كتب وبحوث

سورة الكوثر .. تفسير وتحليل وتأويل 2 من 3

سورة الكوثر .. تفسير وتحليل وتأويل 2 من 3

إعداد أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

مناقشة بعض الآراء

        بعد هذه الجولة التفسيرية في كتب التفسير واللغة، لابد لي أن أثير بعض التساؤلات، وأقف على بعض النقاط التي لفتت انتباهي، وعلى بعض المسائل التي أثارت اهتمامي، وأقول فيها رأياً أضيفه إلى الآراء التي قيلت من قبل، وسبقني بها علماؤنا الأجلاء رحمهم الله جميعاً، علني أقدم شيئاً جديداً، فهذا القرآن لا يمل من الدرس، ولا تنقضي عجائبه.

وأهم المسائل:

المسألة الأولى: مسألة العرب العاربة، والعرب العرباء، والعرب المستعربة:

        ذكر الآلوسي في قراءتها بالنون قول التبريزي: (وهي لغة العرب العرباء من أولي قريش، وذكر غيره أنها لغة بني تميم وأهل اليمن) وذكر الشوكاني: (هي لغة العرب العاربة) واستشهد بقول الأعشى.

        فأقول وبالله التوفيق: نحن نعلم أن العرب ثلاثة، عرب بائدة: وهم الأقوام التي أبادهم الله وحل عليهم غضبه وسخطه، وعرب عاربة: وهم الذين بقوا من العرب البائدة في اليمن أو العراق أو الشام أو مصر أو فلسطين، والعرب المستعربة: وهم أبناء إسماعيل من أبيه العربي العراقي إبراهيم عليه السلام، وأمه هاجر السيدة العربية الأميرة المصرية التي كرّمه بها أمير مصر العربي الموحد عندما زاره ابن عمه إبراهيم في مصر بدعوة منه, وبموافقة ومباركة أمنا سارة.

         أما زوج إسماعيل ومربوه, فهم أخوال أولاده من قبيلة جرهم العربية اليمانية، ولهذا سموا بالعرب المستعربة، لأن إسماعيل عليه السلام جد الرسول الكريم محمد e جمع بأمر الله وعنايته ورعايته كل العرب في نسب واحد، عرب العراق، وعرب مصر، وعرب اليمن، في مكان واحد (ربنا إني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)[1]. وكانت بداية التأسيس لدولة العرب المقبلة.

          المعروف أن قريشاً هم العرب المستعربة، فعندما يقول التبريزي: لغة العرب العرباء من أولي قريش، فإنني أقف على هذا القول، وأتساءل عن قصده فيه، وهل أخطأ التبريزي؟ أم أخطأت المصادر التي تحدثت في هذا الموضوع؟, الحقيقة أنهما كلاهما على صواب, فالمصادر تؤكد على أن قريشا هي العرب المستعربة, وهذا صحيح, فهم جمعوا خيرة ما في الأمة فيهم, نسبا وعلما وأدبا ودينا وقيما نبيلة, فهم خلاصة العرب, الرجل أصاب كبد الحقيقة, عندما وصف لغتهم بأنها لغة العرب العرباء, أي هي لغة أهل الفصاحة والبلاغة والبيان, وهذا صحيح, فقريش كانت لغتها صفوة لغات العرب, التي انتقتها من لغاتهم.

المسألة الثانية: وهي قضية تحديد مكان هذه السورة، وسبب نزولها، فقد كثرت الأماكن، وتعددت الأسباب في سورة هي أقصر السور، وفي سبب واضح أشد الوضوح، وبزمن محدد ومعروف.

قالوا: مكية، وقالوا: مدنية، وقالوا: نزلت في الحديبية، وقالوا: نزلت مرتين!!.

وأما في سبب نزولها فقالوا: نزلت في بني أمية، وقالوا: نزلت في أبي جهل، وقالوا: في العاص بن وائل، وفي كعب بن الأشرف، الذين شنؤوه وشمتوا بوفاة ابنه، وقالوا: عندما حُصر في الحديببة وغير ذلك من أقوال كثيرة مختلفة ومضطربة.

والسؤال: ما هو سبب اختلاف المفسرين في تحديد مكان وزمان وسبب نزول سورة على قدر كبير من الأهمية مثل سورة الكوثر؟ هذا السؤال يحيرني، ولا أجد له جواباً سوى أنني أميل إلى نزولها في مكة وفي قضية شنآنهم على الرسول بإيمانه وخروجه على قريش المستبدة، ووفاة أبنائه، وامتحانه بمصائب كثيرة، فجاءت هذه السورة عزاءاً، ودواءاً، وشفاءاً.

المسالة الثالثة: في صفات نهر الكوثر, قالوا: أبرد من الثلج، ونحن نعرف أن الثلج متجمد، فإذا كان أبرد من الثلج فكيف يشرب؟ إلا إذا فسروها على المجاز وليس على الحقيقة, أي أن ماءه بارد.

وقالوا: يشخب من ميزابين من السماء، ونحن نعرف أن الأنهار تنبع من الأرض.

وقالوا: طوله ما بين المشرق والمغرب، وعمقه سبعون ألف فرسخ، ولما اختلفوا في مكانه أهو قبل الصراط أم بعده؟ خّرجها أحدهم بان جعل له حوضين، حوض قبل الصراط، و حوض بعده، وخّرجها آخر بطريقة تحسم كل خلاف كما يعتقد، إذ جعل هذا النهر العظيم، على ظهر ملك عظيم، يسير حيثما سار الرسول e ويكون معه حيث ما يكون، في المحشر، قبل الصراط و بعده، وفي الجنة إذ يكون فيها، ونسي أن هذا النهر طوله ما بين المشرق والمغرب، وعمقه سبعون ألف فرسخ، فكم سيكون حجم هذا الملك، وكم هو حجم الرسول e الذي يسير هذا الملك العظيم معه، وهل سيبقى على حجمه الطبيعي؟ أم يصبح بحجم هذا الملك؟ وأين سيقف خلفاؤه الأربعة؟ وما هي أحجامهم أيضا؟ وكيف سيصدون من أبغض أحدهم عن نهر هذا حجمه؟ أم إن أحجامهم ستتغير أيضا لتصبح مساوية لهذا النهر؟ وهل أعلمهم الرسول أن هؤلاء الأربعة سيكونون خلفاء له؟ أم من اجتهادهم؟ وكيف سيعرفون أن هذا أبغض واحدا منهم فيصدونه عن الشرب من هذا النهر؟ وإذا كان الرسول e قد قال حقاً: لا يشرب من هذا النهر من قتل آل بيتي، فإن المقتلة الرهيبة الفاجعة التي حلت بآل بيته الكرام الأطهار، إنما جاءت تأكيدا لنبوءته وجاؤوا إلى القتل وهم يعلمون ذلك، ومن ثم فلا داعي لتجديد هذا المصاب، وإيقاظ هذه الفتنة في كل عام بما يسمونه بالعاشوراء.

وأما قولهم: (أول وارد له فقراء المهاجرين، الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يزوجون المنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدر، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبره).

       فأقول فيه: أولا: لا يوجد بين المهاجرين فقير، فالمهاجرون من قريش، وقريش تعهد الله بإطعامهم، وأمنهم (الذي أطعمهم من جوع و أمنهم من خوف)[2]، ونحن نعرف ماذا فعل الأنصار لهم من مؤاخاة لم تحصل في تاريخ البشرية كلها ولن تحصل أبدا، ودامت هجرتهم ثمانية أعوام ثم عادوا فاتحين إلى ديارهم، وأخذوا من الغنائم في فتح مكة، وفي معركة حنين الشي الكثير، وفتحت لهم الدنيا بعد ذلك خزائنها، وكانت لهم حصة الأسد في كل قسمة، فمن أين جاءهم الفقر؟.

      ثم قولهم الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يزوجون المنعمات: هل لبس الثياب الجميلة الأنيقة محرم أو مكروه في الإسلام؟ هل الإسلام دين الوساخة و القذارة؟ أم دين النظافة والزينة؟ (يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)[3]، وهل الزواج بالمنعمات محرم أو مكروه؟ لماذا تزوج الرسول e من خديجة إذاً؟ ألم تكن منعمة وابنة العز والحسب والنسب والجاه والثراء؟ ثم منْ من أبناء المهاجرين الذي لم تفتح له أبواب السدر؟ ومَنْ منهم من لم يكن صاحب سدر أصلا؟ ومن منهم الذي مات وحاجته تتلجلج في صدره؟ من أين يأتون بهذا الكلام لا أدري؟! وهذه الدعوة إلى الزهد؟ وترك الدنيا والتمتع بها؟

        لقد خلقنا الله فيها لنعيشها بكل تفاصيلها، ونتنعم بنعيمها، ونتزين بزينتها دون أن نسرف، وبما يرضي الله ودون أن ننسى واجبنا تجاه ديننا وتجاه دنيإنّا، لنكسب الحسنيين، نعيم الدنيا ونعيم الآخرة إنشاء الله، فالحياة حلوة، والله جميل يحب الجمال.

         ويروون عن سيدتنا عائشة حديثا إنها قالت: (من أحب أن يسمع خرير ماء الكوثر، فليجعل إصبعيه في أذنيه).

 وقد وضعت إصبعي في أذني ، فسمعت صوتا مزعجا ودوياً مؤذياً ، ولكم أن تجربوا .

المسألة الرابعة: مسالة الذرية والنسب، وسيأتي تفصيلها والحديث عنها في الدراسة التحليلية التأويلية.

المسالة الخامسة: مسالة وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى على النحر في الصلاة، فالمفسرون يذكرون أنه ثبت عن الرسول e فعل ذلك، ويذكرون أن المالكية تخالف ذلك، أي أنهم أجازوا إرسال اليد، وقد وجدتهم يفعلون ذلك في ليبيا عندما كنت بينهم، فبعضهم يضعها على صدره وبعضهم يرسلها دون أي حرج، وليست هذه بمشكلة فقد ثبت عن الرسول e الحالتين، ولكن المشكلة في قول الطبرسي (أما ما رووا عن علي فمما لا يصح عنه) لماذا؟ لأن جميع عترته الطاهرة قد رووه بخلاف ذلك، وهذا هو الذي لا يصح، وهو تحميل عترته الطاهرة ما لا تحتمل من ادعاء وافتراء أولا.

        وثانيا حصر الدين بهم مع اعتزازي  وفخري بانتسابي إليهم[4]1، وإلغاء ونسف وتكذيب كل ما جاء عن غيرهم من الصحابة حتى لو كان عن علي نفسه، فهذا ظلم كبير لهم، وظلم للصحابة، و ظلم للدين، ودس عليه، فما هم إلا جزء من ذاك الرعيل الأول الذي حمل الإسلام مجتمعاً دون تفريق أو تمييز إلا بما أمر الله به ورسوله وخلفاؤه من بعده، وما الإمام علي إلا واحد من بين آلاف الصحابة الأجلاء مع شيء من الخصوصية، وما فاطمة رضي الله عنها إلا واحدة من آلاف الصحابيات الجليلات الطاهرات مع شيء من الخصوصية، فليست المسالة ملكية أو وراثية (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)…

المسالة السادسة: قول الطبرسي في الأبتر أن معناه: (إنه لا ولد له على الحقيقة، وإن من ينسب إليه ليس بولده).

وهذا القول المقصود منه التشكيك بنسب سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه ، و أبناءه لأنهم يعتمدون الرواية القائلة بأنها نزلت في العاص بن وائل ، إن هذا الرأي وهذا القول هو تشكيك و دس و إساءة إلى الرسول e و سيدتنا خديجة الكبرى رضي الله عنها و فاطمة و علي و الحسن و الحسين ، قبل أن يكون إساءة إلى سيدنا عمرو بن العاص ، لماذا ؟ لأن المشركين هم أولاً قالوا للرسول هذا الوصف فإذا كان معناه انه لا ولد له على الحقيقة و أن من نسب إليه ليس بولده ، فالطعن في الرسول أولاً ، و بنسب أبنائه الشريف و لكن المشركين على الرغم من شركهم ، و كفرهم ، و محاربتهم للرسول بكل ما أوتوا من قوة لم يجرؤا على قول مثل هذا الكلام ، و لكنها الشعوبية الحاقدة على كل ما هو عربي و مسلم ، ولو كان شخص الرسول الكريم و نسبه الطاهر .

المسالة السابعة : ما جاء في التفسير الواضح عن الأبترأيضا قوله : ( إنه قد شبه الذكر الجميل بذنب الحيوان لأنه يتبعه وهو زينة له و شبه الحرمان من الأثر الطيب بقطع الذنب ) وهذا في رأيي تشبيه قبيح ، فأية زينة للماعز و القرد في ذنبه ، و لكنها من المشاكلة ، و هذا يرد كثيرا في القرآن الكريم و في اللغة كقوله تعالى : ( و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين ) و غيره .

المسالة الثامنة : ما جاء في الميزان من أن المعتمد في المقصود بالأبتر هو العاصي بن وائل ، بزيادة الياء  و تعليقه عليها إذ يقول : ( في الدر المنثور اخرج ابن سعد و ابن عساكر عن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أكبر ولد محمد e القاسم ، ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية ، فمات القاسم وهو أول ميت من ولده بمكة ، ثم مات عبد الله ، فقال العاصي بن وائل السهمي : قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل الله ( إنّ شانئك هو الأبتر) 1  ، و لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد ، عند العاصي ، و إنما تتعداه لتصل إلى ابنه سيدنا عمرو حيث يقول : ( وفيه أخرج الزبير بن بكار و ابن عساكر عن جعفر الصادق عن محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين ابن الحسين قال : توفي القاسم ابن رسول الله e بمكة فمر الرسول وهو آت من جنازته على العاصي بن وائل و ابنه عمرو ؟ فقال : حين رأى رسول الله e اني لأشنؤه ، فقال العاصي : لا جرم لقد أصبح أبتر، فأنزل الله ( إنَ شانئك هو الأبتر) و بذلك يشرك الأب و ابنه بالشنآن و البتر ، و لا أدري من أين و كيف وردت هذه القصة إلى علي زين العابدين رضي الله عنه؟

ومع هذا فلا يكتفون باشتراك الابن مع أبيه ، و إنما المطلوب هو تحميل الجريمة كلها لسيدنا عمرو بن العاص ، فيوردها مرة أخرى على الشكل الآتي ، يقول : ( عن الحسن بن علي عليهما السلام في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي ، يقول له : إنك ولدت على فراش مشترك ، فتحاكمت فيك رجال قريش ، منهم أبو سفيان بن حرب ، و الوليد بن المغيرة ، وعثمان بن الحارث ، و النضر بن الحارث بن كلدة   و العاصي بن وائل ، كلهم يزعم انك ابنه ، فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسبا ، و أخبثهم منصبا       و أعظمهم بغية ، ثم قمت خطيبا وقلت ( إنّا شانئ محمد ) 2 .  و أقول : هل يمكن لمسلم مؤمن عاقل أن يصدق أن مثل هذا الكلام يصدر عن سيدنا الحسن بن علي عليهما السلام ، وبهذه الطريقة القبيحة الفجة ، وهو الذي يعتذر لعيسى بن مازن الذي شتمه قائلاً له : يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له ، يعتذر لهذا الصعلوك الشعوبي ، ويقول ما يقولونه من كلام مفحش في حق عمرو بن العاص ، أيعقل هذا ؟ و لكنها الشعوبية الحاقدة تقول ما تريد .

المسالة التاسعة : ما انفرد به الطباطبائي في الميزان بقوله ( وفي بعض الآثار هو الوليد بن المغيرة ) و أشار إلى ذلك إشارة دون ذكر التفاصيل ، لأن التفاصيل وردت في كشاف الزمخشري إذ ذكر في تفسير قوله تعالى ( عتلَ بعد ذلك زنيم ) القلم (13) 1 ، الزنيم : المنسب إلى قوم و ليس منهم ، وهو الدعي ابن البغاء ، ثم يضيف : هو الوليد بن المغيرة المخزومي ، استلحقه المغيرة بعد ثماني عشرة من مولده ، ثم يذكر حديثاً منسوباً للرسول e ( لا يدخل الجنة ولد الزنا ، و لا ولده ، و لا ولد ولده ) .

أتدرون من هو الوليد بن المغيرة المخزومي هذا ؟ انه سيد من سادات قريش في الجاهلية ، بل هو من أبرز سادتها ، لأن قريشا تمنت لو أن القرآن نزل عليه ( لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) الزخرف (31) ، الوليد بن المغيرة في مكة ، أو عروة بن معتوق في الطائف .

قال في القرآن قولا لم يقله فيه أحد ، عندما جاءت إليه قريش تسأله عنه قال : ( إن لقوله لحلاوة و إن عليه لطلاوة ، و إنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، و إنه ليعلو و لا يعلى عليه ، و إنه ليحطم ما تحته ) فأرعبهم هذا الكلام ، وهز أركانهم ، قالوا له: لا يسمعك الناس فيسلموا ، وقالوا له : قل لنا فيه قولا ، قال : أمهلوني حتى أفكر ، ثم قال بعد أن فكر : ( قولوا سحر يؤثر ) ، فنزل فيه قوله تعالى : (( ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس و بسر * ثم أدبر و استكبر * فقال إنْ هذا إلا سحر يؤثر * إنْ هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر )) المدثر (11-26).

ونزل فيه قوله تعالى : (( فلا صدق و لا صلى * و لكن كذب و تولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى * أولى لك فاولى * ثم أولى لك فاولى )) القيامة (31-35) .

ونزل فيه قوله تعالى : (( و لا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أنْ كان ذا مال و بنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم ))  القلم (10-16) .

من خلال قراءة هذه الآيات قراءة متأنية ، تظهر لنا شخصية الوليد بن المغيرة هذا ، بأنه ذو مال كثير          و أبناء كثر وصاحب فكر و تدبير ومكانة عالية ، أكرمه الله بها ، وهيأ له أسبابها ( ومهدت له تمهيدا ) ولكنه لم يشكر الله و لم يؤمن به ، ويطمع بأكثر من ذلك ، بالرسالة و النبوة ( ثم يطمع أن أزيد ) .

أما في قول بعض المفسرين : بأنه دعي و ابن زنا ، استلحقه المغيرة بعد ثماني عشرة من مولده ، معتمدين على معنى الزنيم بأنه : المنسب إلى قوم و ليس منهم ، وهو الدعي ابن البغاء ..

فأقول فيه : جاء في لسان العرب2 :

العتلة : حديدة كأنها راس فاس عريضة في أسفلها خشبة تحرث بها الأرض ، و العتلة : العصا الضخمة الغليظة من حديد أو خشب ، و العتلة : المدرة الكبيرة من الأرض تقلع إذا أثيرت .

و العتلٌّ : هو الشديد الجافي : الفظ الغليظ من الناس الشديد ، الأكول ، المنوع ، الجافي الخلق ، اللئيم  الضريبة ، الشديد الخصومة .

وجاء في عمدة الحفاظ 1 : العتلُّ ، الأكول المنوع ، الذي لا ينقاد لخير .

و العتْلُ : الأخذ بمجامع الشيء ، وجره بقهر ، وقيل الدفع بعنف .

 وجاء في شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك2 : العتُلُّ : الطويل العنق ، الضخمة .

وجاء في لسان العرب3 أيضا : الزنيم : الذي له زنمتان في حلقه ، و الزنمة : اللحمة المتدلية في الحلق  و أصل الزنمة : العلامة ، و الزنيم : الذي يعرف بالشّر و اللؤم ، كما تعرف الشاة بزنمتها  و المزنم من الإبل  الكريم الذي جعل له زنمة علامة لكرمه ، وزنيم و أزنم : بطنان من بني يربوع ، و الإبل الازنمية ، منسوبة إليهم . ماذا نستنتج من هذه التعريفات ؟ :

نستنتج أن العُتلُّ : هو الضخم ، الغليظ ، الكبير ، الشديد ، الفظ ، الأكول  المنوع ، الجافي الخلق ، اللئيم ، الشديد الخصومة ، الذي لا ينقاد لخير ، الطويل العنق ، الضخم العنق .

و الزنيم : هو الذي له زنمتان في حلقه ، و الزنمة : اللحمة المتدلية في الحلق ، و الزنيم : هو الذي يعرف بالشر و اللؤم .

فلو وازنا بين هذه الصفات ، و بين ما جاء في القرآن الكريم ، لوجدناها متطابقة تماما ، فهو صاحب مال ، و أبناء كثر ، و مكانة رفيعة ، وهو ضخم إلهيأة ، شديد ، جافي ، فظ ، غليظ .

و هو كثير الخير ، و لكنه منوع له ، و بخيل ، أكول ، نهم بالأكل ، ممتلئ ضخم الجسم ، طويل العنق         و ضخم الرقبة ، رقبته ممتلئة باللحم و الشحم ، متهدله إلى اسفل كأنها جرجر ديك الحبش ، أو كأنها زنمتا شاة الماعز ، و لذلك قال : ( سنسمه على الخرطوم ) لضخامته ، و لطوله ، و ضخامة رقبته لدرجة أنه لا يستطيع أن يدلي برآسة إلى اسفل فيظل مرفوعا في الهواء ، و لضخامة أنفه شبهه بالخرطوم ، وقال              ( سنسمه على الخرطوم ) عقوبة له ، و إدلالاً لكبريائه .

هذه هي كل القصة ، لا أكثر و لا أقل ، فالقرآن الكريم لا يعير الناس بأنسابهم ، و لا يطعن بأعراضهم و لا يشهر بهم ، و الله يستر الناس و يطلب منا الستر على الناس و يأمرنا بذلك ، و يثيبنا على ذلك ، فهل يعقل أن القرآن يقصد بالزنيم ابن الزنا ؟ أم كما قلت ؟ .

إن أقسى شتيمة وردت في القرآن الكريم ، في حق أسوأ و أشد من حارب الإسلام و آذى النبي و أهل بيته ، عمه أبي لهب : ( تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله و ما كسب * سيصلى نارا ذات لهب *           و أمرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد ) المسد (1-5) . هي : لعنت يداه ، أو كسرت يداه ، وهي : تحمل الحطب ، وفي جيدها حبل ، فقط . هذا هو خلق القرآن ، و ليس غير ذلك .

أما سبب تركهم لكل هذه المعاني ، و تمسكهم بالقول أن الزنيم : هو الدعي ابن البغاء المنسب إلى قوم             و ليس منهم ، فلسببين :

الأول : هو الطعن على هذه الأمة في أعز شيء ، و أجل شيء ، و أهم شيء تعتز به ، في عرضها .

فالآمة العربية هي الأمة الوحيدة في العالم التي تعتز بأنسابها، ونحن الأمة الوحيدة في العالم التي تذبح ابنتها إذا زنت ، ومنا أخذ المسلمون هذه الخصيصة ، كما يقول الدكتور أحمد الكبيسي 1.

ولهذا السبب كانوا يئدون بناتهم ، ولهذا السبب أيضا قامت حرب ذي قار مع الفرس المجوس .

فماذا تتوقع ممن يبيحون المتعة ، و يتعاطونها ، ويدعون إليها أتتوقع منهم أن يقولوا في حق هذه الأمة غير ذلك ؟ وماذا تراهم يفعلون إذا وجدوا فرصة للطعن فيها .

أما السبب الأخر في القول بالزنيم هو ابن الزنا, والدعي ومنسوب إلى القوم وليس منهم وهو الوليد بن المغيرة المخزومي:  فلأن الوليد هذا هو والد سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه و أرضاه، سيف الله المسلول، لا يكتفون بالطعن بالوليد, وإنما يتعدونه إلى سيدنا خالد كما فعلوا مع سيدنا عمرو بن العاص, ويأتون بحديث يخرجون فيه سيدنا خالد من الملة، ومن الجنة، ويدخلونه في النار، هو و أبناؤه (لا يدخل الجنة ابن الزنا, ولا ولده ولا ولد ولده).

        أتلاحظون أين يريدون الوصول؟ إلى رموز هذه الأمة، لتلويثها، والطعن فيها، والأساة إليها، ولكن من يطعن برسول الله e وبأمنا عائشة، وبأبي بكر، وبعمر، وبعثمان، رضي الله عنهم جميعاً، أيتهيب من الطعن في سيدنا خالد، وسيدنا عمرو بن العاص، وسيدنا معاوية، وغيرهم، وغيرهم؟  إنها الشعوبية الحاقدة.

[1] ـ إبراهيم 37.

[2] ـ قريش 4.

[3] ـ الأعراف 31.

[4] ـ عبد المجيد – ياسين – حميدي – محمد – حيو – ملي – عمار – حاج خليفة – عبد الغني – عبد الله – ويس – أحمد – عمر– إدريس – صالح – غانم – عثمان – رمضان – جابر – بركة – ويس الكبير – يوسف – عثمان – منصور – علاء الدين – محمد – إبراهيم – محمد – علي – إبراهيم المجاب – محمد العابد – موسى الكاظم – جعفر الصادق – محمد الباقر – علي زين العابدين   – الحسين بن علي – علي بن أبي طالب .

1 الميزان ج 30 ص 431 .

2 المصدر نفسه ج 30 ص 431 .

1 الكشاف مج 4 ص 143 .

2 لسان العرب ابن منظور ( مادة عتل )  مج 9 ص 30 .

1 عمدة الحفاظ للسمين ج 3 ص 1656 .

2 شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ج 2 ص 259 .

3 لسان العرب مج 6 ص 95 .

1 من محاضرات الدكتور أحمد الكبيسي في تلفاز أبي ظبي .

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى