سلسلة الفكر السياسي الإسلامي.. السلطة التشريعية في الفكر السياسي الإسلامي
بقلم د. قصي الزين
وهي السُلْطَة المؤلَّفـة من صفـوة علمـاء الشريعة المجتهـدين، وهي المكلفـة باستخلاص الأحكام الشرعية من مصادرها، والتعريف بها ووَضْعها لدى الدولة موضِع التنفيذ، وهي المنوط بها الإشراف على السلطات الأخرى فيما يتعلق بتنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها، والمعهود إليها مع بقية أهل الشورى ومع سائر أهل الحل والعقد، بالرقابة على الحكومة ومحاسبتها.
فهي السُلْطَة المسؤولة إلى جانب مراقبتها للحكومة، عن وضع القوانين الملزِمة التي لا يسع أحدًا تجاوزها.
والكلمة المقابلة للقانون في الإسلام هي كلمة الشرع، ولكن شتان بين اللفظين وما يشتمل عليه كلٌّ منهما، فإذا كان القانون هو القواعد والأنظمة والأحكام والمبادئ التي وضعها الإِنْسَان لينظم بها حياته السِيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة والاقْتِصَادِيَّة وغيرها، فإن الشرع قانون بهذا المعنى ولكنه يمتاز عن القانون بأنه من صنع الله لا من صنع البشر، ومن ثَمَّ فإن الشرع لا يعتـريه ما قد يعتري القوانين من الخلل والاضطراب والنقص، والقوانين لا يتسنى لها أن تبلغ من الإحكام والكمال ما قد بلغه الشرع.
إذن فهي تختص بتشريع القوانين والأنظمة ووضع القواعد العامة التى تنظم مختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فمن هم الذين يحق لهم أن يمثلوا السلطة التشريعية؟
إذا نظرنا إلى السُلْطَة التَّشْرِيعيَّة في عصر الخلفاء الراشدين ومن تلاهم، نجد أنهم لم يكتسبوا هذه السُلْطَة بتعيين الخليفة ولا بانتخاب الأمة لهم، وإنما اكتسبوها بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها.
فالسُلْطَة التَّشْرِيعيَّة في الإسلام لا تخرج عن دائرة علماء الشريعة المجتهدين، وهم علماء الشريعة الذين استجمعوا شروط الاجتهاد التي من أهمها: أن يكون عالمًا بطرق الدلالة ووجوها، والخصوص والعموم، والمجمَل والمفسَّر الصريح، والفحوى وغيرها من الأصول، وأن يكون عالمًا بالآيات المتعلقة بالأحكام من كتاب الله تعالى، وأن يحيط بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فالذي يميز النظام الإِسْلَامِيّ أن ممثلي الأمة في القيام بوظيفة التَّشْرِيع هم المجتهدون، أي: العلماء الذين يُعترَف لهم بالوصـول إلى مرتبـة الاجتهـاد، وأن سـلطانهم التَّشْرِيعي لا يتعدى علـى سـيادة الشـرع، لأنهـم لا يصنعون القوانين وإنما يستمدونها من الشرع.
والتَّشْرِيع الإِسْلَامِيّ تشريع شامل محيط بكل ما يتعلق بالإِنْسَان.
فلا يشرع للفرد دون الأسرة ولا للأسرة دون المجتمع، ولا للمجتمع منعزلاً عن غيره من المجتمعات، وبيان ذلك كالآتي:
إن تشريع الإسلام يَشمل التَّشْرِيع للفرد في تعبده وصلته بربه، وهذا ما يفصله قسم «العبادات» في الفقه الإِسْلَامِيّ، وهو ما لا يوجد في التَّشْرِيعات الوضعية.
ويشمل التَّشْرِيع للفرد في سلوكه الخاص والعام، وهذا يشمل ما يسمى «الحلال والحرام» أو «الحظر والإباحة».
ويشمل التَّشْرِيع ما يتعلق بأحوال الأسرة من زواج وطلاق ونفقات ورضاع وميراث، وولاية على النفس والمال ونحوهما.
ويشمل التَّشْرِيع للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وما يتصل بتبادل الأموال والمنافع، بعوض أو بغير عوض، من البيوع والإجارات، والقروض والمداينات، والرهن، والحوالة، والكفالة، والضمان، وغيرها.
ويشمل التَّشْرِيع ما يتصل بالجرائم وعقوباتها المقدرة شرعًا، كالحدود والقصاص، والمتروكة لتقدير أهل الشأن كالتعزير.
ويشمل التَّشْرِيع الإِسْلَامِيّ ما يتعلق بواجب الحكام نحو المحكومين، وواجب المحكومين نحو الحكام، وتنظيم الصلة بين الطرفين، مما عنيت به كتب السِّيَاسَة الشرعية والخراج، والأحكام السلطانية في الفقه الإِسْلَامِيّ.
ويشمل التَّشْرِيع الإِسْلَامِيّ ما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب، بين المُسْلِمين وغيرهم، مما عنيت به كتب السير أو الجهاد في فقهنا الإِسْلَامِيّ.
ومن هنا لا توجد ناحية من نواحي الحياة إلا دخل فيها التَّشْرِيع الإِسْلَامِيّ آمرًا أو ناهيًا أو مخيرًا.
أما عملها فإن السلطة التشريعية هي المكلفة شرعًا، بالقيام بعملية التشريع.
وعملها التشريعي لا يعدو أمرين: أما بالنسبة إلى ما فيه نص فعملهم تفهُّم النص وبيان الحكم الذي يدل عليه، وأما بالنسبة إلى ما لا نص فيه فعملهم قياسه على ما فيه نص واستنباط حكمه بواسطة الاجتهاد، مراعين القواعد والمقاصد الشرعية التي تمثل كليات الشريعة، والتثبت باستقراء النصوص من الوحيين.
فالسلطة التشريعية عندما تقوم بالتشريع فإنها لا تنشئ الأحكام إنشاءً، ولا تبتدؤها ابتداءً، وإنما تستمدها وتستخلصها وتستخرجها من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من غيرهما، وبذلك وضع النظام الإسلامي حدًا فاصلاً بين أمرين لا يصح أن يلتبسا وهما: السيادة والسلطان، فالسيادة لله والسلطان للأمة، السيادة لشرع الله، والسلطان للمجتهدين من الأمة الذين يقومون باستنباط الأحكام والإعلام بها.
إن موقف التشريع الإسلامي وروعته من قضايا كثيرة، أثبتت الدراسات المقارنة، وأثبت الاستقراء التاريخي والواقعي فضل الإسلام فيه، وتفوقه على كل تشريع سابق أو لاحق.
إذ إن عيب البشر الذي هو من لوازم ذواتهم المحدودة أنهم ينظرون إلى الأمور والأشياء من جانب واحد، غافلين عن جانب أو أكثر من جوانبها الأخرى، والحقيقة أنه لا ذنب لهم في هذا القصور ولا حيلة، لأن النظرة المحيطة الشاملة، التي تستوعب الشيء من جميع جوانبه، وتعرف كل احتياجاته، وتدرك كل احتمالاته وتوقعاته، لا يقدر عليها إلا رب البشر وخالق الكون، قال عز وجل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
(المصدر: ساسة بوست)