سلاح المقهورين.. كيف حمت مواقع التواصل الاجتماعي حرية التعبير؟
بقلم خليل الناجي
تابعنا جميعنا بكامل الاهتمام قضية اغتيال الصحفي السعودي خاشقجي، وتابعنا أيضًا ردود الفعل الرسمية للدولة السعودية بخصوص القضية، انطلاقًا من الاستنكار والإنكار، ثُم التحول بعد ذلك إلى الاعتراف بمقتل الرجل دون إعلان المسؤولية عن ذلك. حسنًا، فلنضع قضية خاشقجي جانبًا، ولننظر إلى الصورة الأكبر، أو لننظر إلى ما وراء قضية خاشقجي، القضية التي تختزل وراءها أمورًا عديدةً أخرى.
خاشقجي اليوم، لم يعد مجرد صحفي تعرض للقتل في إحدى السفارات، بل أضحى رمزًا لمقاومة التضييق على حرية الصحافة، وشهيدًا لقضية التعبير عن الرأي. ولو فكرنا في الأمر مليًا، كم سنجد، في نظركم، من خاشقجيين آخرين تم التضييق على حريتهم في الكتابة؟ سواء عن طريق التهديد، أو عن طريق المضايقات في المنابر الإعلامية، أو المنع من النشر، أو في حالات أخرى أفضل، تقديم إغراءَات مالية، أو في حالات أخرى أسوأ، السجن أو التعذيب أو القتل، أو كل ذلك مجتمعًا دفعة واحدة!
تعيش العديد من الدول العربية اليوم تحت وطأة سياسات تدبيرية غير ناجحة، ونلاحظ في العديد من الحالات أصواتًا تعلوا مطالِبة بهبوب ريح التغيير، أو على الأقل، بتحرك نسيم الإصلاح. بل الأكثر من هذا، لقد أعطت وسائل التواصل الاجتماعي للعديد من الأشخاص متنفسًا ومساحة للتعبير عن آرائهم، بعد أن كانت كتابة الرأي حصرًا على بعض الأشخاص الذين يجعلون منها حرفتهم. مكنت وسائل التواصل الاجتماعي هاذا الطفل، والشاب، والمتعلم الذي يمتلك شواهد جامعية، وأيضًا الحِرفي، وغيرهم، من إبداء آرائهم بخصوص سياسات الدولة التي يعيشون فيها، خصوصًا وأن تلك السياسات، في العديد من الأحيان، تنعكس بصفة مباشرة عليهم.
فلو أخذنا على سبيل المثال المغرب، وبالخصوص قرار الحكومة بتعميم التوقيت الصيفي على طول السنة. سنجد أن هذا القرار قد خلف استياءً، وسخطًا عامًا لدى مختلف المواطنين المغاربة، وقد انعكس القرار بشكل مباشر على الأطفال الصغار، على اعتبار أنهم يستيقظون باكرًا للذهاب إلى المدرسة، وبشكل أكبر أولئك الذين يسكنون في مناطق بعيدة فيضطرون لمغادرة منازلهم صوب المدرسة والظلام لايزال حالكًا، وهذا يشكل خطورة عليهم، خصوصًا هؤلاء الذين يقطنون منهم في الأحياء التي تكثر فيها الجريمة!
لقد عبر هؤلاء الأطفال عن استيائهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، واستطاعوا عن طريق التواصل بينهم أن ينظموا مظاهرات ووقفات احتجاجية تنديدًا بهذا القرار الذي وصفه العديد منهم، بالتعسفي في حقهم. ناهيك عن حالات أخرى لمجموعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي خاصة بالمهنيين، مثل سائقي الشاحنات وبائعي الخضار، وغيرهم من أصحاب المهن، والذين أصبحوا ينظمون شبه نقابات إلكترونية يتداولون فيها أمورهم المهنية الخاصة.
خلاصة الحديث هي أن سياسة تكميم الأفواه، وسياسة اقطع الأصبع الذي يشير إلى الفساد وسوف ينتهي الفساد، هي سياسة أصبحت متجاوزة اليوم. إن سياسة إرهاب أصحاب الآراء، وتخويف ذوي المواقف والمبادئ، أصبحت سياسة فاشلة. إن تعميم وسائل التواصل الاجتماعي أعطى للعديد من الأشخاص الفرصة لأخذ الكلمة، أعطت للعديد الفرصة للتعبير عن آراءهم ومواقفهم من سياسات الدولة التي تُطبق عليهم.
وتحت ضوء هذه التطورات الحاصلة في العالم اليوم، هذا العالم الذي أصبح جزء كبير منه عالمًا رقميًا افتراضيًا، ستجد الدول أنفسها أمام بعض الاختيارات الضرورية: إما أن تدرس قراراتها الكبرى دراسة جيدة، وتحاول استباق الضجة التي يمكن أن تقع، وقد يمكنها هذا الأمر من تجنب الفوضى غير الضرورية. بهذه الطريقة ستتمكن الدول من إعداد أجوبة لأسئلة مفترضة، وبذلك سوف تستطيع تبرير قراراتها، وسوف تتمكن من احتواء الأزمات التي قد تنتج عن قراراتها لدى الرأي العام.
أو قد تلجأ إلى الحل الآخر، وهو الحل الأسهل، والذي يتمثل في أن تتجاهل جميع ردود الأفعال التي تظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وألا تُلقي بالًا لارتسامات المواطنين وآراءهم. أما مسألة إخراس الأصوات، وقمع الآراء، وتهديد من يحركون ألسنتهم احتجاجًا فهي مسألة حتى وإن أُريد لها أن تكون، فقد أصبحت مستحيلة بالنظر إلى الشروط المتوفرة على أرض الواقع.
الشعوب العربية لا زالت على بعد سنوات من بلوغ الرشد الفكري، لكن الرشد الفكري ينطلق من هنا، من حرية التعبير، من سياسة دعه يعبر عن رأيه حتى لو كان رأيه خاطئًا
كم أصبح من السهل على الإنسان أن ينشئ حسابًا على منصة من منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يجمع حوله من هم مستعدون لسماع آرائه، وأيضًا من يختلفون معه لكنهم مستعدون للدخول في نقاش معه حول تلك الآراء. هذه السهولة جلبت معها صعوبة السيطرة على الجحافل الإلكترونية، وحتى إذا تم إغلاق حساب شخص يعبر عن رأيه، فسوف يفتح حسابًا آخر، وربما قد يعبر حينها بشكل لاذع أكثر.
قد يقول قائل بأن تعميم وسائل التواصل الاجتماعي أعطى فرصة للتعبير، لكنه أعطى أيضًا الفرصة للتعسف في الرأي، فرصة لأصوات تافهة لم تكن لتأخذ الكلمة إلا في الخمارات (بتعبير أومبرتو إيكو). وأنا أقول بأن الشعوب العربية عانت لمدة طويلة من القمع، ومن الإرهاب النفسي الذي مورس على كل من سولت له نفسه أن يغرد خارج السرب، أو أن يُكوِّن رأيًا يبدو مخالفًا أو معارضًا لسياسات الدولة. لذلك، وبعد طول هذا الكبت الذي عصف بهاذه الشعوب، يجب علينا أن نستمتع بهذا المتنفس الذي يترك للجميع الفرصة في إبداء رأيه، وهذا أمر صحي جدًا، فالنقاش العمومي لا يجب أن يكون حصرًا على من يضعون أنفسهم ضمن النخبة، أي من يجلسون في أبراج عاجية عالية، يُنظرون من بعيد، ويمسكون مبضع الجراح بشكل مقلوب، لتكون النتيجة نظريات غير مفيدة، موضوعة في قوالب لغوية غير مفهومة، يفترض بها أن تهم أشخاص غير مهتمين بها.
قد أتفق بأن الشعوب العربية لازالت على بعد سنوات من بلوغ الرشد الفكري، لكن الرشد الفكري ينطلق من هنا، من حرية التعبير، من سياسة دعه يعبر عن رأيه حتى لو كان رأيه خاطئًا، وسيأتي بعد ذلك الرشد الفكري كما أشار لهذا الأمر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: تجرأ على استخدام عقلك. واستخدام العقل هذا يجب أن يكون استخدامًا عموميًا، أي أن يعبر الإنسان عن رأيه في العلن وأمام الملأ، وإن أخطأ، فمن منا لم يخطئ في يوم من الأيام؟
(المصدر: مدونات الجزيرة)