سنة الله سبحانه وتعالى في معجزات الأنبياء
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
تُختار المعجزة من بيئة القوم الذين يُرسَلُ الرسول إليهم، ومن نوع المشهور في عصرهم مما يتلاءم مع مستواهم الفكري، ورقيِّهم الحضاري، لتكون الحجةُ أقوى. وفي هذا الأمر سنن كثيرة يمكن أجمالها في النقط التالية:
أ ـ الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبةً لبيئة العرب الصحراوية، فمعجزةُ صالح عليه السلام كانت ناقةً غريبة المنشأ والمولد بين نوقِ أهل البادية قال تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ *وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [الشعراء : 153 ـ 156].
ب ـ وكان السحر منتشراً بين المصريين عامتهم وخاصتهم استرهبهم فرعون وجنوده به، فجاءت معجزات موسى عليه السلام من جنس المشهور بين قومه، فمن معجزاته الرئيسية: العصا: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ *} [الشعراء : 32]. واليد: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل : 12]. فظاهر هاتين المعجزتين لا يختلفُ عمّا كان متداولاً بين سحرة فرعون ولكنّ أهل الدرايةبالسحر كانوا يميِّزون بين السحر، وبين ما هو خارج قوى السحرة، بل من صنع الله، لذا كانوا أول المؤمنين به.
ج ـ وبعد عصر موسى عليه السلام انتشرت الفلسفة اليونانية وهي أساس الفلسفة الأوربية فيما بعد، وكانت تقوم على الأخذ بالأسباب والمسبِّبات، وتولُّد المعلول من العلة في انتظام قائمٍ لا يتخلّف، فجاءت معجزاتُ أنبياء بني إسرائيل في هذا العصر خارقةً للأسباب والمسبَّبات، لتثبتَ أنَّ الكونَ كلّه بإرادةِ مريدٍ مختارٍ لا ليفعل إلاّ ما يريدُ، ولا يصدر عنه بغير إرادته الثابتة شيءٌ.(أبو زهرة، 2008، ص437)
فمعجزات سليمان عليه السلام مثلاً جاءت مناهضةً لتلك النظرية التي تقول إنّ المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلّةِ من المعلول، فكانت حياةُ نبيّ الله سليمان في ملكه تجري على هدم هذا النظر، فمن معجزاته: تسخير الجن والطير له، وتعليمه منطق الطير والحيوان: {وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ *فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ *وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لأَعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ *} [النمل : 16 ـ 22]. تسخير الريح له: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ : 12].
د ـ وفي عصر اليونان ازدهر الطب والفلسفة المبنية على الأسباب أيضاً فكانت معجزاتُ عيسى عليه السلام من جنس ما اشتهر به هذا العصر.
* فكانت ولادته إبطالاً صارخاً لهذه النظرية، فإنّ المعتاد في حياة الكائنات الحية أنَّ المولود يولد من أبوين، فجاء عيسى عليه السلام من غير أب، فكان ذلك خرقاً للأسباب الطبيعية الجارية: {رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا *} [مريم : 17 ـ 22].
* وتحدُّثه في المهد حديث الحكماء: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا *} [مريم : 29 ـ 33].
* وتصويره من الطين كهيئة الطير ثم نفخه فيها فيكون طيراً بإذن الله: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائيِلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [ال عمران: 49].
هـ وقبل بعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بلغت الفصاحةُ والبلاغةُ وفنونُ القول شأواً بعيداً، وأخذت الكلمة مكاناً في نفوس العرب من التقديس والتعظيم لم يبلغه شيءٌ اخر، ممّا حدا بهم أن يُعلقوا المعلّقات السبع في جوف الكعبة، وإذا علمنا أنَّ الكعبة كانت تعتبر أقدسَ مكانٍ عند العرب في جاهليتهم أدركنا مكانةَ الكلمةِ في نفوسهم.
والحكمة الإلهية في اختيار المعجزة من جنس ما اشتهر بين القوم هي أنَّ الإنسانَ إذا أُتِيَ من قِبَلِ ما يعتبره مفخرته، ومجالَ إجادته واعتزازه تكون الحجّةُ عليه أقوى، والمعجِزُ أكثر فعلاً وأثراً.
ولتكون معجزةُ النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أشدَّ لمعاناً، وأسطعَ برهاناً، فقد جعل الله معجزته كتاباً متلواً معجزاً، وهو الإنسان الأمي الذي لم يَخُطَّ بيده كتاباً، ولم يتلقَّ من أحدٍ من البشر معرفةً.(مسلم، 2011، ص25).
مراجع البحث:
- علي محمد الصلابي، سلسلة أركان الإيمان، الإيمان بالرسل، دار المعرفة، بيروت، 1432ه-2011م صص255-257.
- مصطفي مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، دار المسلم للنشر والتوزيع، 1432ه-2011م.
- محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن، دار الفكر العربي، القاهرة، 1428ه-2008م