صناعة العالم الرباني (2)
بقلم د. محمد يسري إبراهيم (خاص بالمنتدى)
العالم الرباني أغنى الخلق بالله، لا يرى إلا منقبضا عن سؤال الناس، زاهدا فيما في أيديهم، راغبًا فيما عند الله والدار الآخرة، حذِرًا من الاغترار بدار الغرور، مؤثرا للباقية على الفانية، يعيش في قناعة وكفاف وستر وصيانة!
جعل الآخرة همه فجعل الله غناه في قلبه!
إن جود العالم الرباني في الأمة؛ بل في كل قطر وبلد ضرورة دينية، ومهمة مجتمعية، ومسئولية سياسية؛
فكل من يعنيه أمر الدين في أمته ومجتمعه مطالب بالسعي في إيجاده، وتهيئة الأسباب والموارد كافة لإعداده،
الحاكم والعالم والمربي والتاجر في ذلك سواء،وكلٌ بما يستطيع.
وكل المسئولين عن التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات الشرعية وهيئات الأوقاف في جميع أقطار المسلمين مطالبون بالواجب المنوط بهم بالأصالة ألا وهو صناعة العالم القدوة عبر ربانية التعليم، والتربية، والمناهج، والأساتذة، وإذا لم تكن تلك وظيفتهم فوظيفة من إذن؟
كما تسأل مؤسسات الدولة الرسمية عن بناء وتأهيل العالم الرباني؛ فإن مؤسسات المجتمع الشرعية كالاتحادات والروابط والجمعيات العلمية المستقلة والأوقاف الأهلية تسأل عن واجبها في توفير المحاضن العلمية المتكاملة، كما يسأل العلماء المستقلون عن هذا العالِم المفقود!
ويخطىء من يظن أن العالم الرباني هو الحافظ لمتون يلقنها للناشئة،
أو الأكاديمي الباحث في الجامعة،
أو المعتزل في محراب العلم!
إنما العالم الرباني هو أبوبكر وابن عباس في الصحابة، وعمر بن عبدالعزيز وسعيد ابن جبير في التابعين، ومالك والشافعي في تابع التابعين!
إنما العالم الرباني أمثال:
أحمد بن حنبل، والبخاري، وابن حزم، وابن عبد البر، والعز بن عبدالسلام،والنووي، وابن تيمية، وابن كثير، والذهبي، وابن حجر العسقلاني،وغيرهم من المتقدمين والمتوسطين والمتأخرين،
رحمهم الله ونفعنا بعلومهم في الدارين أجمعين!
اللهم آمين!
ومن المعاصرين أيضًا علماء ربانيون، ولٰكن الأمر كما قال الله:”ثلة من الأولين وقليل من الآخرين”،وليس يقاس المتأخرون بالسابقين الأولين، وإنما يقاسون بصالحي أهل زمانهم!
فالربانية تتجزأ،وحظ العالم المتأخر منها دون حظ المتقدم غالبا، وما منهم إلّا له مقام معلوم!
العالم الرباني مجاهد بعلمه وبيانه، كما هو مجاهد بسيفه وسنانه، فليس الرباني ممن يعتزل ذروة سنام الإسلام، وكم من رباني قضى في ساحة الوغى شهيدا حميدا!
قال تعالى:”وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا”
ولقد زخر القرن الرابع عشر بربانيين مجاهدين؛ ففي الجزيرة: عبدالرحمن السعدي، وفي مصر: محمد رشيد رضا وأحمد شاكر، وفي الشام: جمال الدين القاسمي، وعز الدين القسام، وفي المغرب: البشير الإبراهيمي وعلال الفاسي وعمر المختار، وفي العراق: الألوسي، وفي اليمن: المعلمي، رحمهم الله جميعا.
وختام الكلام على حكم صناعة وتكوين العلماء الربانيين أنه واجب شرعي على كل قادر ؛ بل هو أحد المقاصد العشرة التي دار عليها تنزيل القرآن الكريم، كما قرره الطاهر بن عاشور في تفسيره، اللهم هيء لأمتنا علماء وقادة ربانيين يهدون سفينتها لشاطىء العز والتمكين، آمين!