مقالاتمقالات مختارة

«صحيح البخاري».. وخواطر تستحق التسجيل

«صحيح البخاري».. وخواطر تستحق التسجيل

بقلم أ. محمد إلهامي

مؤخرًا اختتمت أعمال مؤتمر «صحيح البخاري» الذي عقدته جامعة ابن خلدون في اسطنبول.. وكنت طوال هذا المؤتمر يشملني شعور عارم بالفخر والزهو.. فخر بأني ابن الإسلام..  وزهو بأني ابن هذه الحضارة العظيمة..

صحيح البخاري، الكتاب الذي جرى تقليبه وتفتيشه حرفا حرفا ولفظا لفظا عبر أجيال المحدثين، وحوكم محاكمة دقيقة قاسية، حتى استحق بحق وصف: أصح كتاب في عالم البشر.

إن مستوى المحاكمة التي نصبت للبخاري من المحدثين مذهل مستحيل، لا أعرف كتابا آخر قد يتعرض لمثله، لقد جرى فحص الرواة واحدا واحدا، ثم فحص الألفاظ الحديثية لفظا لفظا، ثم مقارنة المكرر من حديثه حديثا حديثا، واستكناه منهجه في إيراد الرواية والترجمة لها ومنهجه في اختيار شيوخه وتعديد الطرق، واختياراته وتنبيهاته وترجيحاته.. إنه بناء علمي شامخ!

ومن نافلة القول أن القواعد التي وضعها المحدثون، وفي الصدر منهم الإمام البخاري، لقبول الرواية كانت من الشدة والدقة بحيث لو طُبّقت على التاريخ لما بقي لنا تاريخ.. إن مجموع معارف الإنسانية لا تصمد إذا دخلت على آلة المحدثين التصحيحية!

هذه الآلة الحديثية هي نفسها دليل ساطع على أن الله قد حفظ دينه!!

من لم يعانِ علم الحديث سيظن أن كلامي هذا من المبالغات، وسأعذره، فهذا أمر لا يعرفه إلا من عاينه..

ثمة خواطر كثيرة تستحق أن تسجل في هذا المؤتمر، لكني للأسف لن أستطيع الآن وضعها كلها.. سأكتفي بأهمها:

1️⃣ كان الناطقون بالعربية هم أصحاب نصيب الأسد في هذا المؤتمر، تكلم في المؤتمر باحثون من الهند وماليزيا وأوزبكستان وتركيا.. تكلموا باللغة العربية، وأنا لدي عشق لسماع العربية من غير الناطقين بها، وأحمل إجلالا عظيما لكل أعجمي يتحدث العربية، فالعربية لغة صعبة، فكيف إذا اجتمع معها دراسة هذا العلم الصعب، علم الحديث الذي ربما كان أصعب العلوم الشرعية لما يتطلبه من معرفة الرجال وطبقاتهم وسماعهم ومصطلحات الحديث الدقيقة.

ألقت أستاذة ماليزية ورقة عن مدخل اللغة في إثبات صحيح البخاري من خلال ألفاظ الغريب فيه، ترد بذلك على شبهة أن غريب اللغة الذي احتاج الرواة لتفسيره دليل قاطع على أن الحديث لم يؤلف بعد النبي كما يقول الحداثيون والمستشرقون والشيعة، وإلا لما وُجِد في ألفاظ الحديث غريب يستحق التفسير، إن وجود الغريب دليل على مضي الزمن واحتياج أهل العصر إلى معرفة معنى لفظ لم يعودوا يعرفوه.. كان مدخلا دقيقا، طبقته من خلال كتاب اللباس في الصحيح.

وألقى أستاذ هندي ورقة عن معايير الألباني في التعليق على أحاديث البخاري..

وألقى أستاذ ماليزي آخر ورقة عن تعليقات المعلمي اليماني على انتقادات الخطيب البغدادي على رواة البخاري في أوهام الجمع والتفريق، ثم تعليقات العوني على المعلمي..

وألقى أستاذ أوزبكي ورقة عن دعوى القبول بالصحيح في ظل توقف الأحناف والمالكية في قبول حديث البخاري في غير باب النسخ..

بعيدا عن محتوى الأوراق الآن.. الإعجاب الذي كان يملؤني هو أولئك الذين تعلموا العربية ثم خاضوا علم الحديث حتى صاروا يتكلمون في هذه الدقائق العلمية.. ونِعم الهمة!

2️⃣ كما هي طبيعة المؤتمرات، تُجْمَع الأوراق ثم توضع في جلسات تضم موضوعاتها، وكان منظمو المؤتمر قد فتحوا الباب أمام الناقدين والمدافعين عن البخاري بشرط أن تكون الكتابة علمية.. فتكرر في أكثر من مرة أن وُضِعت أوراق متعارضة الرأي في الجلسة الواحدة..

لكن أكثر هذه التعارضات لن ينتبه لها إلا متخصصون في الحديث، كأن تكون ورقة ترد على ابن حجر في قراءته لتصرف البخاري في الرواية بالاختصار أو التقطيع لتبت أن البخاري إنما روى كما سمع وأن التصرف كان من راوٍ فوقه، وتعارضها ورقة أخرى في ذات الجلسة ترى أن هذا التصرف كان من البخاري وأن له فيه نكتا ومنهجا..

أما الذي أثار انتباه الجميع فهي الجلسة التي كانت تتحدث عن تأثر البخاري بالسياسة، إذ جاء باحث مصري (تعرفت عليه فيما بعد واكتشفت بعض الأشياء الغريبة عنه، ربما أرويها في مقام آخر) فزعم في ورقته أن البخاري وضع كتابه لمصلحة السلطة وتعصبا لأهل السنة، وكانت الورقة مستفزة وفيها ميل واضح إلى رأي الشيعة والمستشرقين.. ثم كان بعده ورقتان أحدهما لباحث جزائري (د. نبيل بليهي) والأخرى لباحث أردني (د. أحمد صنوبر).. وكلا الورقتين كانتا تدفعان تهمة التأثر بالسياسة عن البخاري.. كانت الورقتان المزدوتان بمعلومات تاريخية دقيقة ومحاكمات علمية صارمة وبشجرات الأسانيد، كانتا بمثابة كاسحة قضت تماما على ورقة الباحث المصري.. ثم جاء تعقيب د. مجير الخطيب فاختار أن يعلق على هذه الورقة وحدها فزاد عليهما..

كان المشهد غريبا، كأن البخاري جبل شامخ تحرسه أسود ضارية، فأراد بعضهم خوض هذا الغمار فهلك!!

ربما كان يحتاج الباحث المصري إلى أن يُعطى فرصة للتعقيب مرة أخرى لأن المعركة لم تكن متكافئة بحال، غير أني أظن أنه لن تكون النتيجة مختلفة!

درس د. نبيل بليهي علاقة البخاري بالسلطة العباسية وبالدولة الطاهرية وما امتحن فيه. ثم درس د. أحمد صنوبر أحاديث علي في الصحيح مقارنة بأحاديث معاوية والعباس، فإذا عليٌّ رضي الله عنه صاحب نصيب الأسد في البخاري، وفي اشتهار الأحاديث في طبقة البخاري وفيما فوقه من الطبقات، بما ينفي تماما أن يكون البخاري قد تأثر في كتابة الصحيح بميول السلطة.

3️⃣ من الأمور التي تثير إحباطي دائما أولئك الذين يستطيعون الحديث بطلاقة بأكثر من لغة.. وجامعة ابن خلدون تشترط على من يدرس فيها إجادته للغات الثلاث: التركية والإنجليزية والعربية، وهو شرط صعب، لكن يمكنك أن تنافس على منحتها لو أتقنتَ لغتين فيمنحونك فرصة سنة لدراسة اللغة الثالثة.

وباعتبار أني كنت مهندسا ودرست بالإنجليزية، فقد بقي عندي بعضٌ منها، وهذا البعض أغلبه في خانة السماع والقراءة بمعنى أني أضعف في التحدث والكتابة بالإنجليزية مني في فهمها قراءة وسماعا.. لكن هذا القليل الضعيف تعرض للانهيار مع قلة الممارسة منذ قدمت تركيا.. فلا أنا أحسنت التركية ولا بقي لي ما كان عندي من الإنجليزية.

بإمكانكم أن تتصوروا واقع رجل مثلي حين يرى كثيرا من الأساتذة يتحدثون اللغات الثلاث، ويعقبون على الأوراق باللغات الثلاث، ويتبادلون الحديث أحيانا بالعربية وأحيانا بالتركية.. مشهد مثير للإحباط أو هو مثير للهمة.. بالنسبة لي كانت الجرعة ثقيلة مثيرة للإحباط

عموما، هذه الفقرة الغرض منها الدعاية للجامعة فمن كان في أول الشباب وكانت لديه الفرصة فعليه بجامعة ابن خلدون في اسطنبول.. لا سيما وأن القليل الذي قرأته وسمعته من رئيسها رجب شنتورك (وهو طبعا يجيد اللغات الثلاث) يدل على صدق شعار الجامعة الذي رفعته لنفسها، شعار “الاستقلال الفكري”.. فرسالة الجامعة هي بناء العلوم على القاعدة الإسلامية التي تنطلق من الدين ولا تتأثر بالحداثة الغربية!

وأي معلومات أخرى عن الجامعة يمكنكم السؤال عنها لمن درس أو درَّس فيها.. فهذا منتهى علمي.

ودعواتكم أن يرزقني الله الهمة لأجيد هذه اللغات الثلاث، فلعل الله أن يهيئ لنا السبيل لنفع الإسلام.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى