مقالات مختارة

سلمان بن فهد العودة.. كنت تستحقها

بقلم فرح أشباب

هناك أشخاص مختلفون عن الباقين وضع الله في قلوبهم قبسا من نوره وبثهم عبر القرون والأزمنة ليشقوا طريقهم وينشروا نوره أينما حلوا وارتحلوا، هم غالبا لم يتعمدوا ذلك، كل شيء فيهم عفوي وتلقائي مما يزيد من مصداقية مشاعرهم وشفافية قلوبهم وصفاء أصواتهم التي تخترق الجلد والعظم وترتد كصدى جميل يزهر في الكيان. هؤلاء الأشخاص عادة ما يشقون طريقهم بعد ضيق وتيه ومعاناة ثقيلة كأنها القربان الذي يقدمونه للحياة لتجعلهم بتلك الصلابة والعزيمة.

مرض طويل المدة، سجن، موت قريب، فراق الأحبة وغيرها من مظاهر الفقد سواء أكان فقدا للحرية أو الكرامة أو الصحة أو فلذة الكبد أو رفيق الدرب أو غيرها من المحن التي ترمي بالإنسان إلى دوامة التساؤلات الوجودية من قبيل “لماذا حدث كل هذا ولماذا أنا بالتحديد وماهي الحكمة وراءه؟

أسئلة محيرة ومستعصية تكسر أشخاصا وتبني صروحا شاهقة من العزيمة عند أشخاص آخرين لا يكلون من البناء سواء أكان بناء الأفكار أو الأعمال الصالحة أو أي شيء في استطاعته أن يغير ويضيف شيئا إيجابيا إلى عالمنا القابع في الرداءة أملا منهم في التغيير.

الدكتور سلمان فهد العودة، ذلك الستيني بسيط الهيئة، نحيل الجسم، عميق العينين وحزين النظرة وكأن عينيه تحملان همّ كل من لديه همّ. رجل ما إن يسترسل في الحديث حتى تغير كلماته كل الأفكار المسبقة التي كونتها عنه وعن هشاشته التي تظهر بالعين المجردة. رجل دفع من عمره خمس سنين في زنزانة بسبب معارضته لنظام لم يوافق على أفكاره وأسسه التي يظن أنها يجب أن تراجع وتصحح وتقلب كالتربة التي تستلزم الكثير من القلب كي تستعيد خصوبتها. توفي ابنه وهو قابع خلف القضبان وحيدا تغرقه العتمة ورحمة الله تنسكب في قلبه الملح بالدعاء الصابر على القرح، المنتشي بالفرح ليفقد زوجته وابنه منذ أيام في حادث مروري. لو سألته عن حاله لقال “المؤمن مصاب” واسترسل في الحديث عن الموت وقال أنها ليست فراقا أبديا بل عبور من مكان إلى آخر.

“حين رحلتِ يا هيا السياري أدركت أنني لا أستحقك” هكذا نعى الدكتور نصفه الآخر الذي رحل عنه بكثير من الألم الذي لن يفهمه إلا من تلظى في نار الفقد، فقد الشخص الذي جعل من اللا معنى، تلك التي أكل من يدها ولبس على ذوقها ونام على كتفها وأنجب منها البنين والبنات. تلك التي صبرت على سجنه وحزنه وعزلته وصمته وتقلباته.

الحب الحقيقي هو عندما يحس أحد الطرفين أنه لا يستحق الآخر، هكذا قالوا. ليأتي الفراق ويؤجج ناره وتبدو الدنيا كئيبة دون ذلك النصف أو الكل الذي امتزج بكله فأعطى شيئا جميلا جدا يسكن السنين والذاكرة.

لم أسمع لشيخ قبل ولم أتابع برامج الدعاة على القنوات الفضائية قط، اكتشفت في يوم في الغربة بالصدفة مقطعا للدكتور سلمان العودة بعنوان وسم “حين أرحل”، لأشاهد بعدها كل المقاطع #وسم التي لا تتعدى أربع دقائق.

كنت أجلس على مقعد تحت شجرة في الحي الجامعي لجامعة نانجينغ الصينية، كان المكان حزينا زاد من كآبته الجو البارد الذي لم يأذن بعد لا بسقوط حبات المطر ولا بانبعاث أشعة الشمس. نزلت كلماته علي كالرحمة، صوته الذي يوحي بالأمان، أفكاره التي يناقشها بهدوء وقوة في نفس الوقت، إيمانه الراسخ الذي يبدو جليا عليه، خطابه الذي يتكلم مع العقل والجوارح بعيدا عن أساليب الترهيب والتهديد.

ذاك المجهول الذي لا يمكن أن يكون انبثق من العدم في ذلك الزمكان وأنا حزينة بعيدة عن وطني وأهلي بعشرات آلاف الكيلومترات ليعيد لي شيئا أفقدني الزمان إياه، من اليقين الراسخ والعزيمة والإرادة والصبر على الفقد والأمل الذي كان ألما فيما قبل.

وكأن القدر أعطى ملكة التغيير للغرباء فقط، الذين يظهرون على حين غفلة من الزمن، يغيرون الكثير في لمحة بصر ثم يذهبون ليتركوا عاصفة من التساؤلات التي تلد تساؤلات وهكذا دواليك.

كانت تلك هي الفترة الوحيدة التي شاهدت فيها مقاطع الدكتور سلمان التي كانت كفيلة بفعل الكثير. ليأتي الموت ويخطف زوجته وابنه. لم أجد ما أعزيه به غير كلماته التي سمعتها منه ذات يوم عن الموت والفقد والصبر. لن نعلمك سيدي ما علمته إيانا ذات يوم. كل ما أريد إضافته هو أنكم كُنتُم تستحقون الراحلة هيا السياري وكانت تستحقم.

إلى ملتقى في حضن الرحمن.

(مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى