مقالاتمقالات مختارة

سُنة العراق.. بين تُهمة الانفراد بالحكم وتيه الهوية والمشروع

سُنة العراق.. بين تُهمة الانفراد بالحكم وتيه الهوية والمشروع

بقلم علي هادي

حين ابتدع السومريون فن «الفسيفساء»؛ لم يدر في خلدهم أن قدر سكان بلاد ما بين النهرين سيكون مشابهًا لقطع الحجر والخزف المتشظي التي تجمعها اللوحات الفسيفسائية، وبخلاف ما يعكسه الفن من جمال الأرض والإنسان والحضارة؛ فإن «الفسيفساء العراقية المجتمعية» مَزقت قطعها الصراعات القديمة المتجددة وحولتها إلى أحجار يتراشق بها الغزاة بينهم.

ولعل أبرز وأقدم وأشهر الصراعات التي عاناها المجتمع العراقي طوال قرون عديدة هو «الصراع السُني الشيعي» وآثاره ماثلة للعيان، «أهل السُنة»: فرق وجماعات ومذاهب، تختلف فيما بينها بالمناهج والتأصيل وفروع الاعتقاد – وأحيانًا أصوله- تتراشق أغلبها بتُهم الابتداع وادعاء الأفضلية والانتماء للفرقة الناجية، واحتكار تمثيل السُنة وجماعة المسلمين، والحال ذاته لدى «الشيعة» بفرقهم المتناحرة ومهدييهم المنتظرين، والمقال لن يسرد تفاصيل تلك الخلافات بقدر تسليط الضوء على جزئية غير واضحة للكثيرين، ألا وهي: أزمة الهوية والمشروع السُني وفرضية انفرادهم بحكم العراق الحديث.

الخارطة «السُنية» في العراق.. البحث عن «السُنة والجماعة» 

لفهم حيثيات هذه الأزمة لا بد من العودة للماضي القريب؛ فخلال حقبة الصراع الصفوي العثماني على العراق تغلبت صفة التصوف على التدين السُني في العراق، وكان العثمانيون يقدمون الدعم لغالبية الطرق والجماعات والعمائم الصوفية – من الأحناف والشافعية- لما يتفق مع سياسة دولتهم ومذهبها، ولبعد أغلب المتصوفة عن الحياة السياسية وتأييدهم سلطة الحاكم المتغلب، فنشطت المدارس الدينية الصوفية والمراقد والمزارات والتكايا بمختلف اتجاهاتها، في الوقت ذاته كان نشاط الحنابلة – أصحاب المدرسة السلفية– ضعيفًا لتعارض منهجيتهم مع سياسة الدولة، وبعد تبني «ابن سعود» نشر مذهب «محمد بن عبد الوهاب» لبسط سلطانه في نجد وتأسيس مملكته المناوئة لدولة آل عثمان؛ زاد الاحتقان بين الحنابلة السلفيين والمتصوفة، خاصة مع هجمات الوهابيين المتكررة على مدن الأنبار وكربلاء والنجف وغيرها من مدن غرب وجنوب العراق، وحورب السلفيون بزعم انتمائهم وتأييدهم لحركة ابن عبد الوهاب، رغم وجود اختلافات بين البيئة العراقية السلفية ونظيرتها النجدية.

وبعد احتلال الإنجليز للعراق وتأسيس الدولة القطرية العراقية عام 1921، ولم يختلف الدور الديني السُني – الصوفي والسلفي- في بعده عن السلطة والحياة السياسة وانحصار دوره في الإطار العلمي تدريسًا وتأليفًا والإطار الدعوي الوعظي داخل المساجد، في تلك الظروف برزت تيارات فكرية وسياسية علمانية وقومية «كوردية وعروبية» طرحت شعارات ومشاريع سياسية حركية جذبت العديد من أبناء المناطق التي طُبعت بالصبغة الدينية السُنية، وتدريجيًّا ضعف تأثير التيار الديني ووجهت لهم تهم التخلف والرجعية، وخوت المساجد تقريبًا من الشباب الذين لم يجدوا لدى الطرق والحركات الدينية السُنية التقليدية إجابات ومشاريع تلائم واقعهم.

استيراد الفكر.. والإخفاق في النشر

كانت أفكار ومشاريع وشعارات الأحزاب العلمانية والقومية – الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي والناصريين والقوميين العرب والكورد وغيرهم – مستوردة التنظير بعيدًا عن العقول العراقية، ولمواجهة تلك الحركات والأفكار استورد بعض رجال الدين السُنة – ومن بعدهم الشيعة لاحقًا – أفكارًا وشعارات ومشاريع الحركات السياسية الإسلامية التي ظهرت في البلاد العربية، فبعد عودة الشيخ الموصلي محمد محمود الصواف إلى العراق منتصف الأربعينيات بعد رحلة دراسة في مصر؛ نشط بنشر مشروع «جماعة الإخوان المسلمين» وفكر مؤسسها حسن البنا، وفي بداية الخمسينيات تبنى رجال دين آخرون –أبرزهم الشيخ عبد العزيز البدري- دعوة «حزب التحرير الإسلامي» وفكر مؤسسها الفلسطيني تقي الدين النبهاني، ولم تستطع كلا الحركتين توسيع قاعدتها التنظيمية والشعبية بشكل كبير، وحصر انتشارها ضمن فئات محددة بسبب خطابها النخبوي ولهيمنة الأحزاب العلمانية والقومية ودعايتها المضادة ومحاربتها لها، إضافة إلى غلبة التوجه الصوفي البعيد عن السياسة في الحاضنة الدينية السُنية، ولم يسجل رسميًّا أي حزب ذي توجه ديني سياسي سوى بعد انقلاب 1958 حين تقدم بعض أعضاء الإخوان المسلمين لتأسيس «الحزب الإسلامي العراقي»، والذي جُمد بعد سنة من تأسيسه لمناهضته بعض توجهات «عبد الكريم قاسم» القريبة للشيوعية.

حزب البعث.. وتمزيق الأوصال السُنية

وبعد سيطرتهم على السلطة، حظر البعثيون أي نشاط للحركات السياسية الإسلامية، ولاحقوا أعضاءها وحاربوهم، وتزامنًا مع لغة الانقلابات السائدة في ذلك الوقت، حاول بعض الضباط العسكر ذوي التوجه الإسلامي القيام بمحاولات انقلاب واغتيال لرموز السلطة البعثية، ولكنها كُشفت وجوبهت برد فعلٍ دموي قاده الرجل الثاني في سلطة البعث «صدام حُسين»، وأعدم وصفى واعتقل عددًا من قادة وأعضاء التيار الإسلامي السياسي.

استمرت سياسة الحزب والثورة والقائد الضرورة «صدام» بمحاربة التيارات الإسلامية السياسية المعارضة لتوجهاتهم وتفردهم بالسلطة، وعمقت ممارسات الحزب العروبية من حالة الانقسام داخل المجتمع السُني «العربي والكوردي» فضعفت الروابط المشتركة التي كان يوحدها التوجه الديني، وشجع النظام معظم الطرق الصوفية ودعم أنشطتها ورموزها، واستخدم بعضهم لمحاربة التوجهات الحركية الأخر؛ فتعمقت الفجوة بينهم وبين التيارات الإسلامية المخالفة والمعارضة لتوجهات البعث.

فرضية الحُكم السُني.. وهمُ الخصومة

سألخص بعض النقاط تبعًا لما تقدم:

  • منذ تأسيس المملكة العراقية مرورًا بقيام الجمهورية وصولًا لسقوط نظام البعث: لم تحكم أي حركة أو حزب أو شخصية إسلامية وفقًا لاعتقادها الديني وتنفيذًا لمشروعها الحركي الإسلامي، فجميع من استلم السلطة بعد سقوط الملكية حكم وفقًا لانتمائه الفكري أو العشائري «عبد الكريم قاسم/شيوعي، عبد السلام وعبد الرحمن عارف/قوميون، أحمد حسن البكر وصدام حسين/بعثيون»، فكيف يتم نسبتهم للتسنن وهم لم يهتموا بالمذهب والمعتقد وتحكيم الشرع والدعوة للدين، بل حارب أغلبهم هذه التوجهات بقوة وعنف؟

  • تنصيب الحجازي «فيصل بن الحُسين» ملكاً على العراق لم يكن بسبب انتمائه المذهبي وإنما لدوره في الثورة على العثمانيين، وأيضًا لعدم اتفاق الأعيان العراقيين على اختيار شخصية منهم، ورُشح اسم فيصل من قبل بعض المراجع الشيعية، ولم يتم تنصيب رجل الدين السُني «عبد الرحمن الكيلاني» رئيسًا لوزراء أول حكومة عراقية إلا لكونه نقيبًا لأشراف بغداد، في الوقت ذاته الذي تم فيه اختيار رجال دين شيعة كوزراء في الحكومة ذاتها «محمد مهدي بحر العلوم»، «هبة الدين الشهرستاني».

  • الإقصاء السياسي والمظلومية التي يروج لها غالبية السياسيين الشيعة والتي توجت بـ«إعلان شيعة العراق» لم يكن مقتصرًا على التيارات السياسية الشيعية وإنما شمل مثيلاتها السُنية كما أسلفنا، وغالبية المجتمع الشيعي – كما السني- كان منخرطًا في النشاطات السياسية العلمانية والقومية والبعثية وتسنم كثير منهم مناصب وقيادات عليا في الدولة في الحقبتين الملكية والجمهورية، فكان الإقصاء للإسلاميين جميعًا سياسيًّا وليس دينيًّا طائفيًّا.

  • الحديث عن الأغلبية ونسب تمثيلها في البلد لا يستند لأي إحصاء رسمي ويتم الترويج له إعلاميًّا وفق أجندات طائفية تعمل على الفصل بين المكونات وفقًا لانتمائها القومي «عرب سُنة وكورد» بأسلوب غير علمي وموضوعي، فالأغلبية الدينية تفرق عن الأغلبية القومية ولا يمكن الخلط بينهما.

  • لم تحظ الحركات السياسية الإسلامية السُنية –العربية والكوردية- بأي دعم عربي أو إقليمي أو دولي مشابه للدعم الذي قدمته الجمهورية الإيرانية للأحزاب الشيعية على مستوى التمويل والتسليح والتدريب على مدى عقود، فلهذا كان دورها في معارضة النظام البعثي ضعيفًا ولا يكاد يظهر إلا على استحياء خارج سطوة النظام، مما جعل البعض يثير الشكوك حول موقفهم من حكم البعث!

  • بعد الاحتلال الأمريكي للعراق: ما زالت الغلبة للتيارات العلمانية والانتماءات العشائرية في المناطق المصنفة سنيًّا ضمن التصنيف الطائفي، وغالبية من يمثلون تلك المناطق اليوم في العملية السياسية، إما بعثيون سابقون وإما علمانيون ليبراليون وإما عشائريون، ويصنفون جبرًا لتمثيل الطائفة والمعتقد ويعرفون بأنهم «سياسيون سُنة»، ولا يوجد تقريبًا تمثيل سياسي للتيارات الدينية السُنية وفقًا لانتماءاتها الفكرية، وعلى العكس من ذلك فإن الوجود الشيعي السياسي الممثل بالفصائل المسلحة والأحزاب التي ترفع لافتات ومشاريع دينية بحتة تفرق بشكل تام عن الأحزاب غير الدينية الناشطة في المجتمع الشيعي، فلا يطلق عليهم «سياسيون شيعة» ما لم يكونوا منتمين لأحزاب دينية شيعية.

المصدر: ساسة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى