مقالاتمقالات مختارة

ضبط وعلاج الصراع الاجتماعي

الصراع الاجتماعي: هذه الظواهر التي تتصل بما يعرف بالصراع الطبقي، وهو صراع ينشأ في المجتمعات الحديثة من وجود من يملك في مقابل من لا يملك ، وهذا هو ما يقوله المفكرون المعاصرون ، وهذا هو السبب الأساسي للصراع الاجتماعي . وقد تكون هناك أسباب أخرى لهذا الصراع ، ولا تتصل بظاهرة الملكية ، ولكن مثل هذه الأسباب لا تدخل في بحثي ، ولذلك لن أتعرض لها .

كيف يعالج الإسلام ، بواسطة منهجه في تشغيل الملكية واستخدامها ، الصراع الاجتماعي ؟ وكيف يعمل على ضبط هذا الصراع ، بحيث لا يدمر المجتمع كما يشاهد الآن في عالمنا المعاصر ؟ بل وكما نشاهده في البلاد الإسلامية ، والتي لا تأخذ بالمنهج الإسلامي ككل ، ولا تأخذ بالمنهج الإسلامي في الاستثمار وتنظيم المال خاصة ؟ هذه الأسئلة وغيرها هي التي أحاول الإجابة عليها ، وذلك بهدف أن أحدد التصور الإسلامي ، لضبط وعلاج الصراع الاجتماعي في إطار موضوع دراستنا .

يعمل الإسلام على علاج وضبط الصراع الاجتماعي بوسائل متعددة ، وفي تقديري أن هذه الوسائل كلها تُجمع في مبدأ واحد هو: تقرير حقوق للجماعة الإسلامية على المال ، وبواسطة تقرير هذه الحقوق يهدف الإسلام إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي بدورها تعمل على علاج وضبط الصراع الاجتماعي ؛ وهكذا يتحدد ويتشكل المنهج الإسلامي لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي .

أعرض بعض الآدلة والأحكام الإسلامية التي أعتقد أنها تتعلق وتتصل بالمنهج الإسلامي لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، ومن خلال ذلك أحاول أن أحدد الأهداف التي يستهدفها الإسلام ، وذلك لاستخدامها كوسيلة للعلاج وللضبط .

1- أعرض أولاً قصة قارون ، يقول الله تعالى عن قارون :

( إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتينه من الكنوز مآ إنّ مفاتحهُ لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدّار الأخرة ولا تنسَ نصيبك من الدُنيا وأحسن كمآ أحسنَ الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إنَّ الله لا يُحبُ المُفسدين قال إنَّما أُوتيتُهُ على علمٍ عندي أو لم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرونِ من هو أشدُّ منه قوةً وأكثرُ جمعاً ولايُسألُ عن ذُنُوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحيوة الدنيا يليت لنا مثل مآ أُوتي قرون إنه لذو حظٍ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صلحاً ولا يلقاها إلا الصّابرُون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان لهُ من فئةٍ ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنّوا مكانهُ بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عبادهِ ويقدرُ لولا أن مّنّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدارُ الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبةُ للمتقين ) (( القصص : 76 ـ 83 )) .

تصور هذه الآيات قصة قارون كواحد من الأغنياء رزقه الله مالاً وفيراً ، ولكنه لم يراع حق الجماعة في هذا المال . ويمكن بالنظر إلى الآيات السابقة أن أعدد الجوانب التي لم يراع فيها قارون حق الجماعة على النحو التالي :

الجانب الأول : يتمثل في أن قارون استغل هذا المال ، أو اتخذه وسيلة للتعالي على أفراد جماعته التي يعيش فيها ويصور ذلك : (( لا تفرح )) ، (( فخرج على قومه في زينته ))، فقد دل هذا على أنه اتخذ هذا المال الذي منحه الله إياه وسيلة للتعالي ، وليس هذا أحد أوجه استغلال ، أو استخدام المال ، التي يمنح الله لها المال ، وقارون بهذا يسيء إلى الجماعة التي عايشها ، أي أنه لم يراع حقها فيما أعطاه الله .

الجانب الثاني : يتمثل في أن قارون لم يعن بماله ذوي الحاجة في مجتمعه ، ويصور ذلك:

( وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ).

الجانب الثالث: يتمثل في أن قارون استخدم المال الذي أعطاه الله له كوسيلة بغي وطغيان، تصور ذلك الآية : ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) .

ونحن نعرف أن الله تعالى في قرآنه يصب حمماً من الوعيد على صاحب المال حين يطغى بماله: ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رّءاه استغنى ) ((العلق: 6ـ 7 )).

( وإذا أردنا أن نُّهلك قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميراً )

(( الإسراء : 16 )) .

وهكذا، يكون الطغيان بالمال وسيلة فورية للدمار والخراب ، وقد وقع في هذا قارون .

ومعنى آخر في هذه القصة يشير إليه قوله تعالى : ( لولا أن مَنَّ اللهُ علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ) . والمعنى الذي تشير إليه هذه الآية : هو أن الإسلام يربي المسلم بواسطة ما يقصه عليه من قصص السابقين ، على أنَّ منَّ الله بالمال على أحد ليس هو المنُّ الحقيقي ، وإنما المنُّ الحقيقي هو الإيمان . ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في آية أخرى :

( بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) ((الحجرات : 17 )) . وبإجمال ، فإن الوسائل التي استخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي والتي يمكن أن نستنتجها من التصور القرآني لقصة قارون ، هي :

أ – الوسيلة الأولى :هي أن الإسلام يربي المسلم على الإيمان بأن المعطي الحقيقي هو الله، وأنه ليس لأحد أن يقول إنما أوتيته على علم عندي ، ويكمل الإسلام هذا المعنى بتربيته على إن إعطاء الله المال ليس هو المنَّ الحقيقي وإنما المنُّ الحقيقي هو منّ الله على المسلم بالإيمان .

ب – الوسيلة الثانية التي تستنبط من هذه القصة تتكون من مجموعة من المعاني ، هذه المعاني هي : أن الإسلام ينمي في المسلم الذي يمتلك المال صفات معينة ، منها: ألا يتخذ ما أعطاه الله من المال وسيلة للطغيان ، والبغي في الأرض ، أو يكون وسيلة لإذلال الآخرين ، بفرحه بماله في مقابل أن الله لم يعطهم ، ومعروف أن مجرد وجود ظاهرة من يملك ، ومن لا يملك ، ليس هو السبب الحقيقي لوجود الصراع الطبقي أو الصراع الاجتماعي ، وإنما ينشأ هذا الصراع ويقوى من المعاني التي تنشأ في نفوس الفقراء ، وهم يرون أصحاب المال يفرحون ويفتخرون بأموالهم ، لذلك حين يقول الإسلام للمسلم من خلال قصة قارون : لا تفرح بما لك ولا تفتخر به ، فإنه يعالج الظواهر الحقيقية التي تولد ما تولد في نفوس الفقراء.

ج – الوسيلة الثالثة التي تستنبط من هذه القصة: إن المسلم الذي يربيه الإسلام وهو يقص عليه قصة قارون ويسمعه ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) و(وأحسن كما أحسن الله إليك ) ، هذا المسلم يعلم أن عليه حقوقاً للآخرين . وإذن فمن خلال العطاء ، ومن خلال خلق الإحساس عند من لا يملك أن الله جعل له حقوقاً عند من يملك ، أي أنه شريك فيه ، يستخدم ويستهدف الإسلام من هذا كله مواجهة وعلاج الصراع الاجتماعي .

وإذا راجعنا الوسائل السابقة التي استخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، نجد أن بعض هذه الوسائل تكون وسائل معنوية ، بينما بعضها الآخر، وسائل مادية ، وهكذا يعالج الصراع الاجتماعي ، بالتوجه مباشرة إلى أسبابه الحقيقة.

توجد آيات أخرى كثيرة في القرآن يمكننا أن نستدل بها ، ونربطها بعلاج وضبط الإسلام للصراع الاجتماعي ، من خلال تقريره حقوقاً للجماعة الإسلامية على المال الخاص وعلى صاحبه ، ولن أتتبع كل ما يتعلق بذلك ، لأنه أكبر من نطاق هذا البحث ، وإنما أختار بعض الآيات التي سبق الاستدلال بها عند بحث اعتبار العقيدة في المنهج الإسلامي لتشغيل المال واستخداماته .

من هذه الآيات: سورة القلم ، قصة الجماعة التي أوردها القرآن لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي . ذلك أنه كما سبق أن قلت : إن إحدى الوسائل التي يستخدمها الإسلام في هذا الصدد هي تقرير حقوق للذين لا يملكون في مال الذين يملكون، وقد أخلت الجماعة التي يقص علينا القرآن قصتها هنا بهذا ، وبالرغم من أنهم قد أحكموا ما دبروه للقيام بالحصاد في غيبة الفقراء ، حتى لا يأخذوا منهم الذي قرره الله لهم ، بالرغم من ذلك ، لم يكن تدبيرهم خافياً على الله الذي شرع هذا الحق ، ولذلك سبقتهم القدرة الإلهية إلى مالهم فأهلكته ، حتى إنهم وقفوا أمامه وهم مأخذون من شدة التدمير ، الذي أصابه ، وقالوا :

(( إنا لضالون )) ، ولا أبالغ أو أجهد النص إذا قلت : إن تدمير هذا المال الذي دبر أصحابه أن يمنعوا منه حق من لا يملك ، فيه إشارة إلى أن الصراع الاجتماعي يمكن أن ينتج مثل هذا التدمير ، ولكن ساعتها لن يكون الأمر تدمير المال وحده ، وإنما سوف يكون معه دمار المجتمع ، بما فيه من بشر ومال .

وآيات أخرى سبق الاستدلال بها في موضوع العقيدة ، وهي تحمل أيضاً ارشادات إسلامية بشأن علاج وضبط الصراع الاجتماعي ، هذه الآيات هي آيات سورة: الكهف : ( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما ) إلخ… يقص القرآن بهذه الآيات قصة أخرى على المسلمين ، ليعلمهم كيف لا يكون تقرير حق الملكية الخاصة ، وحق استثمارها لصالح صاحبها ، كيف لا يكون سببا في الصراع الاجتماعي . والآيات هنا صريحة في الربط بين ظاهرة الصراع الاجتماعي وظاهرة وجود من يملك ، ومن لا يملك ، ولكن يوجد في الآيات معنى دقيق جداً تلزم الإشارة إليه ، وهذا المعنى هو أن تحليل ظاهرة الصراع الاجتماعي وظاهرة وجود من يملك ، ومن لا يملك ، وفق التصور الإسلامي كما تشير إليه هذه الآيات ، هذا التحليل لا يقوم على أن مجرد وجود ظاهرة من يملك، ومن لا يملك ، هي السبب في وجود الظاهرة الأخرى وهي الصراع الاجتماعي ، وإنما ظاهرة الصراع الاجتماعي ترتبط وتتعلق وتدور مع ظاهرة أخرى ، وهي كيفية التصرف واستخدام المال، ويجعل الإسلام هنا التصرفات والاستخدامات المعنوية للمال تساوي التصرفات المادية . إن الرجل الذي تحكي الآيات قصته على أنه ظالم كان سوء تصرفه واستخدامه لماله من قبيل الإعمال المعنوية ، ذلك أنه قال لصاحبه: أنا أكثر منك مالاً ثم دخل جنته مغروراً ظالماً وهو يعتقد أن ماله لكثرته لن يفنى أبداً .

إن المنهج الإسلامي الذي يربط ظاهرة الصراع الاجتماعي بظاهرة سوء استخدام الملكية ، وليس بظاهرة وجود الملكية الخاصة ، هذا المنهج يتفرد به الإسلام ، ذلك أن كل الذين تعرضوا لتحليل ظاهرة الصراع الاجتماعي أو كما يسمونها ظاهرة الصراع الطبقي ، هؤلاء كلهم ربطوا بين هذه الظاهرة وبين ظاهرة الملكية الخاصة نفسها ، ولذلك كان علاجهم لها يتجه إلى المطالبة بإلغاء حق الملكية الخاصة كوسيلة ، للقضاء على الصراع الطبقي ، وهي المجتمعات التي تدعي الآن أنها تطبق الماركسية . هذه المجتمعات تعاني الآن من أعنف صور الصراع الاجتماعي ، أو بمصطلحهم الصراع الطبقي ، ذلك لأن تحليل فلاسفتهم كان تحليلاً خاطئاً وكان مغرضا، وكان تحليلاً يقوم على الحقد وحب الانتقام ، وليس تحليلاً يستهدف بناء مجتمعات ، وهكذا فإن الالتزام بالتحليل الإسلامي الذي يربط ظاهرة الصراع الاجتماعي ـ وليس الصراع الطبقي ـ بظاهرة سوء استخدام الملكية الخاصة ـ وليس بظاهرة الملكية الخاصة نفسها ـ هذا التحليل يستهدف بناء مجتمع ، وليس تخريب مجتمع قائم . وكنتيجة : إن العلاج الإسلامي للصراع الاجتماعي لا يستهدف إلغاء الملكية الخاصة، وإنما يعالج ذلك من خلال ترشيد الاستخدام والتصرف في الملكية الخاصة ، حتى ولو كانت هذه التصرفات من قبيل التصرفات المعنوية .

وأكرر أيضاً : إن ارتباط المنهج الإسلامي في هذا الصدد بالتصرفات المعنوية بجانب التصرفات المادية هو تحليل أيضاً غير مسبوق ، ولا يوجد له نظير إلى وقتنا هذا عند الفلاسفة كلهم ، الذين كتبوا وتعرضوا لهذا الموضوع .

إذا كانت المعاني التي تستنتج من قصة قارون تمثل البعد الأول في الضوابط التي تتعلق بعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، وهو العلاج الذي أعتقد أن الإسلام يعمل للوصول إليه من خلال تقرير حقوق للجماعة ، عند التصرف واستخدام المال ، فإن تحريم الربا يمثل البعد الثاني ، وأحاول أن أعرض: كيف يكون تحريم الربا أحد الأبعاد التي تمثل حق الجماعة عند أخذ قرار الاستثمار ، وبالتالي أحد أبعاد المنهج الإسلامي لعلاج الصراع الاجتماعي .

إن الربا يضمن دخلاً لصاحب رأس المال عندما يشارك مع عوامل الإنتاج الأخرى ، في أي نشاط اقتصادي . ويمكن هنا أن نميز بين طرفين : يمثل الطرف الأول صاحب المال، ولا يختلف اثنان على أن تحديد دخل محدد لصاحب رأس المال بصرف النظر عن النشاط الاقتصادي ، هذا التحديد يحابي ويميز ، ويكون لمصلحة هذا المالك، هذا هو الطرف الأول . أما الطرف الثاني فإنه يتمثل في ملاك عوامل الإنتاج الأخرى ، التي تشارك رأس المال في النشاط الاقتصادي المنتج ، وأيضا لا يختلف اثنان هنا على أن تحديد دخل محدد مقدماً لصاحب رأس المال يحابي ولا يكون لصالح ملاك خدمات العوامل الأخر، حتى وإن تحقق ربح يفيض عن النصيب الذي أخذه صاحب رأس المال ، لأننا بالفائدة التي حددناها لرأس المال ، قد أعطينا له نوع ضمان قبل بدء النشاط الاقتصادي بينما لم نوفر هذا لملاك خدمات العوامل الأخرى .

ويكون الموقف أكثر محاباة لصاحب رأس المال ، وأكثر تمييزاً له ، إذا حقق النشاط الاقتصادي الذي اشتركت فيه عوامل الإنتاج خسارة ، ولم يحقق أرباحا ، لأننا نكون بهذا قد ضمنا دخلاً لصاحب رأس المال على حساب ملاك عوامل الإنتاج الأخرى ، بمعنى أنهم يدفعون لصاحب رأس المال ، وهكذا إذا كنا ننظر إلى ضوابط الاستثمار من وجهة نظر صاحب رأس المال وحده ، فإن الفائدة تكون ضابطاً جيداً، أما إذا كنا ننظر إلى ضوابط الاستثمار من وجهة نظر جميع ملاك عوامل الإنتاج ، أي من وجهة نظر الجماعة ككل ، أي من زاوية علاج وضبط الصراع الاجتماعي ، فان الضابط الذي يعتبر ، يكون هو الذي يجعل ملاك العوامل يشاركون في الربح والخسارة معاً ، والمشاركة في الربح والخسارة هي التي يعبر عنها الفقهاء المسلمون بقاعدة الغنم بالغرم ، ويمكن أن نعبر عن هذا بمصطلحات أخرى ، كأن نقول : إن تحريم الفائدة ، وتشريع المشاركة في الربح والخسارة ، يحقق العدل والتوازن ، بين ملاك خدمات عوامل الإنتاج . وهكذا يكون تحريم الربا يمثل بعداً آخر لحق الجماعة عند أخذ قرار الاستثمار ، كأحد ضوابط الاستثمار ، أي أنه أحد الأدوات التي يستخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي .

قد يعترض علي أنني بهذا التحليل السابق أجهد التحليل الإسلامي ، بمعنى أن أحمله فوق طاقة ما يحتمل ، ذلك أن الصراع الاجتماعي في تحليل المفكرين المعاصرين ، وهم الذين يسمونه بالصراع الطبقي ارتبط بوجود ظاهرة من يملك في مقابل من لا يملك ، وتحريم الربا في الإسلام الذي قد يكون في البيوع ، أو في الاقتراض ، ليس مرتبطا بالضرورة بالتبادل والتعامل بين من يملك ، ومن لا يملك ، وإذن كيف أدخله في علاج الصراع الاجتماعي ؟ إنني أعتقد أن تحليل الصراع في المجتمع على أساس ربطه بظاهرة من يملك في مقابل من لا يملك ، هو تحليل من وجهة النظر الإسلامية مبالغ فيه ، في البساطة ، ذلك أن الصراع الاجتماعي في الفهم الإسلامي يرتبط بجانب ما سبق أن قدمته ، بتجاوز الحد ، ويمكن أن يترجم هذا المصطلح بمصطلحات أخرى ، مثل : عدم تحقيق العدل، أو الاخلال بالتوازن ، الذي يستهدفه الإسلام ، بين ملاك خدمات عوامل الإنتاج ، ويرشدنا إلى هذا الفهم ما ينقل إلينا من أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، تخاصم اثنان بسبب أن أحدهما يمنع الآخرين من أن تمر المياه له . ولما ظهر لعمر تعنته أمر الذي يضار من ذلك بأن توصل المياه إلى أرضه ، وقال قولته : ( حتى ولو كان ذلك لأجرين الماء ولو على بطنك ) .

برغم أن هذه الحادثة كما قلت : تشير إلى الفهم الإسلامي للصراع الاجتماعي ، فإن النزاع هنا كان بين مالكين ، ولم يكن بين مالك وغير مالك ، وإذن إذا كنا نقول : إن تحريم الربا هو أحد الأدوات التي استخدمها الإسلام لعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ، فإننا نمد بهذا الفهم الإسلامي للصراع من كونه يرتبط بظاهرة من يملك ومن لا يملك ، إلى كونه صراعاً يرتبط بظاهرة سوء الاستخدام، والتصرف في الملكية حتى ولو كانت بين مالكين .

يمثل تحريم الاحتكار بعداً ثالثاً في المنهج الإسلامي بشأن الملكية من حيث استخدامها ، كيف يكون ذلك ؟ يميز في الدراسات الاقتصادية بين أنواع عديدة من الاحتكار ، منها الاحتكار الكامل ، حيث يسيطر على السوق بائع واحد أو مشتر واحد ـ والاحتكار الثنائي ـ والمنافسة الاحتكارية ، إلى غير ذلك من التقسيمات المعروفة لأنواع الاحتكار ، والتي تمتلئ بها الكتب الاقتصادية .

وعندما تكون المنافسة هي التي تسيطر على السوق ، يشير التحليل الاقتصادي إلى أن المنشآت التي تعمل في مثل هذا السوق لا تحقق إلا ما يعرف اقتصادياً بالربح العادي ، وذلك لأن ميكانيكية الدخول والخروج إلى ومن هذا السوق تجعل الأرباح غير العادية تختفي من هذا النشاط أما عند ما تكون السوق خاضعة لأحد أشكال الاحتكار ، فإن الشركات التي تعمل في هذا النشاط تحقق فوق الربح العادي ما يعرف بالأرباح غير العادية . هذا هو أحد جوانب الاحتكار .

هناك جانب ثان من جوانب الاحتكار ، ويتمثل في أن المحتكر بصفته الاحتكارية يحدد التوازن عند مستوى أقل من مستوى الإنتاج الأمثل ، فالمحتكر يتحكم في كمية الإنتاج ، وهو يسعى إلى أن تكون الكمية المعروضة في السوق صغيرة بالنسبة للطلب ، حتى يرتفع الثمن ، وهكذا يكون الجانب الثاني للاحتكار يتلخص في النقص المصطنع للكمية المنتجة ، أي أن الاحتكار يؤدي إلى حرمان المجتمع من كمية من السلعة التي تخضع للاحتكار .

هناك بعد ثالث للاحتكار ، ويتمثل هذا البعد كأوضح ما يكون في حالة الاحتكار الجزئي ، وفي هذا النوع من الاحتكار يكون لكل طرف احتكاري استراتيجية، في مواجهة الطرف الآخر في السوق ، ويدرس سلوك المحتكرين هنا بنظرية معروفة وهي ( نظرية التقارع ) أو نظرية اللعب ، وما يعنيني وأنا أدرس هذا النوع من الاحتكار هو أن أشير إلى هذا السلوك العدائي ، وهذه المواجهة بين المتعاملين في هذا السوق ، ومن وجهة نظر الجماعة ككل ، يكون مثل هذا السلوك ضاراً بل مدمراً للمجتمع.

هناك بعد رابع للاحتكار ، وهو يمثل أحد أبعاد الاحتكار الأكثر سوء نتائج من وجهة النظر الاجتماعية ، ويتعلق هذا البعد بأثر الاحتكار على تحديد الأجر وعلي تحديد كمية العمل المشغلة ، حيث يحدد الأجر ، بأقل مما ينتج العامل ، كما تحدد الكمية المشغلة ، بأقل مما يجب أن تشغل إذا لم يكن هناك احتكار.

ما سبق هو باختصار بعض الأبعاد التي تلازم الاحتكار ، ونعرف أن الإسلام حرم الاحتكار ومن أدلة هذا التحريم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الجالب مرزوق ، والمحتكر خاطيء)، وأيضاً الحديث الذي معناه : من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها علي المسلمين فكأنه أخذ قطعة من النار إلى غير ذلك من أدلة تحرم الاحتكار . يشير الحديث الأول إلى معنى اقتصادي في الاحتكار ، وهو أثر الاحتكار على حجم أو كمية الإنتاج المعروضة ، ذلك أن الحديث يقارن بين جلب السلع إلى الأسواق ، وبين الاحتكار ، ويعني هذا أن الاحتكار يعمل على تقليل كمية المنتجات ، التي تعرض في الأسواق ، وهذا هو أحد الأبعاد التي أشرت لها للاحتكار . ويشير الحديث الثاني إلى معنى اقتصادي آخر ، وهو أثر الاحتكار ، من أن المحتكر يعرض سعراً أعلى من السعر الحقيقي للسلعة محل الاحتكار، وهكذا نستنتج أن الإسلام حين حرم الاحتكار لم يحرمه للاعتبارات الأخلاقية وحدها ، وإنما حرمه أيضاً لأسباب اقتصادية يرتبط بها التحليل الاقتصادي الحديث .

نتساءل الآن عن علاقة تحريم الاحتكار بحق الجماعة الإسلامية في عملية الاستثمار ، كأحد الضوابط الحاكمة في هذا المجال ، أي بعلاج وضبط الصراع الاجتماعي ؟ لو نظر إلى الاحتكار من وجهة نظر شخصية ، أي من وجهة نظر المحتكرين ، يكتشف أن الاحتكار يحقق للمحتكر منافع اقتصادية ، لا يمكن إنكارها ، وأقرب أنواع هذه المنافع الأرباح غير العادية التي تتحقق له ، لكن من الوجه المقابل إذا نظر إلى الاحتكار من زاوية الجماعية ككل ، يكتشف أن الاحتكار يسبب أضراراً اقتصادية وأخلاقية لها.

من الأضرار الاقتصادية : نقص الإنتاج المتعمد ، وعدم تشغيل العدد الصحيح من العمال ، الذي يمكن أن يشغل لو لم يكن هناك احتكار . وكذلك من الأضرار زيادة الأثمان عن مستوياتها الحقيقية، التي يمكن أن تحدد في حالة سيطرة المنافسة على السوق . وبجانب هذه الأضرار الاقتصادية ، هناك المساوئ الأخلاقية التي يولدها الاحتكار ومنها : تقوية وظهور الأنانية الفردية للمحتكر ، وإشعال نار الحقد والصراع بين أعضاء الجماعة ، لذلك يجب تحريم الاحتكار من وجهة نظر الجماعة.

وكنتيجة ، فإن الإسلام حين حرم الاحتكار ، قد راعى حق الجماعة وألغى أو أبطل المصحلة الفردية ، التي يمكن أن تتحقق للمحتكر . يرتبط تحريم الإسلام للاحتكار بفهم حقيقة وطبيعة الصراع الاجتماعي ، وكذلك بعلاجه ، ذلك أن التحريم هنا ليس مرتبطاً بظاهرة من لا يملك في مقابل من يملك ، وإنما يرتبط بظاهرة سوء الاستخدام ، والتصرف في الملكية.

لذلك فإن المنهج الإسلامي لعلاج الصراع الاجتماعي لا يرتبط بإلغاء ظاهرة الملكية الخاصة ، وإنما يرتبط بترشيد استخدامها ، والتصرف فيها وطرق استثمارها ، ومن هذا الترشيد الاجتماعي تحريم الاحتكار.

يمثل تحريم الإسلام للغش أيضاً ، أحد أبعاد حق الجماعة في عملية الاستثمار ، وبالتالي في علاج الصراع الاجتماعي. إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (من غشنا فليس منا ) ، هذا الحديث ينظم أيضاً عمليات الاستثمار، فالذي يزعم القيام بمشروعات استثمارية ، وليس هناك في حقيقة الأمر شيء ، هو غاش للجماعة ، والذي يوجه الاستثمار إلى مشروعات ليست هي المشروعات الأكثر ضرورية للمجتمع ، كأن يستثمر في دور اللهو ويهمل أساسيات الحياة ، ومنها ما يلزم للقمة العيش ، هو غاش للجماعة . والذي يقوم فعلاً بعملية حقيقية للاستثمار، ولكنه يغش فيها فإن رسول الله بريء منه وتحريم الإسلام للغش هو مراعاة لحق الجماعة ، وإبطال لمصلحة وأنانية الفرد التي يحققها بواسطة الغش.

وتحريم الإسلام للرشوة ، وبخاصة الذين يتولون المسؤولية ، هو بعد آخر من الأبعاد المتعلقة أو المنظمة لحق الجماعة ، وبالتالي لعلاج الصراع الاجتماعي والرشوة هي واحدة من أخطر الأسباب ، إن لم تكن أخطرها ، التي أصيبت بها المجتمعات النامية ، ومنها مجتمعاتنا الإسلامية . إن الآية التي حرم الله فيها الرشوة تشير بصفة قطعية إلى أن سبب التحريم إنما يعود لمراعاة مصلحة الجماعة . ومراعاة هذه المصلحة هو تعبير عن علاج الصراع الاجتماعي : ( ولا تأْكُلُواْ أمْوَالَكُم بَيْنكُم بالبْاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأكُلُواْ فرِيقاً مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (( البقرة : 188 )) .

إن الآية تتجه صراحة إلى سبب الرشوة ، وأنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل ، وليس المراد هنا أن المرتشي يأكل أموال الناس بالباطل ، وإنما المراد أن الراشي هو الذي يستهدف من وراء الرشوة أكل أموال الناس بالباطل ، أي الحصول على حقوق ليست له . وهكذا ، إذا كانت الرشوة يمكن أن تحقق للراشي أو المرتشي مصلحة شخصية ، إلا أنها تحرم إسلامياً لما لها من آثار سيئة من وجهة نظر الصراع الاجتماعي .

النتيجة العامة التي نسجلها في نهاية بحث هذا الموضوع ، هي: أن المنهج الإسلامي لتحليل الصراع الاجتماعي ، هو منهج متميز ، من حيث فهمه لطبيعة هذا الصراع ، ثم من حيث علاجه وضبطه . ويبنى هذا المنهج باختصار على أساس أن الصراع الاجتماعي لا يرتبط بظاهرة وجود من يملك في مقابل من لا يملك ، ولذلك لا يكون علاجه هو إلغاء الملكية الخاصة ، وإنما يرتبط هذا الصراع بظاهرة سوء الاستخدام والتصرف ، في استثمار رأس المال ولذلك يكون العلاج بترشيد هذا الاستخدام ، أي بترشيد الاستثمار . أما المنهج الإسلامي لهذا الترشيد فإنه يقوم علي دعامتين ، الدعامة الأولى : يعمل الإسلام من خلالها على ترشيد استثمار رأس المال ، بواسطة تأثيمه لبعض صور استخدام رأس المال مثل تحريم الاحتكار إلى آخر ما ذكرناه ، هذا ما أعبر عنه بجانب المنع في هذا المنهج . أما الجانب الإيجابي في هذا المنهج فهو ما يتعلق بالجوانب التي يباح فيها استخدام رأس المال.

(المصدر: المكتبة الاسلامية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى