مقالاتمقالات مختارة

سواكن العثمانية.. التاريخ المجهول (1)

بقلم وائل علي

حتى زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان قبل أشهر فإن كثيراً من السودانيين والعرب لم يسمعوا بمدينة سواكن السودانية رغم أهميتها التاريخية الكبرى في تاريخ المنطقة، ويرجع ذلك للحاجز اللغوي الذي جعلنا نجهل التاريخ العثماني الذي كتب باللغة العثمانية التركية القديمة، وما نعرفه عن هذا التاريخ ما هو إلا شذرات بسيطة نتلقاها من هنا ومن هناك من بعض كتابات المستشرقين والرحالة الأوروبيين والذين لم يكونوا ملتزمين بنقل التاريخ بشكل علمي، فكان ينقلون الإشاعات على أنها أخبار تاريخية موثقة ويدعون زيارة أماكن لم يزوروها.
وينبغي أيضا عدم تحميل الأوروبيين والمستشرقين لوحدهم مسؤولية جهلنا بتاريخنا فقد واجهت كتابة التاريخ في زمن الدولة العثمانية بالعربية مشكلة وهي مشكلة الحرية، فقد ساهمت الكونفيدالية التي أنشائها العباسيون في إعطاء شيء من الحرية لمفكرين وازدهار في صناعة الأدب والفنون وكتابة التاريخ، وتسببت المركزية الشديدة القابضة عند العثمانيين في تجنب المفكرين كتابة تاريخهم خوف اعتبار هذه الكتابة نوعاً من النقد أو تشكيكا في شرعية سلطتهم.

سواكن هي أحد كبار المتضررين من جهلنا باللغة العثمانية القديمة كون تاريخها وأخبارها ووثائقها يمتلئ بها الأرشيف العثماني خصوصا في الفترة بين القرن السادس عشر والسابع عشر والتي كانت تعتبر الفترة الذهبية لهذه المدينة، ثم الفترة التي تلت ذلك بدأت المدينة تفقد بريقها حتى صارت في يد الخديوية المصرية في منتصف القرن التاسع عشر بتفاهم بين السلطان عبد العزيز (خادم الحرمين الشريفين) وواليه في مصر الخديوي إسماعيل باشا عندما أنعم عليه بمنحه قائمقامية سواكن ومصوع إلى جانب منحه حق تعيين ابنه كخليفة له على عرش مصر دون أخيه مصطفى فاضل مقابل مضاعفة الجزية التي تدفعها مصر للسلطان.

في أواسط عهد القانوني ظهر البرتغاليون كقوة مؤثرة في البحر الأحمر عندما استطاعوا الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح وبناء مستعمرات ونقاط خطيرة على البحر الأحمر

دخل العثمانيون إلى سواكن في الفترة التي أعقبت فتح السلطان سليم لمصر حيث أن سواكن كانت في زمن المماليك خصوصا ما بعد 1256 م تحظى بما يشبه الحماية والانتداب المملوكي، فرغم أن سواكن لم تنضم فعليا للدولة المملوكية وظل يحكمها سلطان من أهلها إلا أنها فعليا كانت واقعة تحت نفوذ المماليك السياسي.

عندما دخل العثمانيون إلى سواكن وجدوا في هذه الجزيرة ميناءً نشيطاً فقد كانت السفن تأتي إليها من الهند والصين محملة بالبضائع والأقمشة والتوابل وترجع منها محملة بالذهب الذي كان يستخرج بكثافة في الحبشة، لم يحاول العثمانيون تغيير النظام الذي أعجبهم بل إنهم قاموا بتثبيت حكام سواكن في أماكنهم مكتفين بالحماية فقط، ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلا فقد لاحظ العثمانيون أن التجار نقلوا تجارتهم من جدة إلى سواكن هربا من الضرائب الباهظة التي كان يفرضها شريف مكة ما منح ميناء سواكن ازدهارا كبيراً، وتحظى سواكن في هذه الفترة في الأرشيف العثماني باهتمام كبير ما يعني أن الباب العالي كان يتابع باهتمام ازدهار هذا الميناء خصوصا أنه استطاع في خلال فترة وجيزة اجتذاب التجار الأجانب وخصوصا اليهود لدرجة أن كثيراً من تجار مكة اختاروا أن يهاجروا إلى سواكن ويتركون جدة وهؤلاء التجار هم ما سيعرفون في تاريخ سواكن بعد ذلك بالتجار الأشراف أو المكيين أو المكاوية.

لم يحكم السلطان سليم كثيراً، وفي أول عهد ابنه السلطان سليمان القانوني لم تكن جنوب الدولة أولوية كما هو حال شرقها مع الصفويين والحرب في الشمال مع الإمبراطور كارلوس الخامس إمبراطور الإمبراطورية المقدسة الذي حاصره سليمان القانوني في فيينا دون أن يتمكن من إسقاطها.

لكن الوضع تغير قليلا في أواسط عهد القانوني حيث ظهر البرتغاليون كقوة مؤثرة في البحر الأحمر عندما استطاعوا الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح وبناء مستعمرات ونقاط خطيرة على البحر الأحمر وقيامهم بمهاجمة سواحل الهند ما تطلب من السلطان سليمان القانوني إرسال حملة إلى اليمن بقيادة سليمان باشا الخادم للسيطرة عليها وإغلاق البحر الأحمر في وجه البرتغاليين، هذا ما ضاعف من الأهمية الاستراتيجية لسواكن عند العثمانيين حيث أنه حتى بعد السيطرة على اليمن، فقد تطلب الأمر من العثمانيين السيطرة على الضفة الأخرى من البحر الأحمر وطرد الوجود البرتغالي، وهو ما تم فعلا بالتعاون مع القائد الصومالي أحمد جوري الذي حقق انتصارات مهمة كادت أن تقضي تماما على إمبراطورية الحبشة لولا تدخل البرتغاليين أكثر من مرة لنجدتها من أن تسقط في يد الإمام أحمد جوري، وهو ما دفع العثمانيين أيضا للتدخل إلى جانبه ضد العثمانيين واستمرت الحرب الدموية من الطرفين الحبشي والصومالي حتى تم توقيع الصلح بين الطرفين الصومالي والإثيوبي بعد مقتل السلطان أحمد الأعسر وتولي ابنه السلطان نور الدين وانسحاب الأتراك والبرتغاليين.

كل هذا ما دفع البرتغاليين إلى الانتقام الكبير وهو مهاجمة سواكن العثمانية وتدميرها وهو ما تم عبر حملة برتغالية يقودها استافيو ديغاما نجل الملاح الشهير فاسكو دي جاما الأول من مارس عام 1541م، ومكث في سواكن لمدة أسبوعين ولم ينسحب منها قبل أن يوقع معاهدة صداقة مع حاكمها “الحدربي” ويأخذ عدد من السفن معبئة بالذهب والفضة ويقتل 50 جنديا عثمانيا من حامية سواكن في استفزاز واضح للأتراك.

وكتب استافيو دي غاما في مذكراته واصفا مدينة سواكن بأنها محطة تجارية هامة ومدينة غنية وأنها تشبه إلى حد كبير لشبونة عاصمة بلاده في مستوى المعيشة. وقد تسببت حملة استافيو دي غاما الناحية وعجز الدفاعات العثمانية من مواجهته بحالة من الصدمة وسط الأوساط العثمانية العليا ما دفع السلطان سليمان القانوني إلى إعلان إيالة الحبشة وإعلان الحرب بشكل صريح على إثيوبيا حليفة البرتغاليين وذلك بنصيحة من أوزدمير باشا الذي سيكون حقبة مهمة في تاريخ سواكن.

نواصل في حلقة قادمة ماذا بعد سواكن ما بعد تحولها من مجرد مدينة إلى ولاية عثمانية.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى