بقلم عاطف الحملي
طفت مؤخراً على سطح الأحداث في إثيوبيا صحوة للأغلبية المسلمة المقهورة التي تمثل نحو 60 في المائة من إجمالي عدد السكان في أول بلد دخله الإسلام بعد مكة المكرمة، لكن في مواجهة هذه الانتفاضة التي بزغت خلال العقدين الماضيين ظهرت محاولات لتشتيت المسلمين ما بين الفتنة الطائفية والملاحقات الأمنية.
فمنذ دخول الإسلام إثيوبيا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وإسلام النجاشي ملك الحبشة تدرجت محاولات النيل من وجود المسلمين هناك، وتمكنت تدخلات سياسية وعقائدية من تهميش المجتمع المسلم على مدار قرون متتابعة، قبل أن تظهر خلال السنوات الأخيرة انتفاضة للمسلمين استدعت في المقابل تدخلات سياسية من الحكومة الإثيوبية لاستهداف الناشطين المسلمين من جهة، وخلق فتنة في الصف المسلم تمثلت في محاولات تصدير طائفة الأحباش للمجتمع المسلم في إثيوبيا من جهة ثانية.
تحولات تاريخية أفقدت أقدم بلاد الإسلام هويته:
قبل استعراض التحديات التي يواجهها المسلمون هذه الأيام في إثيوبيا، تشير محطات تاريخية مهمة إلى محاولات الهيمنة والتهميش التي طالت المسلمين في إثيوبيا على فترات زمنية متتالية؛ حيث اندلع صراع لأكثر من ستة قرون بين المسلمين والمسيحيين بدءًا من الإمارات الإسلامية الممتدة من الزيلع وانتهاء بحركة أحمد بن إبراهيم (جرين) في هرر، والممالك المسيحية الإثيوبية، قبل هزيمة المسلمين عام 1887م إثر تدخل دولي قادته البرتغال والكنيسة الكاثوليكية العالمية، في ظل ظهور الاستعمار الأوربي وهيمنته على القرن الإفريقي[1].
وفي مرحلة المَلَكية التي امتدت لقرون عديدة، تأثرت أوضاع المسلمين في إثيوبيا وغاب دور المسلمين عن المشاركة السياسية والاقتصادية والتعليمية، مروراً بعهد الملك هيلاسلاسي الذي انتهى عام 1974م، والذي عانى المسلمون خلاله أشد أنواع الحرمان، ووصل بهم الأمر إلى تغيير أسماء أطفالهم ليتمكنوا من تسجيلهم في المدارس الحكومية.
لكن معاناة المسلمين لم تتوقف برحيل هيلاسلاسي، بل جاء النظام الشيوعي بقيادة منجستو هيلا مريام إلى الحكم ليزيد وضع المسلمين في إثيوبيا سوءًا، في ظل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وظهور جبهات إسلامية وقومية مسلحة مختلفة في المنطقة، إلى جانب الصراع الإثيوبي الإريتري من جهة والصراع الإثيوبي الصومالي من جهة أخرى، حيث حارب منجستو جميع المظاهر الدينية المسيحية والإسلامية على حدٍّ سواء[2].
الانتقال من المعارضة المسلحة إلى المشاركة السياسية:
شهدت إثيوبيا خلال عقدين كاملين معارضة مسلحة قومية وإسلامية كانت تنطلق من دول الجوار من الصومال وإريتريا والسودان، وصولاً إلى مصالحة سياسية قادت إلى انخراط المسلمين في دوائر الحكومة في عهد رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي.
فبعد اندلاع صراع سياسي مسلَّح راح ضحيته الآلاف، وتسبب في تشريد قسري لآلاف المسلمين الذين هاجروا خارج إثيوبيا خرج من رحم هذا الصراع دستور فيدرالي قسم إثيوبيا تسعة أقاليم، لكل إقليم حكمه الداخلي ورئيسه المحلي وحدوده وحقوقه الدستورية في حق تقرير المصير والانفصال وتقاسم الثروة والسلطة، حيث وجد المسلمون في هذا الدستور بعض الحقوق المستحقة من مشاركة سياسية وتعليمية واقتصادية[3]، لاسيما بعد أن ضمت حكومة زيناوي 12 وزيرًا مسلمًا، وتم فتح أول كلية إسلامية في العاصمة أديس أبابا.
لكن الجانب السياسي الإيجابي للمسلمين في عهد مليس زيناوي لا يعكس صورة حقيقية لنواياه إزاء المسلمين، إذ زرع زيناوي طائفة الأحباش الشيعية اللبنانية في البلاد وسلَّمها قيادة «المجلس الأعلى للمسلمين» لإقصاء المسلمين السنة من المشهد الديني ونشر التشيع في إثيوبيا لتفريق المسلمين، لتصبح بمثابة قاعدة لانطلاق فكر طائفة الأحباش في شرق إفريقيا.
في المقابل، نشطت حركات احتجاجية للمسلمين في عهد زيناوي وكذلك في عهد خلفه هيلا ماريام ديسالين، وخرجت تظاهرات ضخمة سلمية في إثيوبيا منذ أربعة أعوام وحتى العام الجاري، وكانت بمثابة دفاع عن محاولات الفتنة التي تستهدفهم.
وبرغم أن المطالبات بإعادة المجلس الأعلى ليد المسلمين السنة حققت غايتها في هذا الصراع الطائفي المتعمد، إلا أن السلطات الإثيوبية فتحت باباً آخر للأحباش الشيعة تمثل في المشاريع الخيرية التي انتشرت في مناطق المسلمين.
يقول إبراهيم كنتاو عضو رابطة علماء المسلمين في مالي في تعريف موجز لفرقة الأحباش على موقع «المسلم» في عام 1433هـ إن «جماعة الأحباش فرقة باطنية تنسب إلى زعيمها الشيخ عبد الله بن محمد العبدري الهرري الحبشي، وعرف نشاطه في أواخر الثلاثينات من القرن الميلادي الماضي في إقليم هرر، واشتهر بتحالفه مع النظام الإمبراطوري الإثيوبي هيلي سلاسي ضد المسلمين، وكان سبباً في إغلاق عشرات المدارس الإسلامية، وقتل عدد من العلماء وتهجير الكثير من رموز الدعوة الإسلامية إلى المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية».
وبحسب كنتاو، فقد عرف الشيخ في تلك الفترة «بالشيخ الفتان» ثم ذهب إلى الشام وظهر نشاطه في سوريا عام 1950م ثم انتقل إلى لبنان، وهناك استغل ظروف الحرب الأهلية اللبنانية وتمكن من تكوين أتباعه في أنحاء العالم وصولاً إلى تمكن هذه الفرقة من مضاعفة أنشطتها بصورة معلنة في الآونة الأخيرة، بعد أن قامت بجمع قيادات مختارة من كل الولايات الإثيوبية وفتحت لهم دورات تنظيمية وإدارية فصلية، وزودت المتدربين بكتب ومذكرات علمية أعدت في لبنان، وكان كل القائمين بالتدريس وتأهيل القيادات أساتذة من لبنان وقد وصل عددهم في بعض الدورات 44 أستاذاً ومحاضراً، وتم تغطية كل تكاليف هذه الدورات من تذاكر وفنادق وتكاليف المعيشة من قبل مركز الفئة في أديس أبابا».
نهضة علمية للأجيال المسلمة الشابة في إثيوبيا:
على صعيد التعليم، ظلت إثيوبيا تمثل المركز العلمي للمسلمين في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا عامة وخاصة مركز هرر، وفي تسعينات القرن الماضي أحدث الانفراج السياسي الذي حظي به المسلمون طفرة جديدة تمثلت في دمج التعليم العصري في مؤسساتهم العلمية، مما زاد حالة الوعي بين شباب المسلمين في إثيوبيا، وأوجد نهضة ثقافية علمية جمعت بين التعليم التقليدي المتمثل في الحلقات والمدارس الإسلامية الابتدائية ذات النهج العربي، والنظام التعليمي الحديث، كما هو الحال في جامعة جكجكا وفروع لعدة جامعات في المناطق المسلمة.
وشهد التعليم الأكاديمي طفرة حقيقية وأصبح المجتمع المسلم يتمتع بكفاءات عالية إدارية وعلمية، لكن التدخلات السياسية في مناهج التعليم شكلت صراعاً جديداً على الهوية، حيث تركز المناهج التعليمية على نضال أبطال الطائفة المسيحية وتتجاهل تاريخ أبطال المسلمين، وهو ما يثير حفيظة الشباب المسلم.
كما ظهر صراع آخر يتعلق بالتدخلات الحكومية في السياسة التعليمية، حيث خرجت العديد من التظاهرات التي تتهم الحكومة بتغيير هوية لجنة تحكيم المسلمين بإثيوبيا، وهي لجنة خاصة تشكلت لمتابعة مدرسة إسلامية كانت تديرها في السابق هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، وبعد تسليم المدرسة للحكومة، قامت بدورها بتسليمها للمجلس الأعلى للمسلمين في إثيوبيا، والذي أعاد هيكلة إدارة المدرسة حيث كانت الحكومة تسند قيادته لطائفة الأحباش.
وتزايدت حالة الرفض من جانب المسلمين لسياسات الحكومة الإثيوبية على مدار السنوات الأربع الأخيرة، ولم تقل حدة التظاهرات الحاشدة المعارضة لمحاولات نشر أفكار مخالفة لعقيدتهم، وفرض أساتذة وأئمة بالمدارس والمساجد ممن ينتمون لطائفة الأحباش، وهو ما دفع السلطات لاعتقال 12 عالمًا مسلماً.
تهمة التطرف والإرهاب تلاحق المسلمين:
في المقابل لم تجد السلطات الإثيوبية سبيلاً سوى تحويل دفة الصراع إلى «الحرب على الإرهاب» لقمع التظاهرات التي بدت أكثر قوة وتأثيراً منذ عام 2012م، وانصبت الاتهامات على المتظاهرين المسلمين بالمؤامرة والتخطيط لشن هجمات «لإنشاء دولة إسلامية» في إثيوبيا، ووجهت النيابة العامة في إثيوبيا تهماً لـ29 إسلامياً بالإعداد لأعمال إرهابية.
وأصدرت محكمة إثيوبية أحكامًا بالسجن تراوحت بين 7 سنوات إلى 22 سنة على 17 ناشطاً مسلماً بتهمة «التحريض» و«القيام بأعمال إرهابية»، وهم أنفسهم أعضاء في «لجنة تحكيم المسلمين» التي تشكلت ككيان جديد بعد أن فرضت الحكومة طائفة الأحباش على المجلس الأعلى للمسلمين، كما قضت المحكمة في أديس أبابا بالسجن على صحفي يعمل لدى صحيفة إسلامية بتهمة التآمر مع الناشطين.
وبذلك، تمكنت السلطات الإثيوبية من حصار المسلمين من خلال الاعتقالات تحت ذريعة «الإرهاب»، وتشتيت تطلعاتهم لنيل حقوقهم من خلال إشعال الصراع مع طائفة الأحباش اللبنانية الشيعية.
تقويض الدور السياسي للمسلمين في إثيوبيا:
لا يتوقف تأثير فتنة طائفة الأحباش عند حد هذا الصراع، بل يبدو ذريعة لتبرير السلطات الإثيوبية إقصاء المسلمين من المشهد السياسي، وتحجيم فكرة صعودهم كقوة صلبة متحدة تمثل كياناً سياسياً منفصلاً، من خلال إلهائهم في دائرة الصراع مع طائفة الأحباش، وهو ما أوجد فراغاً في الطريق نحو تبني برنامج سياسي واضح أو حتى تنسيق المواقف في الانتخابات التي تجرى في البلاد.
كما نتج عن هذا التشتيت المتعمد في المجتمع المسلم في إثيوبيا غياب أي إستراتيجية تستطيع توحيد الحراك النشط للمسلمين في اتجاه يحقق طفرة في مستقبلهم السياسي، لكن في الوقت نفسه لا يمكن إغفال وجود دماء جديدة تتطلع إلى تجاوز العقبات التي وضعتها الأنظمة الإثيوبية المستبدة من خلال نضال سياسي سلمي يبدو طويل الأمد، لكنه يبقى في الوقت نفسه الحل الأمثل في المرحلة الراهنة لمواجهة تهمة الإرهاب التي كشفت عن وجود نية في استخدام المسلمين لتجميل صورة النظام في عمليات مصالحة، وتحجيمهم لاحقاً، في ظل الرهان على الأوضاع الراهنة في المحيط الخارجي.
الوضع في الدول المجاورة يؤثر على وضع المسلمين في إثيوبيا:
في العقدين السابقين كانت إثيوبيا تشهد معارضة مسلحة قومية وإسلامية تنطلق في دول الجوار من الصومال وإريتريا والسودان، لكن تحولت هذه المعارضة بعد ذلك إلى النهج السلمي، وانخرطت في المصالحة السياسية بانهيار الحكومة الصومالية المركزية التي كانت قاعدة انطلاق للمعارضة المسلحة القومية والإسلامية الإثيوبية، إلى جانب تلاشي نفوذ الحكومة الإريترية وانتشار القوات الإفريقية في الصومال.
فقد شهدت البلاد في العقدين الماضيين معارك عنيفة بين جبهة أورومو والاتحاد الإسلامي والجبهة الوطنية لتحرير أوجادين والتي كانت تناضل من أجل انفصال المنطقة الصومالية/ الإثيوبية، في الوقت نفسه فقد شن الجيش الإثيوبي حرباً عنيفة ضد حركة الشباب الصومالية بمساعدة مالية ولوجستية من الولايات المتحدة، وعلى إثر هذه التطورات في محيط إثيوبيا والدعم الأمريكي المتزايد للحكومة الإثيوبية، تبدلت فرص المعارضة المسلحة ووقَّعت اتفاقيات السلم مع الحكومة السابقة التي عززت وجود طائفة الأحباش في صدارة المجتمع المسلم.
لكن برغم التأثيرات الداخلية والخارجية على أوضاع المسلمين في إثيوبيا، تبقى حالة الوعي السياسي والديني المتزايدة لدى الأجيال الشابة مؤشراً قوياً على تحولات أكثر واقعية للتكيف مع الأوضاع المحيطة، وأكثر إدراكاً في الوقت نفسه لفكرة النضال من أجل استعادة المسلمين لحقوقهم المسلوبة على مدار قرون، في مواجهة حكومات متعاقبة تفرض الحلول الأمنية وتزرع الفتن الطائفية كوسيلة وحيدة للحيلولة دون حدوث أي تطور سياسي يقلب موازين القوى في حكم البلاد لصالح الأغلبية المسلمة المقهورة.
————————————
:: مجلة البيان العدد 345 جمادى الأولى 1437هـ، فـبـرايـر 2016م.
[1] المعارف، ممتاز: الأحباش بين مأرب وأكسوم، منشورات المكتبة العصرية، ط. بيروت، لبنان. ت. 1975م.
[2] تقرير منتدى الأقليات المسلمة (2013م): واقع المسلمين في إثيوبيا بين الغثائية والضياع www.ansarsunna.com/showthread
[3] تقرير منتدى الأقليات المسلمة (2013م): واقع المسلمين في إثيوبيا بين الغثائية والضياع (ص16) www.ansarsunna.com/showthread
المصدر: مجلة البيان.