مقالات مختارة

سلمان العودة.. ماذا علمني الشيخ السجين؟

سلمان العودة.. ماذا علمني الشيخ السجين؟

بقلم سياف مصطفى

يمر الإنسان في حياته أحياناً بمنعطفات واختبارات، يحتاج في تلك اللحظات لقوة تثبته، أو مرشد يبين له بعض معالم الطريق، يقف بجانبه يأخذ بيده، منه يتعلم أن للنجاح أسرار، وأن المستحيل يتحقق بالثبات، وأن الأفكار الملهمة تحتاج لغرس، خاصة ممن خبر دروب الحياة وصقلته التجارب. في خضم الفتن وكثرة الابتلاء يجد الإنسان في قصص الصالحين والصابرين سلوى، في تواضعهم دفعاً لكبر النفس وإلزاماً لها لتعرف حدها، في صبرهم عبرة لتعيد للقلب تمسكه بالحق الذي يحمله، في جهادهم دفعاً للخوف من النفس وربطاً عليها. فمن يمر على سيرهم منذ العهد الأول مروراً بعهد التابعين ومن تبعهم، يجد في تلك السير ما يجدد في النفس العزم والثبات على المبدأ.

يكون عِظَم التأثر بعمق المعرفة في تلك السِيَر، أو بقرب حدوثها، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم لها وقع في النفوس لعظم صاحبها صلوات ربي وسلامه عليه. وكذلك سير الصحابة رضوان الله عليهم، فهم الأسوة والقدوة، لكن أحياناً يكون ذلك الشخص الملهم والذي يقتطف الإنسان منه ثمار المعرفة والدرر قريب العهد يشهد المرء لحظات حياته، وصبره وتضحياته. شخصية تأثرتُ بها، تابعتُها كثيراً، رأيت فيها صدق القول مع بيان ذلك بالفعل، وهو ما يجعل التعلق بليغاً حين ترى من الشخص تطبيقاً لما يقول فلا تخالف أفعاله أقواله، وكما قال الأول: وإِذا بحثْتَ عن التقيِّ وجدتـهُ.. رجلاً يصدقُ قولهُ بفعالِ. تلك الشخصية التي رأيت منها تواضعاً عميقاً وصبراً جميلاً وتطبيقاً عملياً لما ينشر على صفحات الكتب، هو فضيلة الشيخ د. سلمان بن فهد العودة، الملهم في كتاباته، صاحب النبرة المميزة في كلماته، لا تكفي كلمات مقال في نثر ما يميزه ويعلي من قدره، وسأحاول أن أنثر في هذه الكلمات بعضاً مما تعلمته من سيرته ومسيرته في دعوته.

علمني العودة أن الداعية الحق ينبغي أن يتواضع للناس بقدر ما عنده من علم وفقه، كنت أسمع كثيراً عن تواضعه الذي يحكيه طلبة العلم والدعاة عنه، وكما قيل ليس من رأى كمن سمع. ثم قدر الله أن كتب للشيخ زيارة للسودان ضمن برنامج دعوي قامت به إحدى المؤسسات، وكان ضمن ما تقوم به تلك المؤسسة أن يهيأ للزائر مركباً معيناً فكان اعتراض الشيخ على تلك الطريقة واصفاً إياها بأنها قد تبني في نفس المرء كبراً. مرت الأيام وكل يوم يعكس تواضع الشيخ، يجلس مع الكبير والصغير، يوقفه الشباب لأخذ الصور فلا يرفض لهم طلباً مع ابتسامة على الوجه يعر الناظر إليها أن فعله ذلك عن رضاً تام ومحبة كاملة. علمني العودة أن العالم العامل أولى الناس بالصبر عند الملمات، وأن الصبر يزيد المرء رفعة في الدرجات، يذكر بين الناس بالفضل وعند رب الأرض والسموات. يسمع المرء كثيراً من الدعاة والمصلحين حديثاً عن الصبر، ينقل بعضهم قصصاً للصالحين من الصحابة والتابعين كلها تحكي عن خصلة الصبر التي قل أن يجسدها الشخص حين تقع المصيبة عليه. جسد الشيخ سلمان العودة خصلة الصبر واقعاً مشاهداً سمعت قصته مع ابنه عبد الرحمن الذي توفي في حادث كان وقتها الشيخ سجيناً، فذكر الشيخ كيف أنه تلقى خبر وفاة ابنه الذي لم يره منذ مدة، وكتب في ذلك أبياته الشهيرة.

وداعاً حبيـبي لا لـــــقاء إلى الحـشر

وإن كان في قلبي عليك لظى الجمرِ

صبرت لأني لــــــم أجــد لي مخلصاً

إليك وما من حيلة لــــي سوى الصبر

تـراءاك عيني في السرير مـــــوسداً

على وجهك المكدود أوسمة الطهر

بـراءة عينيك استـــــثارت مشاعري

وفاضت بأنهار من الدمع في شعري

إلى آخر ما ذكره في تلك الأبيات، التي يتسلى بها كل مكلوم، وكل مصاب، وبعد سنين من تلك الحادثة إذا بالشيخ يفجع في زوجته (هيا السياري) وابنه (هشام) في حادث كذلك. حادث أخذ منه شريكة حياته التي أحبها وأعلن ذلك الحب بين الناس، حادث راح معه فلذة كبده وأغلى ما يملك المرء – ابنه – فاجعة مثل هذه تذهب عقل المرء وفؤاده، لكن كان الشيخ فيها عنواناً للصبر، نشر في تغريدة خبر وفاتها معزيا نفسه وأهله، ثم كتب متحدثا عنها وعن ابنه هشام، واستقبل بعد ذلك المعزين في صبر مسلماً لأمر القدر الذي كتبه الله عليه. علمني العودة أن محبة الناس ينبغي أن تظهر في التعامل معهم، فكلمة أحبك في الله ينبغي أن تكون حباً حقيقياً، نوالي من أجلها أولياء الله ننصرهم إذا استنصرونا، ننصح لهم إذا استنصحونا، نتألم لألمهم إذا أصيبوا، ونفرح لفرحهم إذا بالخيرات أغدقوا. تلك هي المحبة الحق، فعلاً وقولاً. علمني العودة أن المرأة تعامل بشيء من العطف والحنان، وأن وصية النبي صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيرا) ينبغي أن تكون نصب الأعين، كان اهتمامه بها ظاهراً في كتاباته، في تعامله مع بناته وزوجته، يصرح بحبهن والعطف عليهن، ضرب بذلك مثالاً في تعامل الأبن الحاني والزوج المحب. قرأت له كتاب “بناتي” فكان نبراساً ومنهجاً للتعامل مع البنات، وضع فيه بعض النقاط على الحروف التي يجهلها كثيراً من الآباء في تعاملهم مع البنات خاصة في فترة المراهقة.

علمني العودة أن الداعية ينبغي أن يجتهد في ايصال الحق للناس بكل سبيل، وأن يسلك في ذلك كل طريق، وأن المجتهد في طلب الحق يدركه، وأن المخلص في دعوته تفتح له أبوابها وييسر له سبيلها. أذكر أن الشيخ كان من أوائل الذين ظهروا على شاشات التلفاز يوم أن كان يدور حوله لغط ويحكم بعضهم على ذلك بالحرمة، تقدم الشيخ بثقة ودخل في أوساط المجتمع فكان له الأثر. ثم ما أن ظهرت وسائل التواصل كان الشيخ من المقدمين عليها المشاركين للشباب فيها، يبادلهم المحبة، يشاركهم الهموم، يطرح الأفكار، يناقش المعتقدات، فكان قريباً منهم لذلك ظهر تأثر الكثيرين به وتفاعلهم الواضح معه. وما زلت أذكر مقاطعه الشهيرة (وَسْم) التي كان الناس ينتظرون نزولها على قناته على اليوتيوب لمشاهدتها لأنها لامست واقعهم وعالجت كثيرا من قضاياهم.  علمني العودة أن الوقت ثمرة المؤمن، يغتنمه في نفع الناس وإصلاح نفسه، يلاحظ ذلك في كتاباته واهتماه بشأن الوقت والكلام عنه. استثمر وقته في التأليف والكتابة، والنشر والتسجيل، نفع الله به وتداول الناس مخطوطاته، في إحدى الجلسات حكى عن سجنه الذي دام خمس سنوات وكيف أنه أستثمر ذلك في القراءة والحفظ والمدارسة، فجعل من المحنة منحة، ومن السجن مكاناً للعلم والتحصيل، فما ضاع وقته في الندب والتحسر.

علمني العودة أن كلمة الحق تقال على كل حال، في الشدة والرخاء، حال الاختيار أو الإكراه، وأعظمها تلك التي تكون عند سلطان جائر كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المبادئ لابد أن تكون راسخة لا يزعزعها إرهاب ظالم ولا إغراءات فاجر وأن المرء قد يمتحن في ثباته على المبادئ والتوفيق أن يبقى عليها. وكان الشيخ كذلك ثبته الله وزمرة من إخوانه فوقفوا في وجه الظلم، رفضوا خذلان إخوانهم رغم التهديد والوعيد لسان حالهم كما قال يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، فضربوا بذلك أروع الأمثلة في الصدع بالحق، وبينوا أن رابط الدين أقوى من رابط العشيرة والوطن والنسب. بينوا أن القدوة ما ينبغي أن يلتزم الصمت وقت الأزمات بل لا بد أن تكون له كلمته، مبينا للحق. في محنة الأشقاء التي وصلت حد القطيعة والحصار، رفع الشيخ أكف الضراعة ودعا “ربنا لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم” فلم يسلم من تأويل المتربصين فكانت العاقبة أن زج به في السجن. كان حريصاً على جمع الشمل والإصلاح بين الفرقاء، نسأل الله أن يفرج همه وأن يعجل فرجه وأن يجعل ما أصابه كفارة للذنوب والخطايا وأن يجمعه بأهله سالماً غانماً. فــــرج الله عن الشيخ الذي قال بالحـق وللحق كتب، نحسب الشيخ صدوقاً صادقاً، قـال لله ولله احتــسب.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى