مقالاتمقالات مختارة

صدق الله وكذب المهندس محمد شحرور

في عهد الرئيس التونسيّ السابق ” الحبيب بورقيبة ” ، دعا العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج ، وطلب من العلامة الفقيه الطاهر بن عاشور رحمه الله أن يفتي في الإذاعة بما يوافق ذلك ، وترقّب النّاس ظهوره من خلال البثّ الإذاعيّ ، فخرج الشيخ وقرأ قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ثمّ قال بعدها : ” صدق الله ، وكذب بورقيبة ” وأفتى بحرمة الإفطار ، وأن من يفعل ذلك ، فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.

قبل يومين نشر المهندس محمد شحرور مقالة يجيز فيه الإفطار في رمضان لمن شاء وإخراج الفدية بدلا عن ذلك ، متخذاً أسلوب التلاعب بآيات القرآن الكريم : حيث اجتزأ الآية الكريمة ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ * فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ  وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) عن الآية التي جاءت بعدها مباشرة والتي جاءت فيها فريضة الصيام بطريقة إلزامية على كل صحيح مقيم وهي قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ ) ، وهو بهذا الفعل الآثم الشاذ كمن يقف عند قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فيبيح شرب الخمر في غير أوقات الصلاة ، ويتغافل عن قوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ).

#إضاءات :

1- لم يقل أحد من علماء الأمة ابتداء من الصحابة ومن بعدهم أن المسلم البالغ العاقل القادر مخير بين صيام رمضان وبين الفدية ، بل أجمعوا على فرضيته

ونقل الإجماع كبار علماء الأمة كما في المغني لابن قدامة والامام النووي في “المجموع ” وابن رشد في “بداية المجتهد” وغيرهم .

ولكن جاء في هذا العصر المهندس محمد شحرور فحاول ان يعبث في كتاب الله ويلغي دور السنة في التشريع الإسلامي ويخالف ما أجمع عليه علماء الأمة في كل عصر .

وما قاله أقل من أن يرد عليه ، ولكن بما أن هناك من المثقفين الذين تأثروا بطرحه الماكر ، والذي يتستر فيه بعقلانية خادعة زائفة : لذلك كتبت هذه المقالة للرد عليه وعلى من انخدع به .

2- كان من حكمة التشريع الإسلامي استخدام أسلوب التدرج في فرضية الصيام ، فلم يأمر به بصيام رمضان دفعة واحدة ، ولكن تدرج بذلك على مراحل وأحوال ، روى أبو داود في سننه عن معاذ بن جبل قال : أحيل الصيام ثلاثة أحوال :

أ- فإن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم يوم عاشوراء.

ب- فأنزل الله تعالى: ” كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ” إلى قوله: ” طعام مسكين “ فمن شاء أن يصوم صام ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا أجزأه ذلك وهذا حول.

ج- فأنزل الله تعالى: ” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ” إلى ” أيام أخر” فثبت الصيام على من شهد الشهر وعلى المسافر أن يقضي وثبت الطعام للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يستطيعان الصوم ) اهـ

3- أما الآية الكريمة التي اعتمد عليها المهندس شحرو وهي قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ  وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ  إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فخالف فهمه لها القرآن نفسه، وخالف إجماع الصحابة، وخالف عمل الأمة قاطبة ابتداء من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر.

آراء الصحابة في الآية الكريمة :

أ- أَنَّ الآيَة مَنْسُوخَة وهذا ما قاله مُعَاذ بْن جَبَل وَابْن عُمَر وَسَلَمَة بْن الأكوَع مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْد نُزُول قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) بِالْخِيَارِ بَيْن صَوْم رمضان وَبَيْن الْإِفْطَار وَالِافْتِدَاء مِنْ إفْطَاره بِإِطْعَامِ مِسْكِين لِكُلِّ يَوْم وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ : ” فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ “ فَأُلْزِمُوا فَرْض صَوْمه , وَبَطَلَ الْخِيَار وَالْفِدْيَة ) .

ب- أنها ليست منسوخة ولكنها خاصة في الذين لا يستطيعون الصيام كالشيخ العجوز وغيره ، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( ليست بمنسوخة ، ولكنها خاصة في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكينًا ) .

أما الأصحاء المقيمون فالصحابة متفقون بما فيهم ابن عباس رضي الله عنهما على وجوب الصوم عليهم قال العلامة القرطبي : ( الجَمِيع مِن أَهل الإسلام مُجْمِعِونَ على أَنَّ مَنْ كَانَ مُطِيقًا مِنْ الرِّجَال الْأَصِحَّاء الْمُقِيمِينَ غَيْر الْمُسَافِرِينَ صَوْم شَهْر رَمَضَان فَغَيْر جَائِز لَهُ الْإِفْطَار فِيهِ وَالِافْتِدَاء مِنْهُ بِطَعَامِ مِسْكِين ).

3- من المفارقات أن المهندس محمد شحرور يقول بعدم الترادف في ألفاظ القرآن الكريم ، فإذا كان لا يوجد ترادف بين كلمات القرآن الكريم فمن باب أولى ألا يوجد ترادف في الآيات والا كان تكراراً لا فائدة فيه ، وهذا ينطبق على آيات الصيام فعندما قال الحق سبحانه : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ  فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ  وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ  إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، جاء بعدها قوله تعالى :

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ  فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ  وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )

فدلالة ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) واضحة في الوجوب على كل من حضر الشهر بالغاً قادراً على الصوم وهي ناسخة لقوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ  فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) .

كما أن إعادة حكم الصيام على المسافر والمريض مرة ثانية في الآية دلالة على ان هذه الآية قررت أحكام الصيام بصورة نهائية ، والا كان تكراراً عبثياً ننزه القرآن الكريم عنه .

4- وكذلك من المفارقات الغربية ان المهندس شحرور وأمثاله يقولون ان فرضية الصلاة وأفعالها نقلت لنا عن طريق الآباء والأجداد جيلا عن جيل ، ولا تحتاج فرضيتها لأحاديث نبوية ، ونقول له ولأمثاله : ان فرضية الصيام ووجوبه على البالغ القادر المقيم نقلت لنا كذلك طريق الآباء والأجداد جيلاً عن جيل . لم يخالف بذلك أحد : فهذا تناقل فعلي وعلمي بآن واحد .

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى