مقالاتمقالات مختارة

صراع الظلاميــــــــة والتنويريـــــة

صراع الظلاميــــــــة والتنويريـــــة

بقلم أ. د. الطيب برغوث

تساءل بعض الإخوة القراء على صفحة منتدى السننية عن مفهوم الظلامية الذي استعملته في تعليقي على الأحداث الجارية في تونس الشقيقة في عدد الأسبوع قبل الماضي من أسبوعية البصائر الغراء، ودواعي استدعائه لتحليل ما يجري من تراجيديات محزنة في العالم العربي بصفة عامة منذ زمن بعيد؟ فكل من الظلامية التي تحاول فئات اجتماعية إلصاقها بفئات معينة في المجتمع، والتنويرية التي تحاول نعت نفسها بها، تحتاجان إلى ضبط وتحقيق لمناطهما كما يقول الأصوليون، لأنهما تستعملان في غير محلهما مع الأسف الشديد.
ما هي النورانية ومن هم التنويريون؟ وأود أن أوضح بأن الظلامية نقيض النورانية التي ينبغي أن تقوم عليها حياة الإنسان وحركة الدول والمجتمعات، لأن النورانية منفتحة على قيم الحرية والكرامة والشفافية والصدق والمصارحة والانصاف والكفاءة والأمانة والمراقبة والمحاسبة، ومواجهة الفساد والمظالم، والحرص على موافقة سنن الله تعالى في خلقه بشكل شامل ومتكامل في بناء النفس والدولة والمجتمع والأمة والحضارة.. فالمفترض أن كل ما يجري تحت الأضواء الكاشفة يكون أكثر إتقانا وجدية ومصداقية، لأنه معرض للنقد والمراجعة والمسائلة والمحاسبة والجازاة.
ما هي الظلامية ومن هم الظلاميون؟ بينما الظلامية تقوم على الغموض والغش والتدليس والمخادعة، والولاءات العائلية والعشائرية والعصبوية المنتفعة، والشهوانية، والحسابات الضيقة، والتجزيئية المتنافرة المناقضة لسنن الله في الحياة، وتوفر أجواء خصبة للاستبداد والمهانة والحقرة.. لأن كل شيئ فيه يجري في الكواليس وفي الخفاء، ويهيمن عليه التزويق وخداع العناوين والأولوان والأصباغ المضللة، التي تخفي قبح وعفن الفساد والظلم والجهل..
ولذلك فإن كل من يتنكب طريق النورانية فهو يتحرك بنسبة أو أخرى، في خط الظلامية، وينحاز إلى الظلاميين الذين يتحركون ضد منطق سنن قيام الدول والمجتمعات والنهضات المتوازنة، سواء صنفوا أنفسهم، أو صنفهم غيرهم، في دائرة الوطنيين أو الإسلاميين، أو العلمانيين، أو التلفيقيين، أو المتفرجين على ما يجري في المجتمع، أو الطالبين للسلامة الذاتية، أو الذين يعتبرون أنفسهم خبزيست أو حشيشة طالبة أمعيشة! أو غيرهم.. ممن لا يمتلك رؤية ومعرفة وثقافة سننية شاملة ومتكاملة، عن سنن بناء الذات، وبناء الدول، وبناء المجتمعات والأمم والحضارات.
فالعبرة هنا هي للقيم التي تقوم عليها كل من النورانية والظلامية، والمآلات الدنيوية والأخروية التي يفضي إليها موقف وسلوك كل من الخطين والاتجاهين والمعسكرين، وكيف ينبغي للإنسان أن يحمي نفسه من الحركة على خط الظلامية قدر ما يستطيع، لأنها خطيرة على تاريخه وحاضره ومستقبله ومصيره؟ بعيدا عن التبرير والسفسطة التي لا تجدي نفعا في موازين سنن الله تعالى في الحق والباطل، والخطأ والصواب، والفساد والصلاح، والنجاح والفشل.
فالظلامية تقاس وتعرف بحركتها ضد منطق السنن الإلهية في بناء النفس والمجتمع والدولة والأمة والنهضة الحضارية، ولذلك قد تجمع الإسلامي والعلماني والوطني والمصلحي.
والنورانية تقاس وتعرف بحركتها المنسجمة مع سنن الله تعالى في بناء النفس والدولة والمجتمع والأمة والنهضة الحضارية. ولذلك قد يكون فيها الإسلامي والعلماني وغيرهما من البشر المستنيرين كذلك.
فالمفترض في الإنسان هو أن يتحرى دوما الحركة على خط النورانية والخيرية والصوابية الحقيقية، وأن ينحاز إليها قدر ما يستطيع، وأن لا تأخذه العزة بالإثم في الرجوع إلى الحق أو الصواب عندما يكتشفه، وأنّ لا يكون عونا للظلامية على نفسه أو مجتمعه، لأنّ الظلامية مهلكة للنفس والمجتمع معا، وأن لا يركن إلى التبريرات والتأويلات الغرضية الفاسدة، للقوانين والنصوص والتصرفات والمواقف عامة، لأنّ حبلها قصير، ومآلها وخيم.
مخاطر الحركة على خط الظلامية: وما أكثر ما جنت التبريرات والتأويلات المميِّعة للحقيقة على المجتمعات والدول والأمم، بحيث يصبح الإنقلاب ثورة أو تصحيحا ثوريا، وتصبح الثورة والإصلاح إرهابا، وتتحول الدساتير والقوانين، بل وحتى الأديان مع الأسف الشديد! إلى لعبة بيد المتصارعين، يقرؤها ويفسرها ويوظفها كل منهم بالطريقة التي تخدم مصالحه، وتعزز نفوذه وسلطانه وسطوته على منافسيه، ناهيك عن خصومه! ولذلك تسقط قيمتها في نفوس الناس، ولا يقيمون لها وزنا في حياتهم.
ومن سنة الله تعالى في عباده، أن يكون هؤلاء من أولى ضحايا الظلاميين، سواء بتخلي الظلاميين عنهم، ومسح الموس فيهم! أو بتسلط خصوم الظلاميين عليهم وسومهم سوء العذاب بعد ذلك، في سياق منطق الانتقام العدمي الذي تؤسس له الثقافة الظلامية، وتكرسه كمنهج في الحياة! وخاصة في الساحة السياسية التي تهيمن عليها مقولة سحق الأعداء دون رحمة، كما تؤكك ذلك المكيافيلة في هذه المقولة الخطيرة على سبيل المثال: “على الأمير أن يخشى كل خصومه، وكثير من أصدقائه، ومعظم رعاياه، وعليه أن يتخلّص من خصومه وحساده بكل ما أوتي من قوة”. ومقولة أحد تلامذته المعاصرين صاحب كتاب السطوة، الذي يقول فيها: “وقد تعلَّم القادة جميعاً منذ فجر التاريخ أن عليهم أن يسحقوا من يخشونهم من الأعداء، وبعضهم تعلم هذا الدرس بالتجارب المريرة. الجمرة التي تظل متقدة مهما كانت خافتة سوف تشعل النار في النهاية، والخسائر التي تأتيك من الضربات التي ترحم عدوك أكبر بكثير من الضربات التي تسحقه، لأنك لو لم تنه عليه سيتعافى ويعود للانتقام منك. امحق أعداءك ليس مادياً فحسب بل معنوياً أيضاً” !(ص/185).
ولهذا فإنّ المعضلة الكبيرة هنا هي كيف نتخلص أو نتخفف كبشر عامة، من مؤثرات الظلامية علينا وعلى فهومنا ورؤانا ومواقفنا وانحيازاتنا، وتفسيراتنا وتأويلاتنا المغرضة، ونتحرك نحو المزيد من الموضوعية والإنصاف والتوازن والمراعاة للمصالح الذاتية والاجتماعية الحقيقية؟
ما المخرج من مهلكة الظلامية؟ فنحن كلنا تطحننا وتلوثنا وتبهدلنا وتهلكنا، وتجني علينا، التفسيرية والتأويلية والانحيازية المغرضة، وتجعلنا أداة في يد النفس الأمارة بالسوء، أو الشيطان المتربص بنا، أو القوى الظلامية المتصارعة محليا ودوليا، فكيف نخفف من سطوة هذه المحرقة على نفوسنا وتاريخنا ومستقبلنا ومصيرنا؟ وكيف نحقق ولو حدا أدنى من التوازن والموضوعية والعدل في تفسيراتنا وتأويلاتنا ومواقفنا؟ وقبل ذلك لماذا نعاني من هذه المحرقة المهلكة؟ أليست لدينا منظومات أسرية وتربوية وثقافية واجتماعية وسياسية وقانونية.. تزودنا بالمعرفة والتربية والثقافة، ونظم الضبط النفسي والروحي والسلوكي والاجتماعي المختلفة؟ أين الخلل ونحن نملك ذلك كله؟
وكما قال أحد الإخوة المعلقين على مقالتي السابقة المتواضعة: بأنّ الشعب التونسي متعلم وواعٍ وسيتجاوز هذه المشكلة، وكما قال غيره في مناسبات أخرى كثيرة جدا، بأنّ المجتمع المصري فيه الأزهر! وأن المجتمع الفلاني فيه كذا، وأنّ غيره فيه كذا وكذا وكذا، وهلما جرا.. ولكن السؤال يظل مطروحا، والمعضلة قائمة، وهي لماذا دخل المجتمع التونسي أو المصري أو السوري أو اليمني أو الليبي أو الجزائري وغيرهم.. في هذه المحارق المنهكة والمهلكة، إذا كانت فيهم كل هذه المؤسسات، وهذا التعليم، وهذه التربية، وهذه المؤسسات الضبطية؟ فأين الخلل إذن؟
لأنّ الواقع يؤكد بأنّ كلّ هذه المؤسسات والاستراتيجيات والمنهجيات.. تعاني من اختلالات جذرية ما، وإلاّ لكان وضعها ووضع المجتمع أفضل بكثير مما هو عليه! فأين الخلل إذن، للمرة الألف؟
مخاطر الخطأ في التشخيص الصحيح للمشكلات
تلك هي المعضلة التي يجب أن نتوجه نحوها لنخلص وننقذ أنفسنا منها، لأننا إذا لم نشخص المشكلة جيدا، ولم نقف على جذر الخلل، فإننا سنظل نبحر نحو دوامات ومحارق ومهالك التفسيرية والتأويلية والانحيازية المغرضة، والعلاجات العرضية الجزئية السطحية الظرفية، ونتوغل في دياجير الظلامية الدامسة، ولن نعرف طريقنا إلى التوازن والفعالية والتكامل والخيرية والبركة والرحمة المطلوبة. فأين الخلل إذن؟ وأين جذر المشكلة في حياتنا بل وفي حياة الإنسان المعاصر عامة؟
جذر الخلل في حياتنا
والخلل كما ذكرت في المقالة السابقة، وفي مقالات كثيرة، يكمن في المنظورات السننية الجزئية المتنافرة، التي تحكم تحليلاتنا وتفسيراتنا وتأويلاتنا وتصوراتنا ومواقفنا ومناهج عملنا، وتطبعها بالمزيد من الذاتية والفئوية والإهتلاكية الاجتماعية، التي لا تسمح بتوازن الشخصية ولا بتوازن المجتمع.
السننية الشاملة طريقنا نحو النورانية
الظلامية كحركة مناقضة لسنن الله في الحياة، تتقلص وتنحسر مخاطرها ومضارها، كلما اتسع نطاق النورانية كحركة منسجمة مع سنن الله تعالى في خلقه.
والطريق إلى توسعة النورانية في الحياة هو طريق السننية الشاملة، التي تمكننا من الانفتاح على كل سنن الحياة المبثوثة في ساحات الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، والاستفادة منها جميعا، وعدم تجزئتها أو المنافرة فيما بينها، لأن كل ساحة منها وجدت لتغطية ضروريات وحاجيات ومحسنات جانب محدد من حياة الإنسان وحركة المجتمع، فإذا اقتصر الإنسان على سنن ساحات منها وأهمل الأخرى، ظلت جوانب من حياته الذاتية وحركته الاجتماعية بلا تغطية ولا تلبية لحاجاتها الحيوية، وأتاه الاختلال والخطر من هناك، وامتد إلى بقية الجوانب الأخرى.
وهذا يقتضي معرفة شاملة بمنظور السننية الشاملة، وتجسيدا لمعطياته ومقتضياته في المنظومات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، وتحويلها إلى ثقافة عامة سارية في كل شرايينه ومفاصله، وأي تقصير أو قصور في ذلك، سيكون حتما على حساب النورانية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية الرشيدة.
وصدق الله تعالى حينما لخص لنا هذا كله في قوله سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40]. ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكثر من هذا الدعاء في حياته: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ لي في قَلْبِي نُورًا، وفي لِسَانِي نُورًا، وفي سَمْعِي نُورًا، وفي بَصَرِي نُورًا، وَمِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيَّ نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ في نَفْسِي نُورًا، وَأَعْظِمْ لي نُورًا) (صحيح مسلم).
فنحن نحصل من النورانية وتتصف حركتنا بالتنويرية بقدر موافقتها لسنن الله تعالى في خلقه، وانسجامها معها، ونفارق هذه النورانية وتتصف حركتنا بالظلامية، بقدر مصادمتها لسنن الله تعالى في خلقه، وأي تفسير غير ذلك فهو دوغماطية أيديولوجية ظلامية! فلنتحرى سنن الله في خلقه في كل مجالاتها، ولنطابق أنفسنا معها، نكن تنويريين مستنيرين.

المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى