مقالاتمقالات المنتدى

شُبهات حول طوفان الأقصى والردّ عليها

شُبهات حول طوفان الأقصى والردّ عليها

بقلم أ. رانية نصر (خاص بالمنتدى)

اِقتضت حكمة الخالق أن تُبنَى فلسفة الوجود على قوانين سُننيّة تضمن عمران الأرض وبناء الإنسان الذي سيُعمّر هذه الأرض ويكون خليفةً فيها على أساس تكوين منهجي متكامل، من جهةٍ يدعو للحق ويسعى لتمكينه، ومن جهةٍ أخرى يدفع الظلم ويسعى لإرجافه حتى تستقيم الحياة على مراد الله -عز وجل-، وهذا يستدعي بالضرورة وجود المصلحين الذين سيدخلون في معارك مواجهة مع المفسدين؛ حيث لن يكون للتّدافع معنى إلا من خلال هذا التّصارع الدائم ما بين النّقيضين الخير والشر والحق والباطل، قال تعالى: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ البقرة: 251.
 وكما أنه لا يخلو زمانٌ من أهل الصّلاح والإصلاح؛ فكذلك لا يخلو زمانٌ من أهل الفساد والإفساد، والصّالحون هم الذين يتعاهدون أنفسهم بإصلاحها وتقويمها ويكتفون بذلك، وأما المُصلحون فهم الذين تتجاوز جهودهم هذا الحدّ؛ فيقومون بأدوارٍ مزدوجة، يصلحون أنفسهم ويدعون غيرهم للصلاح؛ فأثرهم الإصلاحي يتعدى أنفسهم إلى غيرهم؛ لذلك كان أجرهم ومكانتهم عند الله والناس أعلى وأسمى من غيرهم، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ آل عمران:110، فخيرية هذه الأمّة تكمن في تعدي نفعها للغير، فهي ما بين استجلاب لإحسانٍ واستدفاع لبغيٍّ قائمة، جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ فقال: “أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله -عز وجل-، سرورٌ تُدخِله على مسلم، تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولَأن أمشي مع أخٍ في حاجة، أحبُّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهراً” رواه الطبراني، فالمصلحون إذن هم النُّخب الإصلاحية القادرة على تأسيس الفكر وإقناع العقل وتوجيه السّلوك ودفعه نحو الخير، لتقوية شوكته في مواجهة الشّر والتّصدي له. وعلى غرار هذا التفصيل يكون الفساد والإفساد؛ فشرُّ المُفسد أشد وأعظم عند الله من شر الفاسد المُقتصر فسادُه على النفس وحسب!
وكما أن المصلحين مراتب ودرجات؛ فإن المفسدين كذلك مراتب ودرجات، قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ آل عمران:163، قال السّعدي في تفسيره: “هم درجات عند الله أي: كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم؛ فالمتّبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدّرجات العاليات، والمنازل والغرفات، فيعطيهم الله من فضله وَجُوده على قدر أعمالهم، والمتّبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدّركات إلى أسفل سافلين، كل على حسب عمله، والله تعالى بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء، بل قد علمها، وأثبتها في اللوح المحفوظ، وَوَكّل ملائكته الأمناء الكرام، أن يكتبوها ويحفظوها”.
 ونحن نعيش اليوم أحداث معركة طوفان الأقصى؛ الحدث الأهم في مسار تاريخ القضية الفلسطينية منذ احتلالها عام 1948 ونحلّل ما أفرزته من أفكار ومواقف وردّات أفعال؛ من الأهمية بمكان الحديث عن طائفة المُفسدين الذين أرادوا -بشكل أو بآخر- إرجاف أهل الحق من عامة المسلمين وأهل المقاومة والرّباط بشكل خاص، وتشكيكهم في مشروعيّة جهادهم، سواء كان عن جهلٍ وسوء تقدير وقصر فهم أو عن خبث ولؤم وموالاة للكفار وأعوانهم!
يينقسم هؤلاء إلى فئات ودرجات، منهم من عيّنهم القرآن الكريم، ومِنهم من أشار إليهم إشارة، ونفند فيما يلي هذه الأنواع وما يقومون به من أدوار خطيرة ضمن الحروب النفسيّة؛ التي تخدم مشروع أهل الباطل “العدو الصهيوني” وتساعده في الاستقواء على أهل الحق “أهل الرّباط والثغور” وهم:
 أولاً: المُخَذِّلون وهم المُثبِّطون والمُعوِّقون، وجاء ذكرهم في القرآن الكريم بلفظ المُعوّقين، قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ سورة الأحزاب: 18، وجاء في التفسير المُيسّر في معنى المُعوّقين: “إن الله يعلم المثبّطين عن الجهاد في سبيل الله، والقائلين لإخوانهم: تعالوا وانضموا إلينا، واتركوا محمدًا، فلا تشهدوا معه قتالا؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه، وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا؛ رياءً وسمعةً وخوف الفضيحة”، وجاء في المختصر في التفسير: “إن الله يعلم المُثَبِّطين منكم لغيرهم عن القتال مع رسول الله ﷺ والقائلين لإخوانهم: تعالوا إلينا ولا تقاتلوا معه حتى لا تُقْتَلوا، فإنا نخاف عليكم القتل، وهؤلاء المُخَذِّلون لا يأتون الحرب ولا يشاركون فيها إلا نادرًا؛ ليدفعوا عن أنفسهم العار، لا لينصروا الله ورسوله”.
ثانياً: المنافقون والمُرجِفون
قال تعالى:﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ الأحزاب:60، قال الطنطاوي في التفسير الوسيط: “والمنافقون: جمع منافق، وهو الذي يُظهر الإسلام ويخفى الكفر، والذين في قلوبهم مرض: هم قوم ضعاف الإيمان، قليلو الثبات على الحق، والمرجفون في المدينة: هم الذين كانوا ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الأكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس، وأصل الإرجاف: التّحريك الشديد للشيء، مأخوذ من الرجفة التي هي الزلزلة، ووصف به الأخبار الكاذبة، لكونها في ذاتها متزلزلة غير ثابتة، أو لإحداثها الاضطراب في قلوب الناس”.
وأضاف: “وقد سار بعض المفسرين، على أن هذه الأوصاف الثلاثة، كل وصف منها لطائفة معينة، وسار آخرون على أنّ هذه الأوصاف لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين، وأنّ العطف لتغاير الصّفات مع اتحاد الذات، قال القرطبي: قوله (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ…) أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والواو مُقحمة، وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتّبعون النساء للريبة، وقوم يشككون المسلمين…، وقد سار صاحب الكشاف “الزّمخشري” على أن هذه الأوصاف لطوائف متعددة من الفاسقين، فقال: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قوم كان فيهم ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله ﷺ فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين، والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلّفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم وتنوؤهم” انتهى كلامه.
ثالثاً: المُخلَّفون وهم الذين تخلّفوا عن الخروج للجهاد مع رسول الله ﷺ بلا عذر شرعي حين سار وأقاموا، قال تعالى:﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ التوبة:81، وبالرغم من أن هذه الطائفة ليس لها تأثير مباشر على الناس حيث إنهم أضروا -بتخلفهم هذا- أنفسهم فقط عندما عصوا أوامر الرسول ﷺ؛ إلا إنهم قد يثبطون النّاس ويضعفون حماسهم عن الخروج للجهاد!!
وهم على مراتب ثلاث:
الأولى: المخلّفون الذين فرحوا بمعصية التّخلف وقد قرنهم النص القرآني بالمنافقين حين قال: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ الفتح:11، فنَعَتهم بالّذين يقولون بألسنتهم ما ليس في صدورهم، وهو وصف المنافقين، فألمح إليهم، وهذا الصنف يجمعهم سوء الطويَّة ولؤْم السَّريرة، والغمْز والدَّسّ، والكيْد لهذا الدّين، والخور عن التّصدي والمواجهة، والجُبن عن المصارحة، تلك سِماتهم الأصيلة. يقول السّعدي في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى مبيّناً تبجّح المنافقين بتخلّفهم وعدم مبالاتهم بذلك، الدّال على عدم الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان‏ ‌‏﴿‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ‏﴾ التوبة:81،‏ وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرّد التّخلف، فإن هذا تخلف محرّم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجّح به‏ ﴿‏وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏﴾ التوبة:81، ومن هنا تبيّن أن هناك فئة أخرى تخلّفت، لكن تخلّفها أورثها الشعور بالحسرة والنّدامة والألم على عجزها عن الخروج!
 الثانية: قد يصدر التّخلف من الصّادقين، يبتليهم الله ثم يتوب عليهم ليتوبوا، فالقرآن لم ينعتهم بالمنافقين، وبالرغم من ارتكابهم للمعصية؛ إلا إنهم ليسوا من المنافقين حتماً، وقعودهم كان مبعثه التّكاسل والتراخي عن أمر رسول الله ﷺ، فلا يتساوون مع الصنف الأول لا حالاً ولا مآلاً وحساباً، ومنهم الصحابة الثلاثة؛ كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، الذين وردت فيهم الآية الكريمة: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التوبة:118.
‏قال السّعدي في معرض مقارنة المرتبة الأولى مع الثانية: “وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا ـولو لعذرـ؛حزنوا على تخلّفهم وتأسّفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، لما في قلوبهم من الإيمان، ولما يرجون من فضل اللّه وإحسانه وبره وامتنانه‏”.
 الثالثة: وهذه فئة مؤمنة صادقة أقعدها قلة اليد والحيلة، فهي مغلوبة على أمرها ولا يلحقها الإثم؛ بل تؤجَر على صدق نيّتها وحزنها وحسرتها على عدم اللحاق برسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ التوبة:92.
 رابعاً: المتواطئون التّواطؤ: هو التّوافق على الأمر خيراً كان أو شراً، وقيل: هو الاتفاق سراً ضد طرف ثالث، وتواطأ القوم، أي: اتّفقوا، وتواطأ: وذهب به التّهور إلى التّواطؤ مع العدو، أي: إلى التآمر مع نيّة الإضرار، وبالتّبادر فإن التواطؤ غالباً ما يُفهم بدلالة التآمر على فعل الشّر دون الخير، والتّواطؤ على هذا التفسير؛ لا يكون أمراً عفوياً وغير مقصود، ولا يحدث إلا مع دراية وعلم واستجماع نية الإضرار وتعمّد إحداث الأذى بالآخرين، فحكمه ليس كحكم فاعل الفعل جاهلاً بفداحته وحُرمانيّته!
خامساً: المُطبّعون
التّطبيع: هو مصطلح حادث وُصف به من أقام العلاقات مع الصهاينة المغتصبين، يقول الأستاذ الدكتور صالح الرقب: “التّطبيع مصطلح يهودي، يراد منه أن تُقبل (إسرائيل) في المنطقة بكيان مستقل معترف به، وأن يكون لها الحق في العيش بسلام وأمن، مع إزالة روح العداء لهم من جيرانهم، ولا يكون هذا إلا عن طريق إحداث تغيير نفسي وعقلي جذري عند المسلمين، عن طريق القضاء على عقيدة الولاء والبراء وروح الجهاد، أو إضعاف تأثير ذلك عليهم”.
ويضيف: “التَّطبِيع هو مصطلح من مبتكرات الصّراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتّقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السّلمي النّشط في كافة المجالات”.
 وقد أقرّ الإسلام مبدأ المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وهو مبدأ مهم في عقيدة الإسلام، نبه إليه الشّارع في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ المجادلة:22، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ النساء:144، وقال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ الممتحنة:1.
 حكم التَّطبِيع: يقول الرّقب: التّطبيع مع اليهود مُحرم شرعاً وهو من كبائر الذّنوب، لما فيه من الاستسلام للكفار وعلو شأنهم، وإضاعة للدّين، وللأراضي والمقدسات الإسلامية، وفي مظاهرة ومعاونة العدو المحتل؛ كفر وردة عن الدّين، ومن يتعاون معه أمنياً؛ برأت منه ذمّة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ، قال رسول الله ﷺ: “مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ” أخرجه الحاكم، وقال الألباني صحيح.
دورهم في وقت الحروب والأزمات
 معظم هذه الأصناف وإن اختلفت تسمياتهم؛ إلا أنهم يؤدّون أدواراً مشتركة في زعزعة الصّف المُسلم خاصة في الأزمات والحروب؛ حيث تكون المخاطر أعظم وأشد وطأة على الصف المسلم، فيحاسَبون على قدر مقاصدهم ونواياهم، كما قال رسول الله ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات”، ويستثنى من ذلك من عفا الله عنه وغفر له وتاب عليه ليتوب.
شبهات حول طوفان الأقصى
 بعد طول مدة الحرب على غزة وهدر دماء آلاف الأبرياء من المدنيين، وهدم أكثر من 80% من البُنية السكانية في قطاع غزّة؛ ظهرت بعض الأصوات المستنكرة لهجوم السابع من أكتوبر على اعتبار أنها كانت خطوة اندفاعية وغير مدروسة، لم تنظر في الحال ولم تعتبر المآل مُشكّكةً في صوابية الفعل والقرار، ومن هذه الشّبُهات:
شرط اعتبار توازن القوى!
 توازن القوى من التّعبيرات الدوليّة المعاصرة التي ظهرت مع بداية ظهور الدولة القوميّة، ولم يتفق علماء الاجتماع والمفكرون والسياسيون على تعريف مشترك وموحد له؛ مما تسبب في إشكالية توظيفه؛ خاصة عند بعض الشرعيين الذين لم يتمكنوا من فهم الواقع مع كثرة تعقيدات العلاقات السياسة والدولية؛ ومما أدى إلى احتدام فكري في الأوساط الإسلامية بين مؤيد لعبور السابع من أكتوبر وبين معارض لانتفاء شرط التكافؤ!
توازن القوى مصطلح سياسي نشأ في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية وله حمولات دلالية يجب فهمها بدقة وفي بيئتها التي خرجت منها، تفادياً للأخطاء التّطبيقية التي قد تنتج عن سوء تصور هذا المفهوم بدقة وإنزاله حيث لا يحتمل التنزيل، وكما يُقال؛ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره!
 وهذا التيار ذهب لفهم المصطلح في بابه اللغوي دون النّظر في المعنى الاصطلاحي والسياقات البيئية التي ظهر فيها وتداعياته السياسية، فراح يُقحم هذا المصطلح ليكون جزءاً من المنظومة التشريعية مستشهداً بموقف انسحاب سيدنا خالد بن الوليد في معركة مؤتة، وجاعِله مُرتكزَاً يؤّسس عليه دون التفرقة بين مفهوم توازن القوى بشكل شمولي كاستراتيجية في إقامة التحالفات لردع القوى المُهيمنة وبين المقايسة ما بين المصالح والمفاسد!
 فسيدنا خالد بن الوليد -رضي الله عنه- نظر في المصالح والمفاسد وآثر حفظ دماء الجند عن هدرها عندما غلب على ظنه عدم تحقيق النصر، فأعمل ميزان المصالح والمفاسد، ولم يكن انسحابه من منطلق عدم توازن القوى كما يدّعي البعض؛ إذ بلغ عدد المسلمين في هذه المعركة ثلاثة آلاف جندي مقابل مائتي ألف مقاتل من المشركين، ومع ذلك أمر الرسول ﷺ بإنفاذ الجيش، فهل غفل الرسول ﷺ -المُسدّد بالوحي- عن هذه المسألة!!!! فضلاً عن أن عدد المسلمين في كثير من المعارك مع المشركين كان أقل بكثير من عدد المشركين ومع ذلك كان ينتصر المسلمون فيها، وعليه فإن مسألة اعتبار توازن القوى بهذا المنطق يحتاج إلى إعادة نظر!
 ومسألة أخرى؛ أن الله -سبحانه وتعالى- أمر المسلمين بالإعداد بالمقدور عليه حيث قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال:60، ولم يقل أعدوا لهم قوة تكافئ قوة المشركين، لأن النّصر ابتداءً وانتهاءً بيده -عز وجل- لا بيد الناس، هم مأمورون بالأخذ بالأسباب وبالإعداد ثم يأتي النصر من عنده -سبحانه-: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾ٌ الأنفال: 10، لذلك كان ينسب الله -عز وجل- النصر دائماً إلى نفسه في القرآن الكريم.
 ولو انتظر المسلمون مسألة تحقيق التكافؤ؛ لما حاربوا أبداً ولتعطّل الجهاد لأنهم لن يصلوا لمرحلة التكافؤ مع كثرة عدة وعتاد العدو وامتلاكه التطورات التكنولوجية فضلاً عن التحالفات الدولية التي يقيمها، فهي تلغي أي فكرة تكافؤ أو توازن مهما بلغت ذروتها!
وفي الحقيقة إنّ مفهوم توازن القوى كما يُفهم في الحقل السياسي لا يتواسق مع ما يتصوره بعض الشرعيين القائلين بوجوب توازن القوى للشروع في المواجهة “الجهاد”؛ ذلك أن منظري فلسفة توازن القوى عرفوها بأنها الحالة التي تتعادل وتتكافأ عندها المقدرات البنائية والسلوكية والقيمية لدولة ما منفردة أو مجموعة من الدول المتحالفة مع غيرها من الوحدات السياسية المتنافسة معها، بحيث تضمن هذه الحالة للدولة أو لمجموعة الدول المتحالفة ردع أو مجابهة التهديدات الموجهة ضدها من دولة أخرى أو أكثر، وبما يمكّنها من التّحرك السريع وحرية العمل في جميع المجالات للعودة إلى هذه الحالة عند حدوث أي خلل فيها بما يحقق الاستقرار.
 ومسألة إضافية؛ أن هذا الفريق لم يفرّق بين جهاد الطّلب وجهاد الدّفع في إعمال مبدأ توازن القوى، ففي الأول يصح الكفّ عن جهاد الأعداء مع غلبة ظن عدم تحقيق النصر، أما في الثاني؛ فيتعذر إعمال مبدأ توازن القوى لأنه دفع صائل؛ فالمسلم مأمور بالدفاع عن دينه وعرضه ما أمكن، وإن مات فهو شهيد كما قال ﷺ، ولا يُعقل أن يُقال له انتظر حتى تتكافئ قوتك مع قوة من سرقك لتباشر الدفاع عن نفسك وعرضك ومالك وأرضك!!!
عصمة الدم المُسلم
 تعلّل بعض من عارض هجوم السابع من أكتوبر بأحاديث مثل: لهدمُ الكعبةِ حجرًا حجرًا أهونُ مِنْ قتلِ المسلمِ، وهذا الحديث لا يصح وقيل لا أصل له أو بأصله موضوع، وقال السّخاوي في المقاصد الحسنة: لم أقف عليه بهذا اللفظ، وحديث: لزوالُ الدُّنيا أهونُ على اللهِ من قتلِ مسلمٍ، قيل لا يصح عن النبي ﷺ، لكن يصح من قول عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-، وبالرغم من أن هذه الأحاديث تصح معنى حيث عصم الله دماء المسلمين، إلا أن حفظ الدماء ليس غاية مطلقة في الإسلام؛ حيث أنها تبذل رخيصة عندما تكون في سبيل الله وفي سبيل الحفاظ على المقدسات وإعلاء كلمة التّوحيد، ولذلك شُرِعَ الجهاد، وفيه بالضرورة تعريض النفس للهلاك؛ وما كان هجوم السابع من أكتوبر إلا دفاعاً عن المسجد الأقصى الذي كانت تُدنس باحاته وتُنتهك حُرُماته ويُقتحم من قبل عصابات العدوّ، فلا تصدقوا من يدّعي حرمة دماء المسلمين حتى وإن كانت دفاعاً عن الدين!
الفهم المغلوط لمعنى النصر
معركة طوفان الأقصى كانت السبب في الفتوحات القلبية، دخل آلاف الناس الإسلام وبدأوا يبحثون عن الإسلام بعد رؤية ثبات أهل غزة، فالنصر بمعناه الشمولي والاستراتيجي تحقق بهذا الفتح العظيم، ولو قام علماء الأمة ودعاتها على صعيد واحد واجتهدوا على إدخال هذا الكم الهائل من الشباب والشابات في هذا الوقت القياسي ما استطاعوا، وإن عودة القضية الفلسطينية لمركزيتها في قلوب شعوب الأمة بل العالم أجمع يعدّ من الانتصارات الكبرى، وتأخير تقدم المشروع الصهيوني وبناء الهيكل المزعوم يعد انتصارًا، وكره العالم للكيان الصهيوني وشدة استعدائه له يعد انتصارًا، ودحض جهود التطبيع يعد انتصارًا كبيراً للمسلمين، فالنصر ليس مقصوراً على الانتصار في أرض المعركة وحسب كما يعتقد أصحاب النظرة المحدودة!
شرط الجهاد تحت لواء الدولة الإسلامية
 وكما ذُكر سابقاً أن هناك فرق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب، فجهاد الدفع يتعيّن على كل مسلم ومسلمة حتى على المرأة غير المكلفة بالجهاد فتخرج دون استئذان زوجها، وكذلك يخرج العبد دون استئذان سيده، فلا يُشترط الخروج تحت لواء الدولة في جهاد الدفع.
اتفاقيات “حفظ السلام” المبرمة في ظل الدولة القومية!! في ظل نشوء الدولة القومية والعلاقات الدولية ومعاهدات السلام المبرمة ما بين الدول؛ يدّعي البعض وجوب احترام هذه المعاهدات والالتزام بها، وعدم صحة الدعوى للخروج للجهاد “المعطل” بالضرورة مع سيرورة هذه الاتفاقيات، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، أي معاهدات هذه التي تقوي الأعداء على الصف المسلم، وما مدى مشروعيتها في ظل الآيات التي تتحدث عن براءة الله ورسوله ﷺ ممن يوالي الكفار على المسلمين ويساعد في تقويتهم، وقد أفتى علماء الأمة بُعَيد طوفان الأقصى بفساد كل هذه المعاهدات والاتفاقيات الباطلة التي لا اعتبار لها شرعاً حيث تُقرّ الظلم ولا تُقيم العدل، وتقوي شوكة من حاد الله ورسوله، قال ﷺ “المسلمونَ تتَكافأُ دماؤُهم، يسعَى بذمَّتِهم أدناهُم، ويُجيرُ عليهِم أقصاهُم، وَهم يدٌ علَى مَن سِواهُم، يردُّ مُشدُّهم علَى مُضعفِهم ومُتسرِّيهم علَى قاعدِهم، لا يُقتلُ مؤمنٌ بِكافرٍ ولا ذو عَهدٍ في عَهدِه” حسن صحيح، الألباني.
فقه الحديث وتقدير التّوقيت
من يتحدث في أشد الأوقات خطورة وحساسية في مسائل تُضعف الصف المسلم مع علمه الكامل ووعيه التام بتأثيره السلبي على المجاهدين والرأي العام -لخبث نفسٍ وفساد نيّةٍ وسوء طويّةٍ- فهو ينضم لركب المُخذّلين والمنافقين والمتواطئين، ولا يُعذَر بادعائه إرادة النّقد البنّاء والنُّصح الرّاشد، فالمراجعات لا تكون إلا بعد انتهاء المعارك وفي دوائر ضيّقة، والنصيحة لا تكون إلا سراً، حفاظاً على وحدة وتلاحم الصف المسلم ولقتل الفتن التي قد تنشط في ظل الحروب والأزمات.
ربما يكون في النقد وجه صحة، لكنه حتماً لن يخدم المشروع الإسلامي حال طغت مفاسده على المصالح المرجوّة؛ خاصة إذا كان سيضر بأهل الثغور الذين يخوضون حروباً دامية وطاحنة مع أعداء الإسلام، بل ربما اقتصر هذا النقد على خدمة مصالح العدو فحسب!! فالحذر الحذر أن نكون مع الخائضين وفي زمرة المنافقين!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى