مقالاتمقالات مختارة

ضرورة الالتزام بالسن المقررة شرعاً في الأضاحي

ضرورة الالتزام بالسن المقررة شرعاً في الأضاحي

بقلم د. عبد الآخر حماد الغنيمي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فمن السنن الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم سنة الأضحية ، وقد ثبت في السنة الصحيحة تحديد الشروط الواجب توافرها في الأضحية ، ومنها شرط السن حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم (1963) من حديث جابر رضي الله عنهما : ( لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ) ، والجذعة من الضأن هي ما أتمت ستة أشهر عند الحنفية والحنابلة ، وأما المالكية والشافعية فعندهم ما أتمت سنة ، والحديث يدل على أنه لا يجزئ في الإضاحي من غير الضأن إلا المسنة ، وسيأتي تفسير المسنة بعد قليل .

وظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن لا تجزئ إلا عند عدم وجود المسنة ، لكن هذا الظاهر غير مراد ، بل يجوز التضحية بالجذعة من الضأن سواء وجدت المسنة أم لا ، وذلك لوجود أحاديث أخرى صحيحة تدل على جواز التضحيةبالجذعة من الضأن بإطلاق ،وذلك مثل حديث عقبة بن عامر قال : ( ضحينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن ) [ أخرجه النسائي (4382) وصححه ابن حبان (5904 ) وكذا قوى إسناده الحافظ في الفتح ( 10/ 15 ) وصححه الألباني في إرواء الغليل ( 1146) ] . وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال: (كنا مع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له مجاشع من بني سليم فعزت الغنم ، فأمر منادياً فنادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إن الجذع يوفي ما يوفي منه الثني ). [ أخرجه أبو داود ( 2799) وابن ماجه ( 3140) وصححه الألباني]

ولهذا قال الإمام النووي في شرح حديث : لا تذبحوا إلامسنة : ( هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل ، وتقديره :يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزي بحال ، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه ) .

ولهذا الحديث وغيره اتفقت كلمة العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم على أنه لا يجزئ في غير الضأن إلا المسنة وتسمى أيضاً الثنية ، قال ابن قدامة الحنبلي في المغني ( 11/ 100) : ( ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من غيره ، وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي ).

ولكنهم اختلفوا في تحديد المقصود بالمسنة : فالمسنة من المعز هي ما أتم سنة عند الحنفية والمالكية والحنابلة ، وما أتم سنتين عند الشافعية ، والمسنة من البقر هي ما أتم سنتين عند الحنفية والشافعية والحنابلة ، وما أتم ثلاث سنين عند المالكية ،وأما المسنة من الإبل فهي ما أتم خمس سنين عند المذاهب الأربعة .

وهذا الذي عليه الأئمة الأربعة وغيرهم من أنه لا يجزئ في الأضاحي إلا الجذع من الضأن والمسنة من غيرها هو الذي ظل أهل العلم يفتون به من قديم ، إلا أننا وجدنا في عصرنا هذا من يقول بأنه ليس من الضروري الالتزام بالسن المحددة شرعاً للأضحية ،وأنه يكفي أن تكون الذبيحة كبيرة الوزن ولو كان سنها لم يصل إلى السن المعتبرة شرعاً ، وهم يبررون قولهم هذا بأن وفرة اللحم في الذبيحة هي المقصد الشرعي من تحديد هذا السن، فلو حصلت وفرة اللحم أغنت عن شرط السن.

وهذا الذي قالوه غير صحيح لما يأتي :

أولاً : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صدرنا به كلامنا : ( لا تذبحوا إلا مسنة …. ) وهو دليل قاطع كما ذكرنا على أنه لا يجزئ في غير الضأن إلا المسنة ،وقد ذكرنا تفسيرها.

ثانياً : ما أخرجه البخاري ( 5556) ومسلم ( 1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : (ضحَّى خال لِي يُقال له أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شاتك شاةُ لحم فقال : يا رسول الله إن عندي داجِناً جَذَعَةً من المعز . وفي رواية : عَناقاً جَذَعَةً ، وفي رواية عند البخاري ( 5563) : فإن عندي جذعة هي خير من مسنتين أأذبحها ؟ قال : اذبحها ولن تصلح لغيرك ، وفي رواية : لا تجزئ عن أحد بعدك ، وفي رواية : ولا رخصة فيها لأحد بعدك . ثم قال صلى الله عليه وسلم : من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه ، وأصاب سنة المسلمين ) .ففي قوله صلى الله عليه وسلم : (ولا تجزئ عن أحد بعدك) الدلالة الواضحة على أن مَنْ بَعدَ ذلك الصحابي لا يجزئ عنه من المعز -ومثلها البقر والإبل – إلا المسنة ، وقول أبي بردة : ( فإن عندي جذعة هي خير من مسنتين ) فإن كونها خيراً من مسنتين يعني أنها سمينة طيبة اللحم ، ومع ذلك لم تجز التضحية بها إلا على وجه الخصوصية لأبي بردة رضي الله عنه ، قال الإمام ابن القيم في تهذيب السنن ( 4/102 ): ( أما حديث أبي بردة بن نيار فلا ريب في صحته ،وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في الجذعة من المعز : ولن تجزئ عن أحد بعدك ، وهذا قطعاً ينفي أن تكون مجزئة عن أحد بعده). وقد ذكر الحافظ في الفتح ( 10/ 16) أن مما يؤخذ من هذا الحديث : ( أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد يخص بعض أمته بحكم ويمنع غيره منه ،ولو كان بغير عذر ) .

ثالثاً : أن هذا الذي ذكرناه قد حكى الإجماع عليه غير واحد من أهل العلم ،منهم الإمام النووي في المجموع وإن أشار رحمه الله في آخر كلامه إلى وجود خلاف ضعيف في المسألة حيث قال في المجموع (8/ 366) : ( أجمعت الأمة على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني ، ولا من الضأن إلا الجذع ،وأنه يجزئ هذه المذكورات إلا ما حكاه بعض أصحابنا عن ابن عمر والزهري أنه قال : لا يجزئ الجذع من الضأن. وعن عطاء والأوزاعي أنه يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن ) .

هذا وقد رأيت بعض من يرى الاكتفاء بوفرة اللحم يستدل بالقول المحكي عن عطاء والأوزاعي في أنه يجزئ الجذع من كل شيء ، وهذا مسلك عجيب إذ إنه من المعلوم أنه ليس كل خلاف جاء يعتبر ، بل لا بد أن يكون له حظ من النظر ، فإذا كانت السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على حكم معين فلا يجوز لنا أن نخالف قوله صلى الله عليه وسلم لقول أحد ،ولو كان من أكابر أهل العلم الذين نحبهم ونُجلهم ، هذا فضلا عن أنه قول محكي عنهما والله أعلم بصحة ثبوته عنهما ، ثم إن الواجب على أهل العلم ألا يتتبعوا رخص العلماء وشواذ مسائلهم ، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم من قديم ،فإنه ما من عالمٍ إلا وهو معرض أن يكون له هفوة أو مخالفة أو شذوذ ، فلا يصح أن يعتبر ذلك الشذوذ أصلاً تبنى عليه الأحكام .

ثم إن هذا المنقول عن عطاء والزهري من جواز التضحية بالجذعة من كل شيء ليس فيه اشتراط أن تكون الذبيحة وافرة اللحم ، بل المفهوم من كلامهما أن الجذعة تجزئ ولو كان وزنها قليلاً فمن أين جئتم أنتم بشرط أن تكون وافرة اللحم ؟

وإذا صح لأحد أن يفتي بهذا المنسوب إلى الأوزاعي وعطاء فإنه يصح لغيره أن يفتي بما ذكره النووي أيضاً عن ابن عمر والزهري من أنه لا يجزئ الجذع من الضأن أيضاً ، وأنه لا بد أن تكون مسنة ، والمسنة من الضأن هي عند بعض أهل العلم ما له سنة ،وعند بعضهم ما له سنتان .

وإذن فالمسلك الصحيح في مثل هذه الحالة أن نطرح الرأيين المتقابلين اللذين يظهر فيهما الشذوذ ،ونأخذ بالرأي الوسط الذي صحت به الأحاديث والذي عليه جماهير أهل العلم من قديم وهو جواز التضحية بالجذعة من الضأن وبالمسنة من غيرها والله أعلم .

رابعاً : ليس صحيحاً أن المقصود من الأضحية هو اللحم فقط ، بل الذبح نفسه عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل ، ويدخل في المقصود من الأضحية تعظيم شعائر الله عز وجل ، وكذلك الامتثال لأمر الله عز وجل بذبح الأضاحي إحياءً لسنة الخليلين عليهما السلام ،وتحصيل تقوى الله عز وجل بالإخلاص في تلك العبادة ، كما قال تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) [ الحج : 37].

خامساً : وأخيرا فإني أعلم أن بعض من يقرأ كلامي هذا سوف يتهمنا بالتشدد والتنطع وأن كلامنا هذا يخالف كلام بعض العلماء الرسميين ،ومن أجل ذلك أحببت أن أنقل فتوى شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق رحمه الله الصادرة في صفر 1402هـ في نفس الموضوع ،وذلك جواباً على سؤال ورد لدار الإفتاء من الناصرة بفلسطين ملخصه أن بعض الناس عندهم يربون البقر الهولندي والذي يبلغ وزن البقرة منه بعد مضى عشرة أشهر فقط من ولادتها 230 كيلو جراماً ،وأنه إذا بقى رأس البقر بعد هذه المدة لا يزيد وزنه شيئا ، ويخسر صاحبه علفه وتربيته بدون فائدة، فهل تجوز الأضحية برأس البقر الذى هذا وزنه ؟ وإن كان سنه أقل من السن المقررة فى كتب الفقه ،وهل المعتبر فى الأضحية كثرة لحمها، أم المعتبر هو سنها الذى حدده الفقهاء، بحيث إذا نقصت عن السن لا تجوز التضحية بها ؟

فكان من جواب الشيخ رحمه الله أن بيَّن أولاً أنه قد جرى فقه أئمة المسلمين على أنه لا يجزىء فى الأضحية إلا الأنعام، وأن أقل ما يجزىء فى الأضحية الجذع من الضأن، والثنية من المعز وغيرها ، ثم قال رحمه الله : ( وتحديد سن الأضحية توقيفى، بمعنى أنه ثابت بالسنة الصحيحة أن الجذع من الضأن كافٍ تجوز به الأضحية، أما من غيره فلا تجزىء ،وليست الحكمة فى هذا – والله أعلم – كثرة اللحم مع تلك السن أو قلته مع هذه، وإنما الحكمة كما نقل بعض الفقهاء أن الجذع من الضأن يلقح أنثاه، ولا يلقح الجذع من غير الضأن أنثاه ….لما كان ذلك : لم تجزىء الأضحية من البقر المسئول عنه مادام سنه منذ ولادته عشرة أشهر، ولابد لجوازه أضحيةً مشروعةً أن يكون له عامان ودخل فى الثالث على ما تقدم بيانه ،لأن الاعتبار لبلوغ سن التلقيح لا لكثرة اللحم) ..[ يمكن الرجوع لنص الفتوى على هذا الرابط :http://islamport.com/w/ftw/Web/953/79.htm]

هذا والله تعالى أعلى وأعلم

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى