مقالاتمقالات مختارة

سلطة المنهج في الحركة النبوية 1/2

سلطة المنهج في الحركة النبوية 1/2

بقلم التهامي مجوري 

هذا العنوان هو جزء من عنوان لكتاب أصدره الأستاذ الدكتور الطيب برغوث “سلطة المنهج في الحركة النبوية” منذ سنة 2019. وأصل هذا الكتاب محاضرة نوى الأستاذ المشاركة بها في ندوة علمية أقامها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتنسيق مع وزارة الأوقاف الكويتية حول مناهج التغيير: بعنوان “الأبعاد المنهجية للفعل الدعوي في الحرمة النبوية”، ثم بدا له تغيير عنوان المحاضرة لتتحول إلى كتاب بإضافات جديدة عليها اقتضتها طبيعة الموضوع ككتاب وليس كمداخلة مقتضبة، والتعبير عن مضمون العنوان الجديد، مستثمرا في ذلك جهد أربعين سنة في الدراسة والتحليل للوحي بشقيه الكتاب والسنة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث استنفذ طاقات كبرى في أطروحتي: الماجيستير والدكتوراه اللتين كان موضوعهما “المنهج النبوي في منجزات الدعوة وحمايتها” في العهدين المكي والمدني.

ومن ثم تمكن من اكتشاف الفعل الدعوي في منظومة متكاملة التناغم بين أطرافها مبادئ ووسائل وغايات، وأجزاء وكليات، ومادة وروح، وأفراد وجماعات، ليصل في النهاية إلى أن هذا المنهج له سلطة لا تسمح لمن لا يحترمها بالتجاوز؛ بل أكثر من ذلك فإن هذا الفهم انتقل به من دراسة السيرة النبوية كما هو متداول بيننا، بالبحث عن الأحكام الفقهية والأداب والمواقف السياسية والعسكرية، إلى رحابة الاستخلاف والرسالية التي تمثل القاعدة في الابتلاء والتكليف الإلهي للبشرية جمعاء (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة 30]، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه 123-124] بحيث تمثل فيها حركة النبي محمد صلى الله عليه حلقة من حلقاتها في التفاعل مع الكون والحياة والغيب، ولذلك كانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على مستوى الوحي تمثل خلاصة التجربة النبوية عبر العصور “مَثَ إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ” [الدرر السنية: البخاري عن أبي هريرة رقم 3535]،

وعلى المستوى الإنساني تمثل الإتماما والإكمال ” إنما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ” [الدرر السنية: الهيثمي، مجمع الزوائد 8/191 رجاله رجال الصحيح، عن أبي هريرة].

ويضاف إلى ذلك العمل العلمي الأكاديمي المتميز، تجربة هامة اكتسبها خلال ممارسته الحركية التطبيقية للفعل الدعوي في الجزائر، بنفس القدر من السنين أو أكثر، تنظيرا وتطبيقا في أوعية دعوية اشتغل بها أو شارك في نشاطاتها، إلى أن وفقه الله مع ثلة من إخوانه ومحبيه إلى إنشاء مؤسسة فكرية ثقافية باسم “الأكاديمية السننية للتجديد الحضاري”، بعد التجربة السابقة التي كانت من ضحايا الازمة السياسية التي مرت بها الجزائر خلال التسعينيات، والتي هي “الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري” التي أسست من قبل مجموعة من الدعاة الجزائريين ومنهم الأستاذ الطيب للتعبير عن تيار دعوي تميز بخطه الإصلاحي الحضاري، الذي يعتبر أول مبادرة في الإحياء الإسلامي بالجزائر بعد الاستقلال، وقد كلن رئيسا لهذه الجمعية لفترة وجيزة لتتعرض بعد ذلك لآلة الإقصاء التي طالت الحراك الوطني الصادق، فأجهضت على تجربة وطنية إسلامية في مهدها، كان يمكن أن تكون نبراس هداية للمجتمع والأمة ولم لا الإنسانية.

فالسيرة النبوية ليست مجرد أحداث نتبرك ببعضها، أو نستخرج أحكاما فقهية تعبدية ومعاملاتية من بعضها الآخر، أو نستنتج آدابا عامة بغرض الاقتداء والتأسي، أو نفهم فهما إعجازيا معبرا عن صدق رسالة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، وإنما هي “فعل دعوي منهجي أصيل وفعال وتكاملي ومطرد” [سلطة المنهج 40]، وبالتالي فهي منهج مستمد من طبيعة الخلق التي خلق الله عليها الكون المبني على سنن وقوانين لا تحترم من لا يحترمها، ولا تعترف بإرادة أحد إلا وهي مشروطة بموافقة سنن الله الذي بنى وأحكم البنيان.

والنبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه خاتم النبيين ورسالته هي الرسالة الخاتمة، لم يعتبر نفسه مؤسسا لفعله الدعوي من فراغ، أو مستأنفا لنشاط غير مسبوق بالكلية، وإنما كانت تنبيهاته كما هي تنبيهات القرآن أيضا أنه مسبوق بجهود كبيرة جاء ليكملها ويضيف عليها ما ينقصها؛ لأنه بالأساس مطالب بتتبع سير السابقين من إخوانه،  (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ) [النعام 89-90]، وبمراعاة قانون الوجود والنظام الكوني وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية 13]، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت 20]، (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل 5-8]. وعليه فسيرة النبي كما استقرأها الأستاذ الطيب هي تطبيقات لمنهج اجتهد في تتبع سننهه وقوانينه ليضعها بين أيد القراء الكرام، اجتهادا منه في تلمس الجديد والفعال في خطابنا الإسلامي، منطلقا من تساؤل منطقي وموضوعي، لماذا نجح النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مجتمع في أقل من ربع قرن، ولم تنجح الحركة الإسلامية في تحقيق ذلك في ظل جهود ضخمة دفع فيها الغالي والنفيس خلال قرنين من الزمان؟ رغم أن القرآن هو القرآن، والسنة هي السنة، والعلماء في إخلاصهم وتفانيهم هم العلماء؛ بل ربما وجدت نماذج في الإيثار والتضحية قلما يجود الزمان بمثلها…، ومع ذلك لم تنجح الأمة، أو قل لم تحقق المقدار الذي يستأهله الجهد المبذول والإخلاص الذي يتمتع به بعض نخب الأمة.

وراح يتتبع الاختلالات التي عاشتها الأمة في مسيرتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والمعرفية، انطلاقا من النموذج الذي استخرجه من الحركة النبوية المباركة، وأهم هذه الإختلالات التي وقف عليها، هي الكيفية التي تعاملت بها الأمة مع الوحي والواقع، بحيث أضحت نسخا مشوهة للأقوام السابقة في داخل الإطار وخارجه، في جل تعاملاتها مع واقعها ومرجعياتها المتوارثة…، فتشبهت في بعض أنشطتها بأهل الكتاب في جانب أو جوانب، وتشبهت بالمشركين في جوانب أخرى، كما تأثرت بمدارس كثيرة من الثقافات الشرقية، وبعضها استسلم للثقافات الجديدة الغالبة بقضها وقضيضها.

ففي الوقت الذي كان ينبغي على الناشط في العمل الإسلامي أن يكون له عقلا نقديا ومصفاة لما يقرأ ويدرس ويمارس، كما تلقى الشيخ ابن باديس توجيه شيخه النخلي رحمهما الله، “اجعل قعلك مصفاة لما تقٍأ”، تحول المسلم في قوله وفعل وسلوكه إلى ماكينة استهلاكية لما أنتج الغير الداخلي والخارجي، وآلة استنساخ لما قيل وما سمع من قبل، بما في ذلك فكرة التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم…، ليتحول بعد ذلك المجتمع المسلم إلى بناء قاعدة معرفية –رغما عنه بسبب غياب المنهج-، مبناها على التجزئة، والإنتقائية، والذوقية.

وعندما تكون حركة أمة مبنية على عزل الأقوال والأفعال الجزئية عن أسرها الكلية التي تنتمي إليها، أو تكون أقوالا وأفعالا منتقاة لتحقيق غرض مسبق، أو أقوالا أفعالا مستندها الذوق وما تشتهي النفس، تتحول المنظومة الثقافية والإجتماعية والمعرفية إلى كتلة من النتائج الخاطئة المتراكمة، وإلى نماذج قاصرة لا تستجيب لمتطلبات الحياة وفق المنظومة المنهجية الكلية، ولعل هذا من أهم أسباب  التنافر بين التيارات المحافظ فيما بنها وفيما بينها وبين التيارات المنبهرة بطروحات الغرب.

على أن غياب المنهج، والتعامل مع الواقع بالصفة المذكورة: التجزئة، والانتقاء، والتذوق، المعزولة عن أطرها الطبيعية التي نشأت وترعرعت فيها ولها علاقة رحم بها، مؤداه حتما إلى التنازع بين الفئات؛ لأن تلك الصفات تحمل بصماتها متفرقة، وليست مثل المنهج الذي يحمل بصمة الجماعة، التي لا محيد لها عنه، وهي الجماعة البشرية وليس مذاهبها ومدارسها الثقافية والفكرية، وشرائعها التعبدية، ولذلك نجد أن الاختلاف بين الناس والفئات تتسع رقعه بقدر ما يبتعد عن المنهج، وتتقلص مساحاته بقدر ما يجنح الإنسان إلى الكليات المنهجية…، ثم إن الاختلاف نفسه عندما يكون له منطلق منهجي، لا يُعتبر اختلافا بالمعنى الصحيح؛ لأن مبرراته قائمة وتبقى، أما الاختلاف المبني على التجزئة والإنتقاء والذوق فحسب، فيحمل بصمات أفراده وفئاته، والفكرة التي تحمل بصمة صاحبها أو أصحابها بخصائص معينة غير موضوعية، تتحول إلى فكرة طائفية جزئية تحكم على الأصول، مثلما وقع مع الخوارج والشيعة الذين انطلقوا من أحكام الإمام وجعلوا فيصلا بينهم وبين غيرهم، وكذلك التيارات التجزيئية السنية التي انطلقت من جزئيات فقهية وجعلتها حكما على قضايا كلية، مثل الحرص على تطبيق سنة تعبدية مثلا على حساب الأخوة في الدين، أو بناء الولاء المطلق على الجزئيات الفقهية وحرمان المخالف منه، مثل هجران المبتدع ومقاطعته، رغم ان البدعة نفسها مستويات دنيا وعليا، والتعامل بموقف واحد معها لا يليق.

يتبع

(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى