مقالاتمقالات مختارة

شهادة يعقوب والفهم المقلوب 1

شهادة يعقوب والفهم المقلوب 1

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

في الجولة الثانية من شهادة الشيخ يعقوب تَحَلْحَلَ الموقف قليلا؛ ليخرج الشيخ عن حالة المراوغة ويصرح ببعض الأحكام، التي ربما تكون هي المطلوبة تحديدا؛ لغرضين، الأول: تسويغ الحكم بالإعدام على الشباب المتهمين في القضية، الثاني: تقرير جملة من المفاهيم الباطلة التي ربما يكون لها دور كبير في التثبيط والصد عن سبيل الله تعالى وإشاعة الاضطراب الفكري والعقدي والشرعي في أوساط الشباب.

    فقد سُئل الشيخ عن حكم قتال الجيش والشرطة، وعن حكم من كَفَّر المسلمين، وعن حكم الجهاد في هذه الأيام، فأجاب بما يمكن أن يُبنى عليه في تسويغُ حكم الإعدام، صحيحٌ أنّ الإجابات لم تصرح بما فهمه القاضي وبنى عليه، لكنّ الشيخ سكت عن تعقيب القاضي في معرض الحوار، و”السكوت في معرض الحاجة بيان”، فمثلا عندما سأله القاضي ما حكم مَنْ كَفَّر المسلمين؟ فأجاب بحديث: “فقد باء بها أحدهما” فأكمل القاضي: يعني كافر .. يعني مرتد .. والمرتد ما حكمه؟ وصمت الشيخ بعدها؛ ليكون سكوته إقرارا لاستنتاجات القاضي.

    والحقيقة أنّ هذا التسلسل باطل من أساسه؛ فلا الذي يُكَفِّر مسلما يأخذ أحكام المرتد، ولا الذي يُكَفِّر المسلمين يُقتل بذلك إن كان فردا أو يقاتَل إن كان طائفة، إنّما يُقتل إن كان فردا أو يُقاتل إن كان طائفة مَنْ بنى على ذلك التكفير خروجا على الجماعة، أمّا مجرد التمذهب بمذهب التكفير أو بمذهب الخوارج فلا يستدعي قتلا ولا قتالا، وهذا هو ما فهمه عليّ رضي الله عنه من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم، إذْ عندما علم بالخوارج واجتماعهم قال: “لَهُمْ عَلَيْنَا: ثَلَاثٌ لَا نَمْنَعُهُمُ الْمَسَاجِدَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلَا نَمْنَعُهُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا”([1])؛ لذلك قرر الفقهاء أنّهم: “إن تكلموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد، فليس للإمام أن يتعرض لهم”([2])؛ لأنّ الأمر لم يجاوز الفكر إلى العمل والتنفيذ.

    يقول ابن عبد البرّ: “لو أن قوما أظهروا رأي الخوارج وتجنبوا جماعة المسلمين وكفروهم لم تحل بذلك دماؤهم ولا قتالهم لأنهم على حرمة الإيمان حتى يصيروا إلى الحال التي يجوز فيها قتالهم من خروجهم إلى قتال المسلمين وإشهارهم السلاح وامتناعهم من نفوذ الحق عليهم وقال بلغنا أن علي بن أبي طالب بينما هو يخطب إذْ سمع تحكيما من ناحية المسجد، فقال ما هذا؟ فقيل: رجلٌ يقول: “لا حكم إلا لله” فقال عليٌّ – رحمه الله  – كلمة حق أريد بها باطل، لا نمنعكم مساجد الله …”([3]).

     لكنّ الأخطرَ من هذا كله هو أنّه أعلن هذه الفتوى التي لا تشبهها إلا فتاوَى شيوخِ الاحتلال، الذين كانوا يصرفون الناس عن مقاومة الاحتلال بدعوى عدم مشروعية الجهاد! فادعى أنّه لا يوجد اليوم على الأرض كلها جهادٌ شرعيّ؛ بزعم أنّ شروطه لم تتوافر بعد!! وما شروطه العَصِيَّة تلك يا جهبذ الجهابذة؟! قال: أميرٌ ورايةٌ ودارُ مَنَعَةٍ وعددٌ يكون مظنَّةَ الغَلَبَةِ وتمايزُ الصفوف!!

    فكلّ الجهاد اليوم إذنْ باطل وضلال! فالذين يقاومون العدو الإسرائيليّ في فلسطين على باطل! ومن قُتل منهم فليس شهيداً! والذين قاتلوا الروسَ في الشيشان، والذين قاتلوا الأمريكانَ في العراق وأفغانستان، والذين قاتلوا الصرب في البوسنة والهرسك، والذين يقاتلون اليوم الروسَ والمجوس والعلويين في سوريا؛ كل هؤلاء ليسوا على شيء! وقتلاهم ليسوا من الشهادة في شيء! لأنّه لا يمكن أن تتوافر الشروطُ الصارمةُ تلك في حالة واحدة من تلك الحالات التي ذهبت وأصحابَهَا أدراجَ رياح الفسادِ والبطلان!

     فليهنأ شيخنا ولينعم بجهاده في “إعفاف الأخوات!” ونضاله في لفّ العمامة وترجيل اللحية وإسباغ البياض على جسده الطاهر النقيّ من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه! وتجديفه بالليل والنهار في عكس اتجاه تيار الجهلاء المبتدعين أو الأدباء المبدعين – لا فرق عنده! – من أمثال سيد قطب والبنا والغزالي! وليتقلب هو وأضرابه في الرزق الحلال والزوجات والعيال؛ فإنّهم سيبقون مشايخنا على كل حال، وإنّهم السابقون دوما في الحال والمآل؛ ولم لا؟ أليسوا يتحدثون بالآية والحديث؟ ويتمسكون بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؟! فليقولوا ما شاءوا وليفعلوا ما يحلوا لهم؛ فالمبررون سيتكفلون بالأمر كله.

     ولست أدري من أين أتى بهذا القول الْمُبْتَدَعِ الْمُحْدَثِ المخالِفِ لما كان عليه علماءُ الأمة من كافّة المذاهب؟! والمنافي لمقاصد الشرع ولنصوص الكتاب والسنة، والمصادمِ للعقل والفطرة والواقع، فإنّ نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجهاد وتوجبه وتحرض عليه جاءت مطلقة من كل تلك القيود التي وضعت لا لشي إلا لتعطيل الجهاد وإبطاله، قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (التوبة: 29)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: 123)، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: 193)، (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4)، (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة: 5).

    فليس في شيء من هذه الآيات ولا غيرها شرط تتوقف عليه مشروعية الجهاد، ولا في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرة الوفيرة شيء من ذلك على الإطلاق، وإنّما تكلم العلماء في شروط للوجوب، وشروط الوجوب كالعقل والبلوغ والذكورة والحرية والاستطاعة، تلك الشروط التي اشترطوها في جهاد الطلب ليست شروطا لمشروعية الجهاد، فلو جاهدت المرأة وغزت مع الغزاة أو جاهد العبد أو الصبيُّ وخرج مع الفاتحين يكون الجهاد منهم صحيحا ويؤجرون عليه، تماما كما لو صلى صبيّ لم يبلغ التمييز صلاة صحيحة أثيب عليها وصحت منه ولم يكن أداؤه للصلاة منافيا للمشروعية.

    وتكلموا أيضا في شروط أخرى غير شروط الوجوب، لا علاقة لها بمشروعية الجهاد من الأصل، وإنّما تتعلق بكل شخص على الانفراد ولا تضر بالأصل العام، كاشتراط إذن الوالدين والغريم ووليّ الأمر، فمن كان له والدان فإنّه يجب على المجاهد أن يستأذنهما إذا خرج لجهاد الطلب دون جهاد الدفع، فإن خالف أثم بذلك وصح منه الجهاد وأثيب عليه، وذلك لا علاقة له بمشروعية الجهاد من الأصل، وقل مثل ذلك في استئذان الغريم صاحب الدين، أمّا استئذان وليّ الأمر فليس المقصود به انتظار وجود وليّ الأمر حتى يستأذنه المجاهدون، وإنما المقصود به أنّه إذا كان ولي الأمر موجودا وقائما بأمر الله فلا يصح الافتئات عليه وإعلان الجهاد من طائفة من المسلمين ضد العدو دون الرجوع إليه؛ لأنّ في ذلك مفسدة الفوضى واضطراب الصفوف، أمّا إذا شغر الزمان من الإمام وخلا من سلطان شرعيّ فلا وجود هنا لشرط استئذان الأمير؛ إذْ إنّ الأمر بالجهاد لجماعة المؤمنين أيّا كان وضعهم؛ يقول ابن قدامة: “وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك … فإن عُدِمَ الإمام لم يؤخر الجهاد؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره”([4]).

    وكل هذا في جهاد الطلب الذي هو فرض كفاية، أمّا جهاد الدفع فهو فرض عين ولا انتظار فيه لإذن والدين أو غريم أو إمام، وربما رأى البعض إذن الإمام لأجل تنسيق الصفوف، لا لأنّه شرط في مشروعية الجهاد كشرط الوضوء لصحة الصلاة، وشرط الوليّ والشهود لصحة النكاح، فلم يقل أحد من الأمة قط إنّ الجهاد يوجد حيث يوجد الإمام، أو أنّه ينعدم بانعدامه، هذا خرف لا يهذي به إلا من لا فقه له، أو من معه شيء من الفقه المقلوب يزور به الحقائق ويزيف به الواقع، يقول ابن قدامة بعد أن ذكر أنّ الجهاد يتعين إذا أغار الكفار على الديار: “فإذا ثبت هذا، فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه، لأنه أحوط للمسلمين؛ إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه، لأن المصلحة تتعين في قتالهم”([5]).

    والذي قرره العلماء الراسخون في العلم أنّ التصرف العام ينفذ من غير ولاية في حال الضرورة، يقول العزّ ابن عبد السلام في قواعد الأحكام: “وقد ينفذ التصرف العام من غير ولاية، كما في تصرف الأئمة البغاة؛ فإنه ينفذ مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع ندرة البغي فأولى أن ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وإنه لا انفكاك للناس عنهم” والأمّة الآن في حال اضطرار واقتهار؛ لشغور الزمان من سلطان شرعيّ ولو من الفجار، ومعلوم أنّ الأمة هي الأصل، وأنّ أهل الحل والعقد من علمائها وصلحائها هم القاعدة التي ينبثق عنها الإمام، فإذا عدم الإمام أو ارتد أو تعذر الوصول إليه رجع الأمر في التصرف العام للأمة بسوادها أو بأهل الحل والعقد فيها، ولم يتوقف شيء مما أوجبه الله على عباده.

    ثمّ يقال: إنّ الجهاد قد يفرض لإيجاد الإمام أو لإزالة الفاجر الذي عمّ فجوره عن ولاية أمر المسلمين، كما يقول الجويني: “وقد ذُكر أن الإمامَ قال: لا ينعزل بالفسق، وهذا في نادر الفسق، فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، فلا بد من استدراك هذاالأمر المتفاقم، فإن أمكن كف يده، وتولية غيره بالصفات المعتبرة، فالبدار البدار”([6])؛ فكيف نزيله ونحن محتاجون إليه ليكون شرطا في صحة الجهاد لإزالته وتولية غيره؟! إنّكم أيها الوعاظ مرتبكون ومضطربون؛ فلم تزدد بكم الساحة العلمية والدعوية إلا ارتباكا واضطرابا؛ فكفوا عن المسلمين أذاكم، واقعدوا ي دياركم يرحمكم الله.. (يُتْبَعُ)


([1]) الأموال لابن زنجويه (2/ 517)

([2]) الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 132)

([3]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (23/ 338)

([4]) المغني لابن قدامة (9/ 202)

([5]) المغني لابن قدامة (9/ 213)

([6]) الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم – للإمام الجويني إمام الحرمين ت: عبد العظيم الديب – مكتبة إمام الحرمين ط: الثانية، 1401هـ (ص : 42)

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى