سلسلة كتب مختصرة | كتاب (مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني – الحلقة الأخيرة)
وقائع الكفاح في الفترة (1947- 1948)
عندما أعيد تأليف الهيئة العربية العليا لفلسطين عام 1946 كانت استعدادات اليهود العسكرية تنذر بشدة الخطر، وتوالت عليهم الأسلحة والذخيرة، غير آلاف اليهود المدربين في الكثير من الدول الأجنبية، وكانت سياسة الإنجليز نحو الفلسطينيين عكس ذلك، فقد كانت باكورة أعمالهم منذ احتلال فلسطين 1917- 1918 جمع السلاح منهم، وحظر حيازته عليهم، وتنفيذ الحكم بالإعدام على عدد كبير من الفلسطينيين لحيازتهم السلاح.
ورغم ذلك سعى الفلسطينيون للحصول على السلاح ما استطاعوا إليه سبيلاً، لكن وسائلهم ومواردهم المالية كانت محدودة ولا تقاس بما كان لليهود من وسائل.
ورغم ذلك استطاع الفلسطينيون في جميع ثوراتهم طوال عهد الانتداب أن يصمدوا في وجه القوات البريطانية والقوات اليهودية المسلحة، بل ويتغلبوا على اليهود في ثورتهم عام 1947_1948 في كثير من المواقع، ويكبدوهم خسائر فادحة، حتى دخول الجيوش العربية في فلسطين 15 أيار 1948 وقيامها بعزل القوات الفلسطينية عن ميدان المعركة، وحرمانهم من المال والسلاح وسائر وسائل الكفاح.
سعت الهيئة العربية للحصول على السلاح والعتاد والأجهزة العسكرية، وعملت على إعداد المجاهدين الفلسطينيين وتدريبهم وتنظيم تشكيلاتهم، وألفت جيش الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وقد سبق لعدد منهم أن قاموا بدورات عسكرية في ألمانيا والعراق.
وأعدت قيادة (الجهاد المقدس) بمعاونة عدد من ضباط سوريين ومصريين وعراقيين برنامجًا دقيقًا، واختارت الأهداف التي ستنفذ فيها عمليات الجهاد فبلغت 3600 هدف، وقد نفذ قسم من برنامج الأهداف في منطقة القدس مثل نسف دار الوكالة اليهودية، ونفذت عمليات في مناطق أخرى مثل يافا، والمنطقة الشمالية.
ولو لم تنخدع بعض الجهات الرسمية العربية بوعود المستعمرين وتقوم بعرقلة جهودهم لتمكن المجاهدون من تنفيذ برنامجهم، وتحقيق سائر أهدافهم.
عمت فلسطين موجة عارمة من الحماس والاندفاع للقتال وأخذت المعارك تتوالى بين الفلسطينيين وأعدائهم، وبدت كفة العرب راجحة في أواخر عام 1947 والشهور الأولى من 1948.
لما رأى الإنجليز تلك الانتصارات خشوا من تفاقم حرب العصابات أن يحبط مخططهم الرامي إلى القضاء على عروبة فلسطين، فبادروا بتقديم مذكرة إلى السلطات العربية الرسمية اعترضوا فيها على تسليح الفلسطينيين وتدريبهم، وزعموا أن الفلسطينيين يقتلون اليهود بقسوة ودون رحمة، وتابع الإنجليز اعتراضهم وضغطهم على الحكومات العربية حتى حملوها على تبديل الخطة العسكرية التي تقررت مسبقًا، وعلى إدخال جيوشها إلى فلسطين.
ولم تلبث بعد ذلك أن ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة، ومنع الأسلحة والأموال عنهم، بل ومهاجمة قوات الجنرال جلوب لقوة الجهاد المقدس في منطقة رام الله وتشتيتها، والاستيلاء على سلاحها وعتادها.
ورغم سياسة الإقصاء والحرمان ظلت قوات الجهاد المقدس تقوم بأعمال رائعة منذ 1947 إلى ما بعد انسحاب القوات المصرية من قطاع الخليل _ بيت لحم، وانسحاب القوات العراقية من قطاع جنين _ طولكرم.
التواطؤ البريطاني الأمريكي ودور مجلس الأمن
لما قررت الحكومة البريطانية وقف الإدارة المدنية في فلسطين وتصفيتها من بداية مارس 1948، واتخذت شكل حكومة عسكرية، وأصبح المندوب السامي حاكمًا عسكريًّا، شرع الإنجليز حينئذ ينسحبون من المناطق اليهودية متخلين عن إدارتها لليهود، وسرعان ما بادرت الوكالة اليهودية بوضع اليد على تلك المناطق متخذة لنفسها صفة حكومة يهودية.
ساعد هذا الموقف اليهود على اتخاذ مواقف مماثلة في اقتراف المذابح والفظائع في المدن التي يسكنها عرب ويهود، وزاد الموقف خطورة ما أعلنته السلطات البريطانية من أن كل تدخل عسكري قبل 15 مايو وهو اليوم الذي حددته لانسحابها من فلسطين ستقابله بالقوة، وأنها ستظل مسؤولة عن النظام والأمن حتى ذلك التاريخ، لكن الواقع كان خلاف ذلك؛ إذ أخذت السلطات البريطانية في المدن العربية المختلفة تخلي الأحياء العربية وتترك أهلها فريسة للاعتداءات اليهودية.
طوال تلك الفترة لم تفعل الدول العربية شيئًا يعتد به من حيث زيادة استعدادها العسكري، وتقوية طاقاتها القتالية للتصدي للأحداث المقبلة على المستوى الذي تتطلبه خطورة قضية فلسطين، واندفاع اليهودية العالمية في دعم المطامع الصهيونية.
بعد مذبحة حيفا الرهيبة التي قام بها اليهود إثر سقوط المدينة في أيديهم في 23/4/ 1948 وما سبقها من مذابح مثل دير ياسين وغيرها، أخذ بعض الناس يغادرون بيوتهم ومساكنهم إلى بلدان عربية مجاورة، ورافقت ذلك دعاية استعمارية وصهيونية واسعة تحض الناس على هجرة مؤقتة إلى البلاد المجاورة ريثما تصل الجيوش العربية إلى فلسطين، فتصد المعتدين وتعيد المهاجرين إلى منازلهم آمنين كما وعد المسؤلين من حكام الدول العربية وقادتها حينئذ في خطبهم وتصريحاتهم.
وكان من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات العربية أن فتحت بلادها لتسهيل هجرة الفلسطينيين إليها، ولما كنا شديدي الحرص على بقاء الفلسطينيبن في بلادهم مهما كانت الظروف واشتدت الأخطار فقد بادرت الهيئة العربية العليا لفلسطين بنشر بيان في فبراير 1948 يدعو الشعب الفلسطيني للبقاء في بلاده، وأن لا يجلو عنها لأي سبب، وأن يدافع عنها حتى النفس الأخير.
وفي 18 أيار 1948 سقطت عكا في يد اليهود بعد صمود رهيب، ورغم قلة عدد المجاهدين حوالي 150 مقابل 2500 من اليهود إلا أنهم ثبتوا طويلاً حتى تمكن العدو بمصفحاته وآلياته من دخول المدينة.
وبعد ذلك توالى سقوط باقي المدن مثل الناصرة وطبرية وصفد وغيرها، وأخذت القوات المدافعة عنها تنسحب بعيدًا تاركة إياها لليهود الذين قاموا فيها بأبشع مجازر راح ضحيتها الآلاف.
كانت الحرب النفسية هي أسوأ ما يواجهنا؛ فالصهيونيون في حرب 48 لم يكونوا يملكون سلاحًا ثقيلاً ولا طائرات حربية، وكل ما كان لديهم قليل من طائرات مدنية للتدريب، وكانوا في بعض الظروف يلقون بعض القنابل اليدوية باليد من الطائرات المدنية، وكان لدى بعض الدول العربية كمصر والعراق قوات جوية بقيادة طيارين عرب، وحين قصفت الطائرات المصرية بعض الأهداف العسكرية في ميناء تل أبيب أوقعت الذعر والهلع في نفوس سكانها، وفر عدد كبير منهم يقدر بعشرات الألوف إلى أماكن بعيدة.
وقد تدخل الإنجليز والأمريكيون منذ اليوم الأول محتجين على قصف الطائرات المصرية لإسرائيل التي لا تملك طائرات حربية، وطالبوا الدول العربية أن تكون مهمة جيوشها بوليسية لا حربية، وكان الجيش البريطاني حينئذ مؤلفًا من نحو 100 ألف جندي يتربصون في قناة السويس.
حين سقطت صفد في أيدي اليهود ظل اليهود مندهشين وغير مصدقين من أن العرب انسحبوا من صفد، إذ كانت لديهم أسلحة وذخائر تمكنهم من متابعة القتال.
حتى حين حاولت قوة أردنية دخول المدينة وتقديم الدعم جاءتها الأوامر من عمان بالانسحاب وعدم الدخول.
(المصدر: مجلة كلمة حق)