجوائز وتقديمها في المؤتمرات والندوات بوصفها ضحية من ضحايا الإرهاب الإسلامي!

عشرون عاماً والولايات المتحدة تحارب الأفغان عن طريق الضرب المباشر، أو بواسطة الجيش الذي أقامته للحكومة التابعة لها، ودعمته بأحدث الأسلحة والمعدات، ولكن جماعة “طالبان” التي تنتمي إلى حاضنة شعبية قوية من القبائل والطبقات الأفغانية استطاعت بإيمانها القوي بالله ثم بالجهاد، أن تواجه الغزاة وأتباعهم وأن تنزل بهم خسائر ليست بالهينة مع تضحيات جسيمة من جانبهم، وبين كرّ وفرّ، لم يجد الغزاة بداً من المغادرة والانسحاب، عقب مفاوضات طويلة وشاقة في العاصمة القطرية الدوحة.

طريق التضحيات

لم تُلقِ الولايات المتحدة بالاً للأتباع الذين عملوا معها، ولم تهتم بمصيرهم إلا من خلال تصريحات هلامية تعمّق المخاوف أكثر مما تجلب الأمان.

أثبت قتال “طالبان” ضد الغزاة، أن التضحيات هي الطريق الأمثل لتحقيق الحرية والاستقلال، فقد استطاع الأفغان على مدى قرن ونصف قرن أن يهزموا الإمبراطوريات الثلاث: الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، والإمبراطورية السوفييتية التي استخدمت الغاز الأصفر لإبادة البشر والحجر، والإمبراطورية الأمريكية التي جربت ضد الشعب المسلم أحدث الأسلحة، وأقوى وسائط الدعاية، بما فيها معظم الإعلام العربي والإسلامي الذي كان- وما زال- يصف “طالبان” بـ”الإرهابية”!

الطريف أن خدام الغرب واليهود والاستبداد من النخب الثقافية والإعلامية في بلاد العرب والمسلمين، لم يفرحوا لتحرير أفغانستان من قبضة الغزاة الظالمين، ولكنهم أبدوا انزعاجهم لما يمكن أن يكون عليه وضع المرأة الأفغانية في ظل الإمارة الإسلامية الظلامية، ومن رؤية “طالبان” للشريعة الإسلامية.. لم ينزعجوا للضحايا الذين قضوا بسبب القتل الذي مارسه الأمريكيون وحلفاؤهم ضد الأفغان، ولا الأرامل واليتامى الذين تخلفوا عن هذا القتل، ولم تتمعر وجوههم خجلاً مما أحدثته عمليات القصف الاستعماري؛ من تهديم للبيوت والمدارس والمساجد والمحلات والأسواق.. إن المرأة التي أسفرت هي التي يخافون عليها من العودة إلى تقاليدها القبلية التي يرونها بالضرورة تقاليد الإسلام!

حرية المرأة

مأساة أن تجد نخباً على مستوى عال من الثقافة تتجاهل حرية الشعب ومعاناته، ولا تتذكر إلا ما تسميه حرية المرأة، لا يعنيها مصير البلاد التي دمرها أعداء الإسلام، ولا مستقبلها الغامض في ظل التآمر الاستعماري الذي يتربص بكل بلد إسلامي ينشد الحرية والكرامة والتعبير عن عقيدته!

كتب أحدهم أن أفغانستان تمر بمرحلة صعبة وخطرة، بالنسبة لأهلها، ومحيطها الإقليمي والدولي، فهي كما يقول المذكور منكوبة بعملية إرهاب أسود تقودها حركة “طالبان” التي ترفع شعار حكم الشرع الإسلامي، وهي أول من تتجاوز قواعده وتنقض مبادئه السامية.. والسؤال البسيط جداً لهذا الكاتب: هل مقاومة الغزاة القتلة إرهاب أسود؟ وما علاقة الشرع الإسلامي بنكبة أفغانستان؟

وما معنى أن تكون “طالبان” إرهابية؟ هل تجاوزت حدود بلادها وقتلت أبرياء، أو اختطفتهم رهائن، أو اعتدت على آمنين لا علاقة لهم باحتلال بلادهم؟ لقد حاربت “طالبان” الغزاة، وقاتلتهم وضحت من أجل استقلال الشعب الأفغاني، أما رغبتها في تطبيق الشريعة الإسلامية بمنظورها الخاص، فهو أمر استوجب كثيراً من النقاش والمراجعة على مستوى العالم الإسلامي، وقد يكون لبعض العلماء مآخذ وملاحظات على ما تسميه “طالبان” تطبيق الشريعة الإسلامية، وخاصة في مسألة تقديم الأولويات، مثلما قامت بتكسير تماثيل بوذا التي نُصبت في بعض الأماكن الأفغانية، فهاج العالم الكاره للإسلام، وشن حملة صاخبة ضدها، لم يفعلها أبداً يوم قتل الغزاة السوفييت والأمريكان مئات الألوف من مسلمي أفغانستان!

مراقبون غربيون

فيما يتوقع الآن من خلال مفاوضات “طالبان” مع الأمريكيين والوسطاء الدوليين في الدوحة وعواصم أخرى، وتصريحاتهم السياسية والدبلوماسية، تبدو قيادات الحركة أكثر نضجاً ووعياً في مجال التعامل السياسي والدولي، وهو ما يشكك فيه المتهوّدون والمتنّصرون وأعوان الاستبداد في بلادنا العربية.

وللأسف، فإن تطور قيادات “طالبان” الذي أكد عليه المراقبون الغربيون والروس لا يعجب خصوم الإسلام من العرب حيث يشككون في تغيرهم وتطورهم ونضجهم، بل يصمون الأفغان بنقيصة النفاق والخيانة (للأعداء الغزاة)!

خصوم الإسلام يرون أن الحركة لا تنظر إلى الحوار مع الحكومة إلا وسيلة لتخفيف الضغوط السياسية عليها، ومع أن لقاءات عدة عقدت في الدوحة وطهران بين الحركة والحكومة؛ فلم يصل الحوار إلى نتائج محددة كما يقولون، وكل ما تؤكد عليه “طالبان” هو الإفراج عن المسلحين التابعين لها، وهم في حدود 8 آلاف مسلح، ولا يخفى أن الغرض الرئيس هو دعم القوة البشرية للحركة في مواجهة الجيش الأفغاني الذي بات عليه مهمة الدفاع عن البلاد(؟!)، ومنع وقوعها في حالة فوضى تسعى إليها “طالبان” بقوة.. أما التوصل إلى تسوية سياسية وأن تكون الحركة شريكاً في الحكم إلى جانب القوى السياسية الأخرى، فهو لا يمثل لها أي اعتبار، حيث يسودها شعور جارف بالقوة والقدرة غير المتناهية على السيطرة الكاملة على الحكم بدون منازع، وإعلان إمارة إسلامية!

إمارة إسلامية

هكذا يخاف خصوم الإسلام العرب على الحكومة التي أقامها الاحتلال، ويرون أن استقلال أفغانستان تحت حكم أهل البلاد الخالص أمر مزعج لهم، لأنه سيؤدي إلى قيام إمارة إسلامية، وهو ما لا يريدونه، فالإسلام محظور على المسلمين، بينما اليهودية حق لليهود! يا للعجب!

في المقابل، نجد مسؤولاً روسياً رفيعاً (التلفزيون العربي الروسي 2/ 7/ 2021م) يرى أن حركة “طالبان” الأفغانية مرت بتغيرات مهمة خلال العقدين الأخيرين، ليصبح الجيل القديم فيها يدعم الحلول الوسط، فيما يبقى جزء منها متمسكاً بمواقف متشددة.

وقال: “الشباب مقتنعون بأنهم يقاتلون من أجل تحرير وطنهم من الغزاة الأجانب ومن أجل قيم الإسلام كما يرونها”.

واستدرك قائلاً: “لكن أنصار هذا الجزء المتطرف من الحركة هم الذين يموتون الآن في المعارك المستمرة في البلاد”.

من الواضح أن الروس غير المسلمين أكثر إنصافاً للأفغان من العرب الذي يحملون أسماء إسلامية، ويؤيدون الغزو الأجنبي لأفغانستان، ويتجاهلون جرائم هذا الغزو المريعة، ويصرون على تجريم “طالبان” التي تجاهد من أجل الحرية والاستقلال.

التحريض على “طالبان”

ولا ينقضي العجب من هؤلاء العرب المنحازين للاحتلال الأجنبي الصليبي ضد إخوتهم المسلمين في أفغانستان، حين يحرضون عليهم ويطالبون بمحاكمتهم دولياً لردعهم، فهم يرون تحرير البلاد سيطرة وهيمنة من جانب مسلحي الحركة، الذين يقومون ببث الرعب لدى السكان، ويفرضون عليهم إطلاق اللحى والتبرؤ من العمل في الدوائر الحكومية، “والويل لمن يبدى قدراً من الممانعة!”، كما ينفذون عمليات إعدام فورية في أماكن عامة لمنتسبي الحكومة والجنود النظاميين الذين تنفد ذخائرهم أثناء الدفاع عن مواقعهم، ويستشهدون بتقارير أمريكية (!) تشير إلى إعدام مجموعة من الجنود على أيدي مسلحي الحركة بعد اضطرارهم للاستسلام، معتبرة أنها جريمة حرب تتطلب موقفاً دولياً رادعاً.

كأن قوات الغزو الصليبي لم ترتكب جريمة واحدة ضد الإنسانية، وهي التي دمرت قرى وأحياء بأكملها، واستخدمت الأسلحة المحرمة دولياً للتجريب في الأفغان البائسين، فقتلت أكثر من نصف مليون رجل وامرأة وطفل!

تحقيق تلفزيوني

في يوم عرفة، كنت أقلب شاشة القنوات، فرأيت قناة “الحرة” التي توجهها المخابرات الأمريكية لتشوّه الإسلام والمسلمين، تعرض تحقيقاً تلفزيونياً عن جماعة مسيحية تسمى الأميش وهي طائفة مسيحيَّة تتبع الكنيسة المنيونيَّة، نشأت في العصور الوسطىّ، ويعيش أكثرهم الآن في ولاية بنسلفانيا لأسباب متنوعة، ويتحدثون اليوم لغة بنسلفانيا الألمانية، ولا يزال معظم الأميش يُنجبون ستة أو سبعة أطفال، ويتبعون قواعد كنيسة الأوردونونج التي تشمل العديد من جوانب الحياة اليومية، بما في ذلك المحظورات أو القيود المفروضة على استخدام خطوط الكهرباء، والهواتف، والسيارات، وكذلك اللوائح المتعلقة بالملابس، ويطلق الرجال لحى كثيفة… تحت رعاية العيش بما يفسرونه على أنه كلمة الله، كما يحافظون على درجة من الانعزال عن العالم غير الأميشي، ويتوقف الأميش عن التعليم الرسميّ بعد الصف الثامن، في سن 13 أو 14 عامًا، حتى يبلغ الأطفال 16 عامًا، يتلقون تدريبًا مهنيًا تحت وصاية والديهم والمجتمع ومعلم المدرسة، أما التعليم العالي فلا تشجيع عليه، لأنه يمكن أن يؤدي إلى الفصل الاجتماعيّ وتفكك المجتمع.

مقارنة

قارنت بين “طالبان” أو المجتمع الأفغاني والأميش، هؤلاء مسلمون، وأولاء إنجيليون، هؤلاء أوفياء لتقاليدهم ومعتقداتهم، وأولاء أوفياء لتقاليدهم ومعتقداتهم التي لا تصل المرأة الأميشية من خلالها للتعليم الجامعي إلا من أجل أن تكون قابلة (داية) تقوم بتوليد النساء، والمجتمع الأميشي يكاد يكون منعزلاً عن بقية المجتمع الأمريكي.. لا يتفوه الإعلام العربي المخاصم للإسلام بكلمة عن هؤلاء وبقية الطوائف الكنسية التي تكاد تعيش في القرن الأول للميلاد مثل طائفة المورمون مثلاً!

المشكلة عند خصوم الإسلام العرب أن جانب الإسلام ضعيف، ويسهل نهشه وتمزيقه في سياق يجرّم المسلم أولاً، ثم عليه بعدئذ أن يبحث عن البراءة التي نادراً ما يحصل عليها.

إن الإعلام العربي (وأقول الإعلام تجاوزاً لأنه دعاية موجهة لا تسمح لرأي مغاير) يقدم لنا “طالبان” معادية للجغرافيا والتاريخ والإنسانية، لأنها تتحدث عن الإسلام، وتسمى الدولة ولاية إسلامية!

أهداف الحركة

لقد أعلنت “طالبان” على لسان الناطق الرسمي باسمها الملا عبدالمنان نيازي يوم 3/ 11/ 1994م أن هدف الحركة هو استعادة الأمن والاستقرار وجمع الأسلحة من جميع الأطراف إضافة إلى إزالة مراكز جمع الإتاوات من الطرق العامة التي سلبت الناس أموالهم وانتهكت أعراضهم، وبعد أن لقيت قبولاً مبدئياً لدى قطاعات عريضة من الشعب الأفغاني الذي أنهكته الحرب الأهلية، طورت الحركة من أهدافها ليصبح هدفها هو إقامة حكومة إسلامية كما صرح بذلك الملا محمد عمر في كلمته التي ألقاها أمام العلماء في قندهار يوم 4/ 4/ 1996م، وقد نشرت الحركة أهدافها على النحو التالي:

إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة.

أن يكون الإسلام دين الشعب والحكومة جميعاً.

أن يكون قانون الدولة مستمداً من الشريعة الإسلامية.

اختيار العلماء والملتزمين بالإسلام للمناصب المهمة في الحكومة.

قلع جذور العصبيات القومية والقبلية.

حفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية.

توثيق العلاقات مع جميع الدول والمنظمات الإسلامية.

تحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية.

التركيز على الحجاب الشرعي للمرأة وإلزامها به في جميع المجالات.

تعيين هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع أنحاء الدولة.

قمع الجرائم الأخلاقية ومكافحة المخدرات والصور والأفلام المحرمة.

استقلال المحاكم الشرعية وفوقيتها على جميع الإدارات الحكومية.

إعداد جيش مدرب لحفظ الدولة الإسلامية من الاعتداءات الخارجية.

الإرهاب الحقيقي

هذه هي أهداف الحركة قبل ربع قرن تقريباً، تعلي شأن الإسلام، وتراعي أهل الذمة (غير المسلمين) وتحميهم وتحفظ حقوقهم كما ورد في الشريعة الإسلامية، ولكن خصوم الإسلام العرب وغيرهم أشعلوا نيران الغضب ضد الحركة وضد الإسلام جميعاً ووقفوا إلى جانب المحتل القاتل الظالم، ولم يوجهوا إليه كلمة انتقاد، مثلما لا يوجهون كلمة واحدة إلى القتلة المأجورين من عصابة “فاغنر” الروسية التي تعيث في بلاد المسلمين فساداً، وتقتل بلا رحمة ولا ضمير، وتأمل ما تفعله هذه العصابة في سورية وليبيا والساحل الإفريقي، وإفريقية الوسطى وغيرها.

الإرهاب الحقيقي تقوده الجيوش الصليبية الهمجية، وعصابات “فاغنر” الدموية، ولا أحد يتكلم عنه في بلادنا المسالمة للعالم عدا شعوبها!

المصدر: مجلة المجتمع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى