صناعة الوعي الإسلامي… رؤية تأصيلية!
الصِّناعة في اللّغة هي فنُّ الاشتغالِ على موادّ معيّنةٍ وإِخْضاعها لِعملياتٍ مُعقدّةٍ، تأخذُ على إثْرِها أشكالاً جديدةً ومبتكرةً ونافِعة. ولأنّ المادّة مَحلّ البحثِ هنا هي “الوَعْي”! فهذا يجعلُ الأمر بالِغ التّعقيد والأهمّية، لأنّنا أمام عيّنةٍ غيرِ مَحسوسةٍ، لا يَجري عليها ما يَجري مع غيرها، عيّنةٌ فريدةٌ مادّتُها الفِكرُ ووَقُودُها المعلومة! والوعيُ لفظٌ واسعٌ فضفاضٌ، كلٌّ يدّعي وَصْلاً به وأنّه أهلٌ له، تعدّدت منابرُه وتزاحمت مِنصّاته، فكيف للمُسلم أن يَستبْرِئ لِدينه وعقلِه، وسْط هذا الخِضَمِّ اللُّجِّيّ الذي يمُوج بِغثِّهِ وسَمِينه؟ وأيُّ وعيٍ أحقُّ أنْ يتَّبِعه المُسلم؟
أيُّ وعيٍ نَنشُد؟ وأيُّ وَعيٍ نَتَّبِع؟
إنْ صحَّ لنا اختِزالُ تاريخِ الأُمَم على هذه البسيطة، فلا يَسعُنا إلّا القولُ إنّه في الأساس صِراعُ أفكار! فكرةٌ صحيحةٌ وأخرى خاطئة، أو لِنَقُل صِراع حقٍّ وباطِل! وفي زمنٍ كثُرت فيه الفِتن وانقلبتْ المفاهيم والقيم، وأضْحى الحقّ باطلاً والباطل حقاً، كان فرْضاً على كلِّ ذي عقيدةٍ راسخةٍ ورأيٍ سديدٍ وهِمّةٍ شامخة، أن يقتحم مُعترَك نشرِ المعلومة الهادِفة ومُسارَعةِ الخُطى في مشروع بثِّ الأملِ، والإسهام في صِناعة وعيٍ إسلاميّ مُضادّ، يصُون الثّوابث ويرُدّ الشّبُهات ويُصوِّب المفاهيم ويُقوِّم الأفكار، دون شَعْبَويةٍ ولا تخْدِيرٍ للعَوامّ ولا بيْعٍ للأوهام! مع تِبيان آليات وسُبُل تحقيقِ نَهضةِ الأمّة، كلٌّ مِن موقعِه. لأنّ شُبُهات المُغرِضين وأباطِيل المُدلِّسين أَضعَفَتت الأمّةَ وزَرَعَت في جَسدِها الوَهَن والعَجز، وزَيَّنت لها الإذْعان لِلأمرِ الواقع والإِخْلادَ إلى الأرضِ!
ومعركةُ الأفكارِ مجالٌ مفتوحٌ على مصراعيه، تتعارضُ فيه المَصالح الحِزبيّة والفِئويّة الضّيقة، وتتقاطع فيه الإيديولوجيّاتُ وتقلّبات السّياسة. كما أنّ فكرةً واحدةً فاسدة كفيلةٌ بأن توديَ بأجيالٍ كاملة إلى مَزالِق لا يُحمدُ عُقباها. لِذا توجَّب علينا وضعُ مَرجعٍ نَحْتكِمُ إليه حال اختِلافِنا، ولا نَجدُ مرجعاً تتّفقُ عليه الأمّة أوثقَ من كتاب ربِّها عزّ وجلّ وسُنّة نبيّها صلّى الله عليه وسلَّم، لِقولهِ تعالى: “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُول” – النِّساء 59 – وتجدُر الإشارةُ هنا إلى أنّ لِعبارة (اللهِ وَالرَّسُول) دلالةً تُفيدُ أنّ الوِجهةَ واحدةٌ وليْسَتا اثْنَتَيْن، وفي هذا بيانٌ لِمَن فرَّق بين الكِتاب والسُّنةِ وجَعَلهُما مُنفصِليْن!
لَقد أتاحَت الثّورة التّكنولوجيّة والمَعلُوماتية الهائِلة الفُرصة لرُوَيْبِضاتِ العصْر – وما أكثرَهم! – ومكَّنتهُم من الخوضِ في جواهِر الأمور، لذلك علينا إِرسَاء منهجيّةٍ أصيلةٍ تُلهِمُ المُسلمَ القُدرة على التّمييز بين صَحيحِ الوَعي وسَقيمهِ. يقول الله تعالى: “حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” – فصلت 53 – فلا يكفي أن نُبَيِّنَ الحقَّ ونُهمِل ربْطَه بِمصدرِه النَّقيّ، والمصدرُ هو كِتاب اللهِ تعالى وسُنَّة نبيِّه المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام كما تَقدَّم بيانُه، فهُما المِعيار والمِيزان. قد تغفَلُ الأمّة عنهُما زمناً، لكن بوُجود وحيٍ إلهيّ محفُوظٍ وهَديٍ نَبويّ خالد، فلا خوفَ على هذه الأمَّة وإِنْ طال زمَنُ التَّيْه لديْها، وسَيظَلُّ طريقُ الرَّشادِ معروفاً، ما دامَ وعْيُها مُستمدّاً من وحْي خالِقِها سُبحانه وَهَدْي نَبيِّها الأَكرَم.
الوَحي هو المَعينُ الّذي لا يَنضَب، والمادَّةُ الأوَّليةُ التي يجبُ أن تقومَ عليها صِناعة الوعي المنشُود، ولأنَّ المَولى عزَّ وجلَّ قد تكفَّل بحِفظ وحْيهِ في قوله: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون” – الحِجر 9 – فهذا يعني أنَّ الطَّريقَ سيُقطع على كلِّ مُرتزقٍ أو مُضلِّلٍ أو مُدلِّسٍ. ذلك أنَّ نصَّ الوَحي قويٌّ في ذاتِه، ولا يحتاجُ إلّا لِقوةٍ مِن خارجِه تقومُ به وتُمكِّن له. ولو سَألنا أبسَط مسلمٍ اليوم عن عِلَّة تأخُّر أمّتِنا وسبب هَوانِها، لردَّ بجوابٍ نّمطيّ شائع: (بُعدُنا عن دِينِنا!) جوابٌ صائبٌ مبدئياً، لكنَّ السَّواد الأعظم يُريدون بذلك العبادة والنُّسُك، وهي نظرةٌ مُمْعِنةٌ في السَّطحية، لقد تَقَزَّمَ دور الدّين وانْحَسَر في مُجرَّد شعائِر ومُعامَلات، والحقُّ أنَّ دِيننا منهجُ حياةٍ متكاملٍ ولا يقفُ عند عَتَبةِ التَّديُن الشَّخصيّ، ولَو كانَ كذلكَ ما أُنزِلَ وَحيٌ ولا بُعِثَ نَبيٌّ! والدّينُ إذا أصبَح مِيزانَ حياةِ النَّاس وضَابِطَهم، فسيكفُل للأمّة نهضتها ورُقيّها كما سَبَق وحَدَث مع أُمَمٍ ارتقَوا بِرسالة الإسلامِ وسادُوا الدّنيا، وسَطَّروا حضارةً مَجيدةً مازالت آثارُها ماثِلةً إلى يومِ النَّاسِ هذا، وكأنِّها أرادتْ أن تَكُون حُجَّةً عليهم ولِسانُ حالِها: لا عُذْرَ لكُم، وأنَا المِثالُ دُونَكُم!
أمَّا مَن ادَّعى أنَّه نُخْبة الأمّة، وكان مِمَّن غَفل عن ربطِ وعيها بِوَحْي ربِّها سُبحانه، وأَهمَل النَّصّ الإلهيّ أو النَّبويّ عامِداً إلى غيرهما، أو حَمَّل تلك النُّصوصَ ما لا تَحْتمِل لِتُوافِق أهواءَهُ، حينها سَيَفقِد الوعيُ قوّته، وسيتحوّل إلى نظرياتٍ جَوْفَاء ضعيفةِ الحُجَّة، لا يَضبِطها ميزانٌ ولا يحكُمها مِعيار، وسَيتجاوزُها النَّاس إلى غيرها مع تقدُّمِ الزَّمن، وَفي خِلالِ ذلك سيكونُ المُسلم كالقَشَّةِ في مَهَبِّ الرِّيح، تَعبَثُ بِه الأهواءُ، وتعصِفُ به الشَّهواتُ والنَّزَواتُ!
نشر الوعي الإِسلاميِّ دَعوةٌ إلى الله تعالى
يجبُ أنْ يَحظَى مشروعُ صِناعةِ الوعي الإسلاميّ، بأساسٍ متينٍ يرافقُ مَسيرةَ نهضةِ الأمّة، والأساسُ هنا هو العقيدةُ الإسلاميةُ التي تتّخذُ من كِتاب اللهِ تعالى وسُنّةِ نبيهِ الكريمِ منْهلاً. فيأتي الإيمانُ الرّاسخُ أوّلاً، ثمّ يتبعُه العِلمُ النّافِع الّذي لا يَصِحُّ الوَعي إلّا بِه، فالعملُ الصَّالحُ الذي يُترجِم الأفكارَ والمَبادئ الإسلاميّة إلى سُلوكاتٍ صِحّيةٍ تعودُ على الفردِ والجماعةِ. وصَدقَ من قال: جَمالُ العِلم إصْلاحُ العَمَل!
يقول جلّ وعلا: “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” – يوسف 108 – بعدَ أنْ عرفنا أنّ مُختصر عجَلة الحياة صِراع حقٍّ وباطلٍ، نجدُ أنفسنا نقفِز إلى مفهومٍ آخرَ هو الدّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، إذ أنّ كلَّ دعوةٍ لإِصلاحِ حالِ الأمّة وشحْذ هِمَمِها وإعادة سُلطانها، هي دعوةٌ إلى الله تعالى في الأساس. والمُتأمّل في الآية الكريمة يجد أنّ لفظ الدّعوة إلى الله تعالى بدأ بشرط توفّر البَصيرة، وانتهى بالبَراءةِ من الشِّرك. فكما أنّ الله تعالى لا يُعْبَدُ بالجهل، قال عزَّ من قائل: “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله” – محمد 19 – كذلك الدّعوةُ إلى الله تعالى، والسّعيُ لاستِنهاض الأمّة وإصلاحها عبر نَهجِه جلَّ وعلا ونشرُ الوعي الصَّحيح فيها، لا يَكون إلّا من خلال بصيرةٍ نافذةٍ تعرِف الحقَّ من الباطلِ، وتَمِيزُ الخبيثَ من الطّيِّبِ ابتداءً، وصولاً لخانةِ الأمرِ بالمعْروفِ والنَّهْي عن المُنكر انتهاءً، وهذه الوظيفة الأخيرة هي التي اسْتَحقّت بِمُوجبِها القُرون الأُولى صِفة الخَيْريةِ التي جاءت في قوله تعالى: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكِرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ” – آل عمران 110 – وهي الشّرط الإلهيّ الذي علينا تحقيقه لِنستعيد هذه الصّفة الجليلة، وهذا الشَّرف الرَّفيع، ولا أَدَلَّ على عِظَمِ قَدْر هذه الوظيفةِ مِمّا جاءَ في الأمرِ الإلهيّ: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ” – آل عمران 104 – كما نجِدُ في السُّنة النّبويّة المطهَّرةِ شواهد عديدة تحُثُّ المسلمَ على القيام بواجبه في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المُنكر مع التّشديد على ذلك والتّحذير من مغبَّة التّفريط فيه، في قولهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَلْيَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) – رواهُ التّرمِذي. لِذلك فإِنَّ كلَّ مُحاولةٍ للنُّهوضِ بِوعي الأمّةِ دون الاحْتِكام لِميزانِ الصَّلاح الإلهيّ، القائمِ على تَبيينِ سبيلِ الخيرِ والدَّعوةِ إلى الفَضِيلة، ومن خلالِ أدواتٍ وآلياتٍ يَنفرِدُ بها هذا المِيزانُ الدَّقيق، كالأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ كما تقدَّم، فهي مُحاولةٌ يائِسةٌ ومَحكُومٌ عليها بالفشلِ الذّريعِ!
العملُ على رَفْع هِمَمِ المُسلمين ووضْعَهم على طريقِ السِّيادةِ والرِّيادة، حِملٌ ثقيلٌ على عاتِق أبناءِ الأمّةِ المُخْلِصين، ومَن يُرِد الله بهِ خيراً يستعْمِلْه في نُصرةِ دينهِ، ويُوفِّقهُ لِيكونَ من بُناةِ مَجدِها، والشّقِيّ من أجْرى عليهِ الله سُنَّة الاسْتِبدالِ، نعُوذُ باللهِ منْها ونسألُه الاستِعمال! ورُبَّ صاحِب هِمّةٍ أحيَا أمَّة!
موقع الأمَّة من معركة الوعي الإسلاميّ
إنّ أهمّ أسباب نُهوض الأمم، سِيادةُ وعي جماعيّ يُوحِّد المُنطلقَ ويرسُم الأهداف ويُحدِّد الواجباتِ ويُبيِّن الخُطواتِ الواجب اتِّخاذُها في طريقِ الرُّقيّ، وذلك ضِمن القِيم والمَبادِئ الأصيلةِ الّتي لا بدّ أن تَسِير في إطارِها مَسِيرة النَّهضةِ. وكما يَتعيَّنُ على الطبيبِ الحاذِقِ أن يُحدِّد سببَ الدّاء لِيُجيدَ وصفِ الدَّواء، كذلك يجب على صُنّاع وعي الأمّةِ أن يُحدِّدوا بدقّةٍ مَكامِن ضَعفِها ومُسبِّباتِ عَجزِها قبل أن يضعُوها على طريقِ العِلاج. ولعلَّ أوّلَ ما يجبُ أن نُقِرّ به، أنَّ أمّتنا لا تزالُ رهينةَ الاحتِلال! ولو كان احتِلالَ جُيوشٍ وعساكر لَهَانَ الأمرُ، لكنّه أشنَعُ وأفظَع! فأمّتنا لا تزالُ مسْلوبةَ الإرادةِ، وأُريدَ لها أن تُراوِحَ مكانَها بعد أن اسْتُنزِفت طاقاتُها، وعانت وَيلات التّبَعية المَهينة والهامِشية لِعقودٍ طويلةٍ، بإشرافِ أنظِمةٍ وظيفيّةٍ عميلةٍ ما انتهى لها الأمرُ إلّا بعد أنْ ضَمِن المُحتلّ ولاءَها وعَمَالتها وفَسادها! وليس أبشعَ من احتِلال الشّعوب، إلّا إيهامُها بِحُرّيةٍ زائفةٍ واستقلالٍ كاذبٍ !والمُتأمِّل في تاريخِ الأممِ لا يَجِدُ ذِكراً لِحضارةٍ ارْتَقَت في ظِلِّ احتِلالٍ أجنبيّ، ولا في ظلِّ نظامٍ استِبداديّ فاسدٍ!
وعطفاً على ما سَبَق، فإنَّ مَسيرة التّغييرِ يجبُ أن تَتَّخِذ مِن فِكرة تحريرِ الإرادةِ واستِكمال ما بدأته شعوبُ الأمّةِ قبل سنواتٍ في حَرَاكِها الّذي أُخْمِد في مَهدِه، مُنطلَقاً لها نحو الحرّيةِ التي تُعدّ قيمةً إسلاميةً أصيلةً. شرط أن تأخُذ بالحُسبان أنَّ ثورةَ الشُعوب ما لَم تجِدْ قيادةً رشيدةً تُهيّء لها سُبُل اجتثاثِ شجرةِ الاستِبداد مِن جُذورِها، وليس الاكتِفاء بِتغييرٍ صُوريٍّ فارغٍ، فإنّها ما تَلبَث أن تتحوّلَ إلى فوضى، وسُرعانَ ما تَنبتُ شجرةُ الاستبدادِ مُجدداً لِتعودَ أقوى مِمَّا كانت عليه! كما أنَّ النِّضال إنّما يكونُ مِن خارجِ المَنظومةِ المُستبدّة، وبعيداً عن مُؤسّساتها وتشريعاتِها وقِيمها وقَوانينها المُهيْمِنة، فلا يُعقل أن يتمِّ التّغيير الجادُّ بِانتِهاجِ نفسِ أدواتِ المنظومةِ الشّيطانية واحتِرام قواعِدها الفاسِدة! وإلّا أصبح حالُها كحالِ مَن يسْتجْدي النُّصْرة من جلّادِه، فلم يزِدْهُ ذلك إلا شقاءً وذلّاً!
أمّتنا أمام غزوٍ فِكريّ غربيّ مُمَنْهج، يستهدفُها في دِينها وقِيمها، ولا أدلَّ على ذلك من وجود مَعامِل أبحاثٍ ومراكز دراساتٍ أقيمت خصّيصا لِتطويع دِيننا وتمييع ثوابِتنا، وَسَعَتْ لِصهْر أمّتِنا قسْراً وقهراً في قالَبِ المنظومة الشّيطانية العالميّة التي لم تَسْتثْنِ كياناً في الشَّرق والغربِ إلّا وركَّعته، بِشِعاراتٍ زائفةٍ وراياتٍ كاذبةٍ خاطئة، ومن خلال تحريفِ المفاهيم ودسِّ الأفكار الدَّخيلة وترويجها في قوالِب مشبُوهة، تحت عباءة التّنويرِ تارةً والتّجديدِ تارةً أخرى، ولًعلَّ أخطرَ هذه القوالِب ما انْتسَب زُوراً وبُهتاناً للدِّين! خِطابٌ دينيّ انْبَرى له بِخُبثٍ جُملةٌ مِن “أدعِياء” الدَّعوةِ والفِكرِ الأدبِ، الّذين تصدّروا المشهدَ الدّعَوِيّ والتّوعويّ لسنوات، ورَوَّجت لهُم الآلة الإعلاميّة الشّيطانية بذكاءٍ وأعْلَت مِن شأنِهم، فأصبَحوا بذلك حَمَلةَ لِواءِ التّنويرِ والتّنظيرِ! فدَسُّوا العقائِد والنّظريّات الفاسِدة، وغلّفوها بِغلافٍ عِلميّ بَرَّاقٍ يُغْري شبابَ الأمّة من المُتعطِّشِين لِخطابٍ دينيّ وفِكريّ حديثٍ ينْأى بِهم عن التّقليدِ والجُمُود، فإِذا بِهم يُورِدُونهُم شِرَاك التّفلّتِ والضَّلال!
وكما هو شأن كلّ صناعةٍ، لا بُدّ من ضبْط خُطَّة تسويقٍ مُحكَمةٍ. ولا سبيلَ للحديثِ عن نسبةِ تأثيرٍ مرجوّ في الجماهير المسلمة، دون اتّخاذِ نفس الوسائلِ – على الأقلّ – التي مَكَّنت لِلأفكار الدَّخيلة والمُنْحرفة في عُقْر دارنا! ونَعني بذلك إنشاء صُروح مُماثلة تصنعُ “وعياً مُوازياً” يستهدف الضّمير الجمْعيّ للأمّة الإسلامية، ويُخاطب الألبابَ قبل استِثارةِ العواطفِ. بالاستِثمار في مجالِ السَّمعيّ البصَريّ لِما له مِن قُدرةٍ هائلةٍ على التّأثير المباشرِ والتّعبئةِ الواسِعة، سواءٌ بالقنواتِ الفضائيّة أو عبر مِنصّات التّواصُل الاجتماعيّ، ودفعِ المُتلقّي على التّفاعُل الإيجابيّ مع قضايا أمّتهِ ووضعهِ في الصُّورة. ولا بدّ مِن مدّ جُسور التّواصُل بين المُفكّرين المُخلِصين والدُّعاةِ العامِلِين وذَوي الرَّأي الرَّشيد والكفاءَة العِلميّة المَوثُوقة، وإيصَال صوتِهم في خِطابٍ متّزنٍ يلتزِمُ مَنهجَ الإله ويُراعي ثَوابتَ الأمّة ويُواكِب لُغة العصْر ومُتغيِّرات الواقِع، ويُقرِّب الرُّؤى ويُقدِّم الحُلول ويُشكِّل الرَّأيَ العامَّ المسلم ويُوجِّهُه، ويُركِّز على القضايا المَصيريّة، ويَدعُ ما دُونها مِن مَسائِل جُزئية وجانبيةٍ، إنْ لم نَقُل تافِهة! وعليه، فكلُّ مَسْعىً لا يَرمي لانتِشالِ الفردِ المسلمِ منْ الفوضَى المَعلوماتية المُعاصِرة، ولا يَهدفُ لِتحريرِه مِن براثنِ وسائلِ الدِّعايةِ الإعلاميةِ في الدَّاخلِ والخارِج، ولا يضَعُه على طريقِ استِردادِ السِّيادةِ في الدُّنيا، ونَيْل السَّعادةِ في دارِ القرار، هو مَسْعىً خائب، لا يَعدو أنْ يَكونَ مُجرَّد هدْرٍ للوقتِ والجُهدِ بِلا طائلٍ! هذا إنْ لم يَأْتِ بِنتائج عكسيّة نحن في غِنىً عنها!
ميادين معركة الوعي الإسلاميّ
عَرَفنا طبيعةَ المعركةِ، وبيَّنّا ما يجبُ أنْ يَكونَ مِن عُدّتها وعَتادِها، والآن نُحدِّد أهم المَيادينَ الواجب اقتِحامُها لِنردّ هذه الحملة الشَّعْواءَ الّتي اسْتباحت دِيارَ المسلمين شرقاً وغرباً.
عَقائِدياً: العقيدةُ الإسلاميّة هي مَنْبعُ الأفكارِ الإسلامية وأساسُها المتين، لذلك وجب الحرصُ على أنْ تبقى مناهلُ العقيدةِ صافيةً نقيةً،. وعلينا إعادةُ الاعتِبار لِلمَفاهيم الّتي تتناولُ الهدفَ مِن وُجُودنا على هذهِ البَسيطة، حتّى نستأنِف رحلةَ اسْتِخلافِ الأرضِ وعِمَارتها وِفْق النَّهج الإلهيّ والهَدي النّبويّ ولا شيءَ غيرهما.
يقول عزَّ من قائل: “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة” – البقرة 30 – وحتّى نَكون أهلاً لهذا التّكليف الإلهيّ العظيم، ونؤدّيَ الأمانةَ الرّبّانية على أحسنِ وجهٍ، علينا الالتِزام بالشّرطِ الذي وَضَعه الله تعالى لنبيّه داوُد عليه السّلام في قوله الكريم: “يَا دَاوُد إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ” – ص 26 – وبهذا عَرفنا أن حُكْمَ اللهِ تعالى هو الحقُّ، وليس بعد الحقِّ إلّا الباطِل والضَّلال!
ويقول عزَّ وجلَّ: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” – الجاثية 18 – فشريعةُ اللهِ تعالى هي خُلاصة التّعاليم الإلهيّة المُلزِمةِ التي يجب أن تصبَغ الوعي الإسلاميّ المُراد صُنعه، وانظر كيف يصِف سُبحانه وتعالى ما سِوى شريعتهِ الغرَّاء بأنها “أَهْوَاء”، بل ويزيدُ على ذلك بِنَفْي صِفةِ العِلم عن أهلِ الأهواءِ في قولِه الكريم “لَا يَعْلَمُونَ”!
سِياسِياً: ومِنْ أخطرِ ما أصَاب أمّتنا وسبَّب ضَعفَها هو انفِراطُ عِقدها وسُقوط كيانِها الجامِع المانِع، لأنَّ أهمَّ أسباب نهضة الأمم وتفوّقها هو اجتماع كلِمتها في “كيانٍ سياسيّ” يحفظُ وِحدتها ويَصُون جَمَاعتها. وهو الأمرُ الغائِب عن أمّتِنا منذ سقوطِ آخر خليفةٍ قبل أكثرَ مِن قَرنٍ مِن الزَّمن! وسقطنا مُذَّاكَ في دوَّامةِ الاسْتبدادِ السّياسيّ الذي أَلبَسَ أُمَّتَنا رِداءَ العَار والشَّنار، وأذاقَها ألوانَ الذُّلِّ والهَوانِ وكرَّس الفُرْقةَ والتَّشَرذُم، وقديماً قالوا: الاستبدادُ أصْلُ كلِّ فسادٍ!
وحين انْفصَلت السّياسةُ عن الإسلام، ولم تحْتكِم لِشرعِ اللهِ تعالى وأَهْمَلَت مَبدأ الشُّورى انْحرفت وفقدت البوصلة، وتاهت بذلك الأمّة عُقوداً طويلةً وهي تبحثُ يَمْنةً ويَسْرةً، فلم تَدَعْ شيئاً مِن أفكارِ الشّرقِ والغربِ إلّا وجرّبتهُ بلا فائدة، ونَبَذَت وراءَ ظهرِها أعدلَ وأمْثلَ نِظامِ حياةٍ عرَفتهُ البَشريةُ قاطِبة… نظامُ الخِلافةِ الإسلاميةِ القائمِ على الشّورَى والعدْل! واعتَمَدت القَوانين الوَضْعيّةَ الجَائرة، فَتَوَالت علينا الوَيْلاتُ والخَيْباتُ والنّكَسات. والمُتدبِّر في آي اللهِ عزَّ وجلَّ يجِد أنَّ الله تعالى قد ضَرَب مَثَلَيْن لِلحُكْم لا ثالِث لهُما: حُكمُ الله، وحُكمُ الجاهِليّة! وعلى هذا الأساسِ، فإن كلّ حُكمٍ غيرَ حُكمِ اللهِ هو حُكمُ جاهِليةٍ، وإنْ تعدَّدتْ المُسمَّيات والصِّفات (ديمُقراطيّة، عالْمانِية، لِيبِرالية، شُيوعية، اشتِراكية…) ومِن عجيبِ ما نرى ونسمعُ اليوم، تِلكُم النّداءات المُنكَرة والدَّاعية لِفصْل دِينِنا الإسلاميّ عن السّياسة! عجباً! وأيّ دينٍ هذا الّذي في سِياساتِنا حتَّى نَفْصِلَه أصلاً؟ بعد أكثرَ مِن قرنٍ عن تَغْييبِ الشَّريعةِ وإِقصائِها عن الحُكْم والأمرِ، نحن مَن عليهِ أنْ يُناديَ بِكلِّ قوّةٍ وحَزمٍ: يَكفِينا فَصْل الدّين عن السّياسة!
ولأنّ السّياسة هي المُبتدأ، فكلُّ ما تلاها بعد ذلك هو الخَبَر، فإنْ صَلُحت صَلُح ما تبِعها، وإن فسدت كان ما سِواها أشدّ فساداً.
اجتِماعِياً: المُتأمّل في حالِ مُجتمَعاتنا الإسلاميّة يُدركُ حجْم الشَّرخ الذي أصَاب هُوية المُجتمع الإسلاميّ وأصَالته، حيث عَصَفتْ به رياحُ العَوْلمةِ ومَسَّتهُ نَفَثَاتُ العَلْمَنة، ووَجَدت فيه العاداتُ الدّخيلةُ والتّقاليدُ الباليةُ مَرْتعاً، برعايةِ قِوى الاستِخرابِ في الدّاخلِ والخارجِ، فتفكَّكت المنظومةُ القِيميةُ والأخلاقية، وظَهَرت أمراضٌ اجتِماعيةٌ أضْعَفت الهِمَم، مِثل اليأسُ والعَجزُ والتّواكُلُ والدّونِيةُ والاسْتِكانة. ولا نجدُ وصفاً أبلغَ لهذهِ الحالِ مِن وَصفِ المفكّر مالِك بن نبيّ رحِمه الله: (إنّ مُجتمعَ ما بعْد التّحضّر ليس مُجتمَعاً يقِف مكانه، بل هو يتقهقرُ إلى الوراءِ بعد أنْ هَجَر درْبَ حضارتِه وقَطَعَ صِلتهُ بها). ولأنَّ المجتمعاتَ رهينةُ الأفكارِ السَّائدةِ فيها، فإن كلَّ ما ينتجُ عن المُجتمع من سُلوكياتٍ سلبية كانت أم إيجابية إنَّما يكونُ تَبَعاً لِما يُؤمنُ به من فِكرٍ، ولِأنَّنا مَأمُورُون شرعاً أن نُخضِع كلَّ تفصيلٍ في حياتِنا لِميزانِ وَحي الإلهِ وشَرعِه، كما جاء في قولِه تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” – الأنعام 162 – ساعَتَئِذٍ تستعيدُ العقيدةُ فاعِليتَها وتأثِيرَها في حركةِ الحياةِ، وينتظِم المُجتمع في طريقِ البِناءِ والتّشييدِ، مِن مُنطلَق تَغييرِ الجُزءِ نحو تَغييرِ الكُلّ، تصديقاً للقاعِدةِ الرَّبّانية “إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” – الرَّعد 11
ولَنا في نَبِيّنا عليهِ الصَّلاة والسَّلام يومَ وضَعَ أساسَ المُجتمعِ الجديدِ في المدينةِ الأُسوة الحَسنة، فهو صاحبُ الفِكرة العبقريّةِ النَّابعةِ مِن صميمِ العقيدةِ الإِسلاميةِ، حين آخَى بين المُهاجِرين والأنصَار وصَهَرَهُم في نِظامٌ اجتماعيٌّ فريدٌ أذابَ الفَوارقَ وعزَّز اللُّحْمَة، فضُرِبت أروعُ الأمثِلةِ في الحُبِّ والإِخاءِ والكَرمِ والإِيثارِ والتَّضحِيةِ والفِداءِ وحُسنِ الجِوارِ والصُحبةِ والوَلاءِ في الدّين. حتّى أثْنَى الله عليهِم في قوله: “لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” – الحَشْر 9
اقتِصادِياً: الاقتِصادُ مُحرِّكُ السّياسة، ولأنَّ الأمّة مَسلُوبة الإرادة السّياسية، فَقد وقَعَت أسِيرةَ نُظُمٍ اقتِصاديةٍ غربيةٍ فاسدةٍ صَنَعت عالَماً جشعاً ومُتوحّشاً، نَهَب ثَرَواتِ الأممِ واستعبَدَها بِواسِطةِ مُؤسَّساتهِ وهَيئاتِه الدَّوليةِ الّتي سلَّطَها على رِقابِ الشُّعوبِ رقيبةً وحَسيبةً على مَوَارِدها ومُقَدّراتِها، بعد أن عاثَ فيها فساداً بِجيوشِه.
والنَّهجُ الإلهيُّ نسيجٌ متكاملٌ، وبَوْتقةٌ من المبادئ والقِيم الّتي تَضبِطُ عَلاقةَ الإنسانِ بالسّياسةِ والاجتِماعِ والحُكمِ والاقتِصاد والمال، وقد عُنِيَت الشَّريعةُ الإسلاميةُ بِتهذِيب أُصُولِ هذا الأخِيرِ ووَضْعِ قواعِده، وبَيَّنَت آدابَ امتِلاكِه وأوْجُهَ إِنفاقِه، وِفقَ خُطّة الإصلاحِ الإلهيةِ دائماً، ولأنَّ أوَّل خُطوةٍ لِلإصلاحِ هي صِناعةِ وعيٍ صَحيحٍ، فَصَلاحُ الاقتِصاد لا يكونُ إلّا بِتوعِيةِ الإنسانِ المسلمِ وتعرِيفِه بِحقيقةِ المالِ وماهِيته، فنقول: المالُ مالُ الله تعالى، القائل: “وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ” – الحديد 7 – والمُسْتَخلَفُ هو الإنسانُ، خليفةُ اللهِ في أرضِه، ولا يحِقُّ لِلمُسْتَخْلَفُ أنْ يَتصَرَّفُ في مادَّةِ الاستِخْلافِ بِغَيرِ ما أجَازهُ وأقرَّهُ المالِكُ الأصْلِيِّ، سُبحانه عزَّ وجلَّ.
وقَد ركَّزت النُّظُمُ الغَربيةُ على العدالةِ الاقتِصاديةِ والاجتِماعيةِ فضَلَّت الطَّريق، لأنَّها تصوَّرت أنَّ الفردَ هو الّذي يظلِم الجَماعةَ فسُحِق الفردُ تحت لِواءِ الشّيوعيةِ والاشتِراكيةِ، ثمّ تصوَّرت أنَّ الجماعةَ هي الّتي تظلِمُ الفردَ فَسُحِق المُجتمعُ ومعهُ الأخلاقُ والقيمُ تحت مِظلّةِ الرّأسِماليةِ، وبينَ هذا وذاك ضاعتْ كرامةُ الإنسانِ بين أهواءِ الشَّرقِ والغربِ!
وخُطَّةُ الإصلاحِ الإلهيّ، تقتضِي إِخضَاع الاقتِصادِ لِميزانِ وحي اللهِ وهدي نَبيّه، فَوَضَعت مِعيارَ الحَلالِ والحَرامِ، والشَّريعةَ وازَنَت بين جميعِ القِوى الفاعِلة في الحياةِ، وأعْطَت كُلَّ ذِي حقٍّ حقَّهُ، وقَطَعت كلَّ سبيلٍ للكسبِ غيرِ المشرُوعِ إذْ حَرَّمت المُكُوسَ والضَّرائِب وأبْطلت الرِّبا بِأنواعهِ، حتّى لا يَبْغي أحدٌ على أحدٍ ولِيَتَحقّقَ مبدأُ تكافُؤ الفُرصِ بينَ الجميعِ. ولأنَّ الوَحيَ هو مِعيارُ صَلاحِ كلّ شيءٍ، فَقَد فَرَض اللهُ عزَّ وجلَّ الزَّكاةَ، وجَعَلَها واحدةً مِن أهمِّ مواردِ الإسلامِ إن تمّ تطبِيقُها واستِغلالُها بِشكلٍ أمثلٍ، وبِلُغةِ الاقتِصادِ، فالزَّكاةُ تُعتَبرُ مُعجِزةً اقتِصاديةً، ذلكَ أنَّها لا تَجِبُ إلّا في المالِ النَّامي، ويُمكِن توجيهُ مَصَاريفِها نحوَ تَموِيلِ مَشاريعَ اجتِماعية تُحقِّقُ العيْشَ الكريمَ وتُعزِّزُ التَّكافُلَ الاجتماعيّ.
فِكْرياً: معركة الفِكر، هي أمّ المعاركِ في صِراعِ الحقِّ الذي يُمثِّله النَّهجُ الإلهيُّ من جهة، والباطل الذي تُمثِّله الجاهِليةُ الحديثةُ من جهةٍ أخرى، ولعلَّ أكثر ما يَحُزُّ في نفس المُؤمِن الغَيور على أمّته، أنَّ زمن التَّيهِ طال، رغم أنَّ لِأمتنا الإسلاميةِ مِن الرَّصيد الفكريِّ الأصيلِ ما يُغنيها عن النَّظر لِما في أيدي غيرها، والمِثالُ ما ترَكهُ لنا المُفكِّر الفذّ مالِك بن نبيّ رحِمه الله مِن أثرٍ جليلٍ، فهو مِن أوائلِ الّذين أوْعَزُوا أزمةَ أمّتنا إلى مُعضلة الأفكارِ بالدَّرجةِ الأولى، حين قسَّمها بشكلٍ عجيبٍ إلى أفكارٍ ميتةٍ وأخرى مُمِيتةٍ، والأَعجبُ أنْ جَعَل لِلأفكارِ قُدرةً على الانتِقامِ مِمَّن خانَها وخَذَلها!
ولا شكَّ أنَّ أكثرَ الأفكارِ فتْكاً بِعُقول المُسلمين، “عُقْدة الخَواجة”، تَراهُم يَقِفُون مَشْدُوهِين إِزَاء كلِّ ما يأتيهم مِن وراءِ البِحارِ، ويَذَرُونَ ما بِأيديهم وإنْ كان أفضَل! ولو تفكَّرُوا قليلاً ودَرسُوا أسبابَ تفوُّق الحضارةِ الغربيّةِ لوجدُوا أنَّها استفادت مِن مِيراثِ حضارتِنا الآفِلة، واقتبست مِنها العُلوم والمَعارف الدّنيوية، واحتفظت في نفسِ الوقتِ بِتُراثِها وبُنيتِها الفِكريّة، رغم قَطِيعتِها مع مَبادئ دِينها وعقائِدها – على فسادِها – وهذه العُقدة هي الّتي جرَّت علينا فكرةً مُميتةً أخرى تُدعى “القابِليّةً للاستِعمار”! وبِالرَّغم من أنَّ جُهود خيرة المُفكّرين مِن أبناءِ الأمّةِ المُخلِصين قد سَبقت، إلَّا أنَّنا لا نزالُ نُعاني اليوم ذاتَ المُشكِلات التي تحدَّثوا فيها قبل عُقودٍ، أو ربَّما ازدادت تعقيداً! وبهذا ينطبِق علينا قولُ الشّاعِر:
ومِنَ العَجائبِ والعجائِبُ جمَّةٌ … قُرْبُ الدّواءِ وما إليهِ وُصولُ
كالعِيسِ في البيْداءِ يقتلها الظَّما … والماءُ فوق ظهْرِها مَحمُولُ!
أفكارُنا الإسلاميةُ أصيلةٌ، ولا تحتاجُ مِنَّا إِلَّا لِتفْعِيلِها!
الخلاصة
ما أحْوَجَ العالمَ أجمَع إلى سِيادةِ شَريعة الله تعالى، وما أحْوَجَنا إلى أن نَفهَمَ ونَعِيَ ما وَقَرَ في لبِّ الصَّحابيّ الجَليل رِبْعِيّ بن عَامِرٍ رضيَ الله عنهُ قبل قُرونٍ، حين خَاطَب طاغِيةَ الفُرسِ بِشُموخٍ: (إِنَّ الله بَعَثنا لِنُخْرِج العِبادَ مِن عِبادةِ العِبادِ إلى عِبادةِ ربِّ العِبادِ، ومِن جَوْر الأديانِ إلى عَدلِ الإِسلامِ، ومن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعَةِ الدُّنيا والآخِرة)، وأيُّ عدلٍ أقوَم مِن عدلِ شَريعةِ الله؟ وأيُّ ظُلمٍ أشدَّ مِن تَعطِيلها؟ فيها ضَمانُ كرامةِ الإنسانِ وصَوْن حُقوقهِ الأساسيةِ الّتي قَصَدت حِفظِ دِينهِ ونفْسهِ وعَقلهِ وعِرضِه ومَالِه. فالرُّؤيةُ المادّيةُ المُهَيمِنةُ على تفاصِيل الحياةِ اليوم، سمَّمَتْ كلَّ شيءٍ وأوصَلت البَشريّة لِأبشعِ دَرَكاتِ الانتِكاسِ والانسِلاخِ عن الفِطرةِ السّليمةِ، وسَببُ ذلك “اسْتِقالة” الأمَّةِ مِن وظِيفتِها وتَفرِيطِها في رِسالةِ ربِّها… ولا حوْلَ ولا قوّةَ إلّا بِالله!
المصادر
-
الوَحيُ ونقيضهُ / د. بَهاء الأمير.
-
مُشكِلة الأفكارِ في العالمِ الإسلاميّ / مالِك بن نبيّ.
-
طَبائِع الاستِبدادِ ومَصَارع الاستِعباد / عبد الرّحمن الكواكبي.
-
تحريرُ الإنسانِ وتجْريدُ الطُّغيانِ: دِراسةٌ في أُصُولِ الخِطابِ السّياسيّ القُرآنيّ والنَّبويّ / د. حاكِم المُطَيري.
(المصدر: موقع تبيان)