مقالاتمقالات مختارة

سلمان العودة.. محاولات التغييب لا تزيدك إلا حضوراً

سلمان العودة.. محاولات التغييب لا تزيدك إلا حضوراً

بقلم حسام رمضان 

“المؤمن يدعو وهو بعافية وفي باله أنه يقع في البلاء غداً أو بعده، كغريق يتخبطه الموج”

سلمان العودة

عادة تصبح الحكمة هي “المرء على ما تعود”، ولكن عندما نجد تجارب الحياة ومحطاتها لا تؤثر على الشخص بصورة تقلل من دوره وبذله في شأنها. فهذا في واقعنا نقيض الحكمة، وقتها نستطيع أن نقول الرحلة كما تعودت والحياة على ما أصبحت، هذا في شخص العودة، ليس العكس كما في أشخاص كثيرين.

هو الشيخ سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، المعروف بكونه الداعية، والمفكر الإسلامي ومقدم البرامج التليفزيونية، والذي مال أسلوبه إلى أسلوب الرجل الذي بلغ من الكبر عتيا؛ فيقدم ويكتب بالتجربة والتحليل بشكل لا ينافسه فيه أحد، ولا حتى من علماء الأمة المحدثين. حتى إذا ما سألتني عمن يشبه.. أجيبك بأنه واحد فقط، وهو الشيخ الدكتور طارق السويدان، ولكن لا يزال لكل تجربته وواقعه وإن اتفقا على المحتوى اللذان يقدما، ويكأن حال ألسنة برامجهم اجتمع حول هذه العبارة آتية هي الليالي لنقضيها ونستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء ومن ثم يفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء.

في مايو 1991، كان العودة وسفر الحوالي وعائض القرني وناصر العمر من بين الموقعين على خطاب المطالب الذي شمل المطالبة بإصلاحات قانونية وإدارية واجتماعية وإعلامية تحت إطار إسلامي؛ حيث كان سلمان العودة أحد المشايخ الذين شكّل نقدهم الشديد للتعاون مع الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية بداية بروزهم. وفي سبتمبر 1993 مُنع سلمان العودة وسفر الحوالي من إلقاء الخطب والمحاضرات العامة، وفي 16 أغسطس 1994 اعتقل العودة ضمن سلسلة اعتقالات واسعة شملت رموز الصحوة وقضى بضعة أشهر من فترة اعتقاله في الحجز الانفرادي في سجن الحائر. وأطلق سراح العودة في أبريل 1999 حيث السماح له بإقامة المحاضرات الدعوية بعيداً عن السياسة.

وفي مساء يوم الجمعة الموافق 15 مارس 2013، وجّه العودة خطابًا مفتوحًا للنظام السعودي، وخصوصًا وزارة الداخلية، مطالبًا بأن يتم إطلاق سراح معتقلي الرأي، وامتصاص الغضب الشعبي المتعاظم فيما يتعلق بملف المعتقلين، درءًا لخطر الفتنة، وقد استخدم أسلوب حوارٍ هادئ وناصح في خطابه هذا، كما شهد بذلك كثيرٌ من علماء الدين والحقوقيين.

محاولات العودة الإصلاحية السابقة جعلته ضمن قائمة على متنها أسماء كثيرين من علماء وشيوخ الأمة يأتي في أبرزهم الشيخ المنجد وآخرون، فقد تم اعتقال الشيخ مرة أخرى في حملة اعتقالات سياسية من طرف السلطات السعودية يوم 10 سبتمبر 2017 بعد نشره تغريدة على حسابه بموقع تويتر يدعو فيها الله للتأليف بين قلوب ولاة الأمور لما فيه خير الشعوب؛ حيث كتب فيها: “ربنا لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم”، وحيث يأتي في الغريب أن الحكومة السعودية لم تفصح عن مكان اعتقال العودة أو بشيء عن قضيته، وبعد بضعة أشهر من اعتقاله تدهورت حالته الصحية وتم نقله إلى مستشفى بمدينة جدة.

الشيخ الدكتور سلمان العودة لقي كثيرا من المحن التي ارتبطت به شخصيا وبأسرته، كما إنها أثرت بشكل كبير على لسان حاله؛ فارتبطت كثيرا بأعماله الأدبية وبخاصة الشعرية منها

حقيقة الأمر أن حكم الإعدام الذي صدر بحق العودة ليس بشأن 37 قضية جنائية، بل أنه ارتبط بشأن ملايين القضايا الإنسانية والعربية في عموم الأمة، قضايا العقول والقلوب، ملايين العقول التي نفذ إليها بقلبه، والملايين من القلوب التي نفذ إليها ببصيرة عقله، ولطالما وجد حضورهما القارئ العربي في أعماله من الكتب مجتمعين في نبض قلم أو في البرامج التليفزيونية مجتمعين نافذين إلى عقله وقلبه.

من المعروف أن الشيخ الدكتور سلمان العودة لقي كثيرا من المحن التي ارتبطت به شخصيا وبأسرته، كما إنها أثرت بشكل كبير على لسان حاله؛ فارتبطت كثيرا بأعماله الأدبية وبخاصة الشعرية منها، ويظهر في رثاءه ابنه “عبد الرحمن” الذي توفاه المولى أثر حادث السيارة التي كانت عائدة به من موسم الحج في عام 2001 “تقريبا”، حيث كان الرثاء من خلف القضبان فلم يسمحوا له بحضور دفنه أو رؤيته، حيث يحكي أنه استيقظ في صباح يوم الحادث التالي على تلقاء صوته لينادي على من يناوله القلم، فاختطت من لدن وأعماق مشاعره التي ملأها الحزن، مما جعل حال سامعيه لا يقل سوءا عن حزن الشيخ نفسه أو أشد حزنا، فيقول:

تمنيت لو تغني الأماني نظرة .. إلى جسد ذاو يغرغر بالسدر
تمنيت حتى وقفة عند نعشه .. ترد إلى نفسي الذي ضاع من صبري
تمنيت ما نالت ألوف توجهت .. إلى ربها صلت عليك مع العصر
تمنيت كفا من تراب أحثها .. على قبرك الميمون طيب من القبر

يلاحق الحزن آخرا بمرور السنوات هي في ذاكرة العودة لا تكاد لحظات، ففي 25 يناير 2017 حادث سير لم تنجُ منه الزوجة والأبن “هشام”، فيظهر العودة مغردا راثيا، فيكتب: “هيا السياري، حين رحلتِ أدركت أني لا أستحقك. اللهم في ضيافتك وجوارك”. بينما في مقطع شريطي ما لبثت دموعه الصادقة أن انهمرت في قلوب عشرات الملايين من المسلمين في طول الأرض وعرضها، وما ذلك إلا لشعورهم بصدقه، ومحبتهم له في آن.

أمثال العودة لا يُغيّبهم شيء، بل ثمة نوع من التغييب لا يزيدهم إلا حضوراً في وعي الجماهير، بات لسانَ حال العودة لسانُ حالِ كل من حل به أي بلاء، لسانُ حالِ قصيدته “يابني لا تقصص وجعك على إخوتك”؛ فالمتألمون يتناغمون قصصهم وأوجاعهم ومحطات حياتهم القاسية بين أمواج فعلين؛ أولهما ناقص عن قوة الاحتمال، وثانيهما ناقص عن لذة النسيان يتوسطهما استفهام يحمل مرارة الاستذكار.. من “كان” إلى “صار” مرورا ب “أين وقت أن كانت أين لا تحمل كل هذا الألم!”، بات لسانَ حالهم لسانُ حال نبوءته ” ألا أيها المستبشرون بقتلهم.. أطلت عليكم غمة لا تفرج”. عش حياتك بقلب سليم يحب الخير للمسلمين وللناس أجمعين”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى