بقلم أحمد التلاوي
زُجَّ بهم في معركة طويلة وخطيرة، من دون إعداد كافٍ. هذه العبارة تلخِّص حال شباب مسلم كثير، خاض غمار معارك عديدة في السنوات الأخيرة، كانت نتيجتها الكثير من الخسائر المحققة، سواء في أرواحهم، أو على مستوى الجانب المعنوي فيما يتعلق بالنواحي الإيمانية، وكذلك فيما يتعلق بنقطة المواصلة والمثابرة على العمل الذي يقومون به.
والخطورة المشار إليها في السطر الأول، إنما لها أكثر من جانب؛ الجانب الأهم منها، هو أنها كانت معارك فاصلة في تاريخ صيرورات المشروع الإسلامي، وما بعدها يختلف تمامًا عمَّا قبلها، وقاد الفشل أو الخسارة فيها – حتى لو تم اعتبار ذلك فشلاً أو خسارة مرحلية – فإنه قد كان لذلك أثر مدمِّر على المشروع الإسلامي والطليعة الحركية المسلمة، بما يرتبط بذلك من آثار على الدعوة الإسلامية ذاتها.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هناك أسباب عدة لهذا الواقع المؤلم الذي يعتبره الكثيرون أنه قد تسبب في تدمير لعقود طويلة من العمل الإسلامي، الدعوي والسياسي وغير ذلك.
من بين أهم هذه الأسباب هو قضية الإعداد.
مبدئيًّا قضية الإعداد ذات شقَّيْن. الشق الأول يتعلق بعوامل إضعاف من البيئة الخارجية المحيطة بالأجيال الجديدة من الشباب المسلم، والشق الثاني يتعلق بعدم استكمال جوانب الإعداد الضرورية في مثل هذه الحالات من جانب قيادات الحركات الإسلامية.
قضية الإعداد ذات شقَّيْن. الشق الأول يتعلق بعوامل إضعاف من البيئة الخارجية المحيطة بالأجيال الجديدة من الشباب المسلم، والشق الثاني يتعلق بعدم استكمال جوانب الإعداد الضرورية في مثل هذه الحالات من جانب قيادات الحركات الإسلامية
والإعداد المقصود هنا، ليس الإعداد البدني بطبيعة الحال؛ فالمفترض أن الغالبية من المناشط المرتبطة بالحركة الإسلامية؛ إنما تتصل بأمور تتعلق بالقدرات الفكرية والتأهيل العقلي والنفسي للإنسان.
وهو واضح في المدرسة التربوية النبوية، فالجانب الفكري والتربوي، كان هو الفارق بين عمر بن الخطاب بعد الإسلام، وعمر بن الخطاب قبل الإسلام، وهو الفارق بين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين عمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، وغيرهما من صناديد قريش الذين كانوا من أئمة الكفر.
وترتبط قضية الإعداد هناك بقانون مهم للغاية من ضمن القوانين المهمة التي وضعها الله تعالى في العمران والاجتماع الإنساني، والتي من دونها أو من دون مراعاتها، يتعرض البنيان للهدم، وهو قانون الاستطاعة.
وينص هذا القانون على أنه: ما لَمْ تستطِع؛ فلا تفعل.
لذلك من الخطايا العظمى التي وقع فيها جيل القيادات الحركية الحالي تحميل جيل لم تتم تهيئته بعد مهاماً عظمى وكبيرة، وربما هي الأصعب من بين كل مهام البشر ، وهي الدعوة لدين الله تعالى، وتغيير وإصلاح المجتمعات، من دون إعداد كافٍ يجعلهم قادرين، و مستطيعين لما هم بصدده.
ومعيار الصعوبة المشار إليه؛ إنما هو معيار مطلق، وليس نسبيًّا؛ فلأنها بالفعل أصعب المهام؛ فقد اختار الله تعالى لها الأنبياء والمرسلين للقيام بها عبر تاريخ الإنسانية الطويل.
كما أن التاريخ يخبرنا بحجم المتاعب التي واجهها المصلحون ودعاة التغيير بشكل عام، في أي مجتمع من المجتمعات ، وأنهم كانوا الأكثر عُرْضَة للاضطهاد، وكانت مصائر بعضهم مروعة، بين القتل والحرق بتهم الهرطقة!
والأكثر صعوبة في هذا الموقف الذي يمر به #الشباب المسلم، أنه قد تصدى لقضية الإصلاح والتغيير في مجتمعات رسخت في الضلال، أو على أقل تقدير ابتعدت عن دينها لأسباب عديدة، ولفترات طويلة؛ جذَّرت حالة من عدم الوعي والفهم أصلاً لما ينبغي أن تكون عليه كمجتمعات مسلمة، بل وماذا يعني من الأصل أنها مجتمعات مسلمة.
ومن المؤسف أن قيادات حركية من المفترض أنها على أكبر جانب من الفهم، وتحمل مسؤولية هذا الجيل، قد حمَّلت الشباب مهام الأنبياء. هذا حاصل، ولو راجعنا الأدبيات والمناهج سنفهم ذلك. لما قال الله تعالى لنبيه يحيى (عليه السلام)، وغيره من أنبيائه، أن يأخذوا الأمر بقوة؛ كان ذلك وفق منهج رباني راسخ، وهو الإعداد والتجهيز.
فالله تعالى ربى وأعد أنبيائه ورسله، لهذه المهام العظمى. كما قال الله تعالى لنبيه موسى (عليه السلام): “وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي” [“طه” – من الآية 39]، و”وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي” [“طه” – الآية 41]. فمهام الأنبياء ليست لغيرهم، هذا مبدأ، ولو حاولت أن تحمِّل غيرهم “بعض” أدوارهم، فعلى أقل تقدير؛ أنت بحاجة إلى إعداد.
وفي المرة الوحيدة التي ورد فيها خطاب إلهي لقوم وليس لنبي من أنبيائه، بأخذ ما آتاهم بقوة؛ كانت لبني إسرائيل، وقت أن كان فيهم الإيمان، وكانوا الأمة التي اصطفاها الله تعالى لحمل رسالة التوحيد، وكان ذلك في موقف عظيم لا يمكن لأي إنسان معه إلا أن يؤمن ويوقن، بما في ذلك الإيمان بالآخرة وجزاء الحسنى الذي ينتظرهم، وتتراجع في مقابله أية تضحية يقدمونها.
وحتى في هذه الحالة؛ كفر بعض هؤلاء القوم، بالرغم من كل علامات اليقين التي أمامهم، وبالرغم من كل معاناتهم في ظل ذل العبودية تحت قبضة فرعون، وهو ما يعطي علائم كبيرة على صعوبة مهمة هداية الناس وتغيير المجتمعات.
وهو ما تلخِّصه الآية القرآنية الكريمة، التي يقول فيها الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [سُورة “البقرة” – الآية 93].
وفيما يخص قضية الإعداد، فلقد شاءت حكمة الله تعالى – مثلما شاءت أن يكون خلق السماوات والأرض في ستة أيام – وكان الله عز وجل قديرًا على أن يقول لهؤلاء الأنبياء والرسل، ولهذه المجتمعات: كونوا فيكونوا؛ شاءت حكمته أن تستغرق رحلة إعداد أي نبي؛ عشرات السنين.
فيما يخص قضية الإعداد، فلقد شاءت حكمة الله تعالى – مثلما شاءت أن يكون خلق السماوات والأرض في ستة أيام – وكان الله عز وجل قديرًا على أن يقول لهؤلاء الأنبياء والرسل، ولهذه المجتمعات: كونوا فيكونوا؛ شاءت حكمته أن تستغرق رحلة إعداد أي نبي؛ عشرات السنين
ويقول المؤرخون إن الغالب أن الأنبياء والرُّسُل، بُعِثوا وهم في الأربعين من أعمارهم.
فكيف يمكن أن نقول إننا أمام صف إسلامي يتحرك في إطار مشروع إسلامي من دون فهم ذلك وتطبيقه؟!
فـ”الإسلامي” وفق الاصطلاح، هو مفهوم أعلى درجة من “مسلم”؛ فـ”إسلامي” يعني أنه مسلم يطبق أو على أقل تقدير؛ يتحرى قواعد الإسلام في كل أموره وشؤونه ، وبالتالي؛ يجب عليه أن يكون واعيًا بالقوانين التي وضعها الله تعالى لحركة المجتمعات والتحرُّك فيها في ذات الآن.
إننا نجد قيادات حركية تأتي إلى خريجي مدارس هزيلة، ونتاج تعليم وإعلام يفشِلون الناسك في معزله؛ ثم تقول لهم: تصدوا!، وتصدوا هذه شملت مواجهات دول وجيوش بكامل عتادها، وربما هي الأقوى في العالم. فكيف نتصور منهم نجاحًا؟!
هذا يعكس خللاً في الفهم، وكل صور الخلل المنهجية وغير المنهجية.
في تجارب الآخرين، نجد أنه – على سبيل المثال – في عملية التربية الكنسية؛ فهمًا لأمرَيْن على أكبر قدر من الأهمية. الأمر الأول، هو الإعداد بمفهومه الشامل؛ فعمليات الإعداد تبدأ من الصِّغَر، ومن الصفر، وطويلة الأمد.
الأمر الثاني، هو فهم المطلوب، وما يجب على الشاب أو الرجل في مقتبل عمره القيام به، وكيف وأدواته وفق قدراته كذلك.
الحركة “الإسلامية” بشكل عام الآن؛ لا تقُم بذلك على الوجه الأكمل، والبعض لا يفهمه أصلاً، وهذا عجيب وغريب؛ لأنه واضح للغاية في الأصول الشرعية؛ القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، وفي التاريخ، والتاريخ مُعلِّم شديد الأهمية.
ارتبط بذلك دعوة جيل بهذا التوصيف، وهذه الحالة؛ إلى بذل التضحيات “للأبد”، ومن دون رؤية واضحة، ومن دون تتبع كل ما وضعه الدين لهذه التضحيات من قيود وضرورات إنفاذ، بدءًا من عدالة القضية، وصولاً إلى الإعداد، مرورًا بقوانين الجدوى والاستطاعة، والتي حددها القرآن الكريم بدقة، وكذلك اتفاق عام مع شركاء المجتمعات.
ارتبط بهذا الأمر بذل التضحيات “للأبد”، ومن دون رؤية واضحة، ومن دون تتبع كل ما وضعه الدين لهذه التضحيات من قيود وضرورات إنفاذ
وذلك غياب للإعداد ولكن بمنطق آخر، وهو إعداد الفهم من جانب القادة؛ حيث ذلك يتم من دون درْس وتمحيص لهذه الأمور، وأمور أخرى، مثل صحة الرؤية وتحديد ما الذي تريد ولماذا.
وهو ما يجعل الإنسان يشارك في عبث، والعبث أمر خارج نطاق العقل، وبالتالي خارج نطاق الفعل البشري السوي.
وفي الأخير؛ فإنه في مصائر الناس والأمم؛ لا مجال لأحاديث براقة لا تنظر لعمق المضمون، ولا تتبع الوسائل والأساليب السليمة التي هي من صميم تراتيب الخالق عز وجل في خلقه ، ومن صميم فهم الإنسان المسلم لها.
(المصدر: موقع بصائر)