مقالاتمقالات مختارة

سلمان العودة.. كما نعرفه!

سلمان العودة.. كما نعرفه!

بقلم د. عبدالله العودة

في كل أحواله هو إنسان بسيط واضح مباشر، ليس لديه ما يخفيه، ولا ما يهمس به. وفي كل أحواله طغت عليه بساطة وعفوية جرت عليها سليقته، وصقلها برغبته واختياره، فهو يقول عن نفسه دائماً بأنه “الطفل” الذي يمارس طفولته في كل مراحله حتى ولو كَبُرَ عمرُه، ولذلك قرّر أن يجعل عنوان سيرته الذاتية: “طفولة قلب”.

وحينما كنتُ أقرأ في شعر العقّاد مرّة، فوقعتُ على بيت لطيف وجدته يعبّر عن هذا المعنى، عرضتُه عليه فأعجبه فصار يقوله في مناسبات عدة، فكان بيت العقاد يقول:

أكْبِروا شأني، ولكن دَلِّلوا … فِيَّ طفلاً خالداً لا يكبُرُ

وحينما انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي، قرر أن يدخلها بكل ثقله و طفولته وبراءته، فكل أحد يعرف عنه كل شيء: رحلاته، علاقاته، صفاته، مواطن الاتفاق والاختلاف، فهو يصوّر ويدوّن كل شيء.

لذلك، على الذين يريدون أن يفتروا عليه، وأن يتّهموه بأي شيء أن يبذلوا جهوداً خارقة لكي تنطلي على أي أحد، فحساباته واضحة، ونصائحه منشورة، وكتبه مطبوعة، ومقاطعه المرئية يشاهدها الملايين، فكيف يمكن يا ترى أن تقول عنه شيئاً لا يعرفه الناس أو تقول عنه شيئاً لبث مجمل حياته يقول ويرسّخ ما هو ضده؟ ستبدو مضحكاً أكثر من أي شيء آخر!

ومنذ بواكير نشاطه العلمي والثقافي، وبقدر اتساع دائرة تأثيره وشعبيته، بقي أناسٌ في كل مرّة ينتقدونه أو حتى قد يهاجمونه، فهو يقول:

عداتي لهم فضــلٌ عليّ ومنّةٌ … فلا أبعــد الرحمـــن عنّي الأعاديا

همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها … وهم نافسوني فاكتسبتُ المعاليا

ثُم قرّر أن يتودد حتى إلى خصومه ويشكرهم، فكتب كتابه “شكراً أيها الأعداء”، وهو يحاول امتثال قول الله تعالى “ولا تستوي الحسنةولا السيئة ادفع بالتي هي أحسنفإذا الذي بينك وبينه عداوةكأنه ولي حميم”، ومع ذلك يقول بأن خصومه يدلّونه على أخطائه وعثراته، فهو كائن حيّ يتغيّر ويتطوّر، ولو كان يقول وهو في الستين ما كان يقوله تماماً في الثلاثين من عمره فهذا يعني أنه أضاع ثلاثين سنة من عمره سدىً.

في البيت نتحلق حوله، فيتحدث شيئاً ويستمع أشياءَ، ويسأل ويناقش، فربما اقتنص اقتراحاً من أختي، أو فكرة من أخي، أو كلمة من شخص، أو مبادرة من آخر فدعمها وتبنّاها، فإذا أراد الإعداد لبرنامج أو مقال أو كتاب أو مادة، جلس وبدأ يسأل حتى كأنه هو المتعلم البسيط، فيأخذ لوحه “دفتره” ودواته “قلمه” فيدوّن ما يسمع، ويكتب ما يعجبه، ويناقش حتى كأنه لا يعرف، ويستمع كأنه لم يسمع من قبل، فيتذوق جميل الأدب، ويلتمس عذب الحديث والقصة، ويوظّف كل ذلك فيما يريد أن يقوله وينتجه.

حينما يسافر، ينظر إلى الأشياء بدهشة من لم يسافر قط، فنسمعه كثيراً ما يقول: “هذا أجمل شيء”، و”هذا أغرب شيء رأيته” و”هذا ألطف مكان نجلس فيه”، وهكذا؛ فهو يحب كل ما يرى ويتذوق أجمل شيء في كل مكان أو طعام أو مناسبة؛ حتى لتشعر أنه لم يرحل قطّ، ولم يرَ شيئاً من قبل. عوّدنا أن نعيش اللحظة، ونستمتع بها، ونرى الفأل والجمال في كل شيء فلله ألطاف في كل شيء.

لذلك، ينام دائماً في كل مكان يريد، فقط يتكئ على شيء ويضع رأسه ثم ينام:

أنام ملء جفوني عن شواردها … ويسهر “القوم” جرّاها ويختصمُ

شكوتُ له مرّة أني أنام سريعاً، فقد أشرب فنجان القهوة وأنام ، حتى إني لأنام وأنا أشربها، فضحك وقال: “وأنا أبوك .. أنام في وسط فنجان القهوة!”. فهو ينام حيث حلّ به المقام، يعلّمنا ألا نضمر لأحد حقداً ولا ضغينة، وندع الخلق لله.

أذكر قصة قريبة؛ حيث كنّا ذات يوم في مجلسه فذكر أحدهم اسم رجلٍ كان يسخّر نفسه للشتيمة والتحريض المباشر عليه والدعوة لقمعه، فشتم أحد الجالسين هذا الرجل المحرّض، فنهره الوالد وقال: “ليس في مجلسي، ولن يكون لديّ وقت للشتيمة؛ فالحياة أقصر من هذا”.

هنا علّمنا أن نقضي الوقت فيما نريد لا فيما يفرضه الآخرون، وأن نكون حيث نحب أن نكتب ونعمل ونقول، لا حيثما يحدّد الخصوم بتحريضهم وافترائهم وحملاتهم؛ الحياة بالفعل أقصر.

كلما كَبُر عرف مقدار صِغَره أكثر وتعلّم أن يبتلع كبرياءه الموهومة، وأن يتحمل المسؤولية، وأن يعتذر لمن يحبّهم، ويقرر أن يتعلم اللوم، وأن يعلّمه، فالله يقسم بهذه: “النفس اللوامة”.

حينما ازداد سِنّه، ازدادت طفولته الجميلة تألقاً، فكبُرت طفولته، وكَبُر أمله الذي لا ينقطع، وتحوّلت يداه إلى أجنحة، وصار يغرّد، وبلغ في الحريّة أشدّه وبلغ ستين سنة!

حينها دعا ربّه أن يزيده عبودية له، وحرّية من خلقه؛ فهو يتمثّل دعاء الأنبياء:

“رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين”.

(المصدر: تيي آر تي TRT العربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى