الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الوالد البركة عماد الإسلام الفقيه يحيى بن علي المعلمي
حفظه الله وعافاه ورزقني بره ورضاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجوا والدي قبل كل شيء العفو والمسامحة، وأن لايحرمني ما عودنيه من دعواته الصالحة، فإن رضاه عني ودعاه لي هو رأس مالي في الدنيا، ولولاه لكنت نسيًا منسيًّا، وإن -والعياذ بالله- انقطع عني رُدِدتُ إلى أسفل سافلين.
وكم موطن لولاه طِحْتُ كما انهوى بأجرامه مــــــــــــن قُنَّةِ النِّيقِ منهوي([1])
أعوذ بالله من سوء العاقبة، ومن الحور بعد الكور!.
المكاتبة لم أقطعها ولاينبغي لي أن أقطعها، ولم أزل بين حين وآخر أكتب المكاتيب وأرسلها، وقبل أن يجيء الولد أحمد([2]) كانت مضت فترة مثل هذه كتبت فيها عدة كتب، ولم يصلني جواب، حتى وصل الولد أحمد، وعقب وصوله كتبت المكاتيب وأرسلتها!.
وهكذا كتبت عدة كتب، كلما استبطأت الجواب كتبت، حتى جزمت بأن كتبي لا تصل إليكم، فارتبت في الوسائط، فكتبت من طريق آخر، ولم يصل جواب أيضًا، فاعتورتني الشكوك!.
فتارة أقول: لعل الحكومة تمنع الكتب؛ لوهمٍ من الأوهام، أو: لعل واقعة مُخَوِّفَةً قد وقعت! أو: لعل والدي -والعياذ بالله – غير راضٍ عني.
وأخيرًا كتبت كتاباً باسم الأخ الشيخ أحمد بن مصلح الريمي([3])، وفي طيّه كتاب لوالدي، وأرسلتها بواسطة غير الوسائط المتقدمة، وعسى أن يكون وصل!.
وكان في النية أن أسافر إلى عدن؛ لأجل أُكاتب من هناك، ولكن السفر يحتاج إلى مصروف فوق الطاقة.
بعد أن وقعت الريبة في الوسائط لم أَجْسرْ على إرسال شيء غير المكاتيب، وأقول في نفسي: عسى أن يصل الجواب قريبًا، وتطمئن النفس إلى بعض الوسائط، وعلى كل حال فما أبرئ نفسي، وأنى لي البراءة؟!.
بل من المفروض عليَّ أن أترك كل شيء وأُبادر إلى زيارة والدي والفوز بخدمته، ولكن إيماني أضعف من ذلك، مع أني أُعلل نفسي بأن والدي راضٍ ببقائي هاهنا، ولا أدري إذا عزت على الوصول إليه أأتمكن من الوصول أم لا؟!.
أما ولدي عبدالله([4]) فهو وأبوه وأمه لكم الفداء!.
وقد شق عليَّ جدًّا قولكم: (أشفق إلى والدك كما تشفق على ولدك)، ولكن لكم الحق في ذلك؛ فإن مرور هذه المدة الطويلة بدون أن يصلكم كتابٌ مني كافٍ للإيقاع في الشك والارتياب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الولد أحمد بن محمد بخير والحمد لله، وقد كنتُ عرَّفتكم في مكاتبتي السابقة:
أولاً: بأنه وصل، وشرع في طلب العلم.
وثانيًا: بأنه يصلح عليَّ بأن أزوجه.
وثالثًا: بأن الله تعالى يسر له ببركة دعائكم وظيفة، يأخذ منها نحو ثلاثين إلى أربعين ريالاً في الشهر.
ورابعًا: بأنه تزوج.
وهو بحمد الله تعالى في حالة تحصل الراحة والطمأنينة بأقل منها، ولكن طبيعته لا تزال تنغص عليه عيشه! وتكدر عليه حاله! وذلك أمرٌ يصعب أو يتعذر علاجه! وعلى كل حال فلاتنسوه من الدعاء.
الأخ أحمد([5]) في محلِّه الأول، وهو -بحمد الله تعالى- ثم ببركة دعائكم بخير، وقد تزوج، ووُلِدَ له بنتٌ، ثم ولدٌ، وهو دائمًا يكاتبني ويتأسف لانقطاع مكاتبتكم.
الولد أحمد لم يبلغني عنكم بحمد الله تعالى إلا كل خير، ولو فرضنا أنه بلَّغني غير ذلك فلم يكن مثل هذا الأمر الهين ليحملني أن أُوقِعَ نفسي في الهلاك القطعي والشقاء الأبدي، فأتعمد قطيعة والدي، ولم تبلغ قلة عقلي وضعف إيماني إلى هذا الحد، ولا إلى أقل منه، بل أقول: إنه لا يُتصور أن يقع مثله من إنسان، ولو كان من عبدة الأوثان.
الأخ أحمد بن مصلح الريمي بلغوه عني السلام، وجزاه الله تعالى خيرًا، والدراهم التي يُطالب بها ستصله بعد هذا -إن شاء الله تعالى- فإني قد كتبت إلى جماعة من عدن، أبحث عن رَجُلٍ ثقة، يكون بينه وبين (الخادم أحمد غالب وجيه) معاملة ومراسلة؛ لأجل أن تكون المكاتبة والمراسلة بواسطة، فإن الأخ الفاضل محمد بن سليمان المعلمي عرَّفني أن تكون المراسلة بواسطة الخادم المذكور، وأرجو أن يُيسر الله تعالى واسطة معتبرة، لا تحكون كالوسائط الأولى!.
هنيئًا للكريمة عطية([6]) هي والله خيرنا، وأفضلنا، وأسعدنا، رزقها الله هذه السعادة العظيمة، خدمة والدها، عند عجزه، وتقصير بقية أولاده!.
الأخ عبدالمجيد([7]) أرجو أن يكون قد صرف الله تعالى عنه كيد الشيطان ووسوسته، ورجع إلى ما تحبون، وعلى كل حال فهو لا يزال مستقبلٌ للدنيا، فاعذروه، وارفقوا به.
زوجتي([8]) أصابها مرض صعب، بحث زال عقلها، وصارت في حالة جنون مطبق، وبقيت كذلك نحو سبعة أشهر، تعبتُ في أثنائها تعبًا شديدًا، ولا سيما بالخسارة والمداواة!.
فإن الطب ههنا منتشر، وبعض الأدوية غالية جدًّا، والأطباء يطالبون بأجرة فاحشة، وبفضل الله تعالى، ثم ببركة دعائكم عافاها الله، وهي الآن بعافية.
اجعلوا أكثر دعائكم للمسلمين، فإن هذا العصر عصر اضطراب، إذا وفق الله المسلمين لمراجعة دينهم وجمع كلمتهم، والجد في صلاح شأنهم، رجعوا إلى عِزٍّ ونجدة، وخير في دينهم ودنياهم، وإن بقوا على تقصيرهم واختلافهم فيما بينهم ففي ذلك غاية الخطر عليهم([9]).
إن من دعائي كل يوم هذا:
(اللهم اغفر لوالدي وارحمه، وتغمده برحمتك، وأصلح شأنه، ويسر رزقه، وسهل أمره، وأصلح شأنه، في دينه ودنياه، وارزقني بره وصلته ورضاه، واجمع بيني وبينه في مستقر رحمتك، بدون سبق عذاب، وارزقني وإياه في الدنيا ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأُولانا وأُخرانا، وعاقبة أمورنا، وسائر أمورنا، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين).
ثم أدعو كذلك للوالدة وللأخ محمد، والأخت فاطمة -رحمهم الله-، ولغيرهم ثم أقول: (اللهم أصلح المسلمين، ووفقهم، واهدهم، وأعنهم، ووفقهم لاتباع دينك والعمل بكتابك وسنة نبيك، وأصلح لهم دينهم ودنياهم، واعمر لهم دينهم ودنياهم، ووفقهم لصلاح دينهم ودنياهم، وعمارة دينهم ودنياهم، واجمع كلمتهم، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وأيدهم على عدوهم، فيصبحوا ظاهرين، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين).
الأخ الفاضل محمد بن سليمان المعلمي جزاه الله تعالى خيرًا، كتب إليَّ مع كتابكم، وذكر لي وفاة زوجته الكريمة ميمونة -رحمها الله-، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وشرح لي بعض الأمور، وقد كتبت إليه الجواب مع هذا.
فضلاً اقرأوا سلامي على الإخوان والأصدقاء، والتمسوا لي الدعاء منهم، ولا سيما الكريمة عطية، الفائزة بسعادة خدمتكم، ليتني كنت معها، وعسى أن يكون لي من رضاكم ودعائكم بعض العِوَض.
الولد أحمد، والولد عبدالله، وأمه يقرؤونكم السلام، ويسألون الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر عقب وصول كتابكم بعد عصر يوم الاثنين
(8/جمادى الأولى/1358)([10])
ولدكم عبدالرحمن
التوقيع
* * *
([1]) بيت من قصيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي -(م:105) تقريبًا- يعاتب أخاه، أوردها غير واحد، منهم سيبويه في الكتاب (2/374)، والفالي في الأمالي (1/68)، وهو في بعض المصادر: قُلَّةُ النيق.. وقُنَّةُ الجبل وقُلَّتُه: أعلاه، والنِّيقُ: الطويل من الجبال. وهو في مصادري: لولاي.. واستعاض الإمام بالهاء؛ ليستوي السياق.
([2]) هو ابن أخيه الأكبر محمد بن يحيى المعلمي، الذي تولى تعليمه ورعايته في بداية طلبه للعلم، حينما كان محمدًا كاتبًا في المحكمة الشرعية بـ (تربة ذبحان) بمحافظة (تعز)، وقد توفي بها سنة (1340هـ)، والإمام مقيم عند الإدريسي وقد نعاه في خطبة هناك قال فيها: (وإنه قد بلغني ما قضاه الله تعالى من وفاة سيدي الأخ الفاضل العالم العامل عز الإسلام: محمد بن يحيى…)، فرعاية الشيخ لابن أخيه من رد الجميل، ولا غرو، فالإنسان الكريم صنيعة الإحسان.
([3]) أحمد بن مصلح بن علي بن سعيد بن إبراهيم بن ناصر الريمي، عالم فاضل، وفقيه فرضي، ولد بـ (عزلة بلاد الريمي) مخلاف (حِمْيَر الوسط)، مديرية (عتمة) محافظة (ذمار) سنة (1313هـ)، وتعلم عند بعض فقهاء بلدته ثم رحل إلى بلدة (قفلة عذر)، محافظة عَمْرَان، (شمال صنعاء) فدرس على العلامة علي بن محمد الخباني، والعلامة محمد المقدمي، والقاضي حسين بن محمد العرشي، والعلامة يحيى بن علي الذاري، وفي سنة (1337هـ) رحل مع الإمام المعلمي إلى بلدة (صبيان)، من بلاد (المخلاف السليماني)، ثم عاد إلى بلده (عتمة)، ثم رحل إلى مدينة (تعز) للعلاج، فتوفي هناك سنة (1381هـ) رحمه الله.
([4]) ولد في الهند سنة (1351هـ)، وتعلم هناك، وفي باكستان، ثم قدم إلى مكة عند أبيه، ثم توظف بجدة، وليس للإمام سواه، وقد توفي، ولم يعقب، فيما أخبرني الشيخ محمد بن أحمد المعلمي -رحمه الله-.
([5]) أحمد بن يحيى بن علي المعلمي، (م: 1412هـ)، سافر في ريعان شبابه، لا يُعرف له جهة، ثم اتضح بعدة أمَّة أنه مقيم إندونيسيا، وقد كانت الصلة بينه وبين الإمام وثيقة حميمة، أربت رسائله إليه على خمسة عشر رسالة، يقول الإمام في إحداها: (… أنت مني وأنا منك، وليس على وجه الأرض بعد سيدي الوالد -حفظه الله تعالى- من يسرني سروره أزيد منك، ولا أعلم لك ذنبًا).
([6]) أخته من أبيه توفيت سنة (1375هـ).
([7]) توفي سنة (1415هـ) والكيد المشار إليه: الانصراف إلى الدنيا، وضعف القيام بشؤون والده، كما سيأتي في الرسالة الثالثة.
([8]) تزوجها -رحمه الله- في الهند ولم يتزوج بغيرها حتى مات، وقد أقعدها مرض مزمن أعاقها عن القيام بمصالحها فضلاً عن غيرها، وأجرى لها رحلته إلى مكة ما يقوم بمعاشها حتى توفيت هناك، في تاريخ غير معروف، أفادني بذلك تلميذاه الفاضلان محمد وعبدالرحمن ابني أحمد بن محمد المعلمي -رحمهما الله-.
([9]) لكأني بالإمام -رحمه الله- ينظر من سدف الغيب إلى ما نزل بأمة الإسلام من مصائب جسام، وظلمات عظام، تعاون عليها شياطين الغرب وأذنابهم من أبناء الجلدة، ولن تتبدد سحبها إلا بمراجعة صادقة لمنهاج النبوة، أصلح الله أحوال المسلمين وردهم إليه ردًّا جميلاً.
([10]) وفرغت من نسخها يوم الثلاثاء السادس عشر من ذي القعدة لعام ثمانية وثلاثين بعد الأربعمائة والألف للهجرة (16/11/1438ه) والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلوات الله المتتابعات على سيد الكائنات مادامت الأرض والسماوات.
(المصدر: حساب تويتر الأستاذ أحمد بن غانم الأسدي الباحث في السيرة النبوية والتاريخ اليمني)