“سقوط الرموز الإسلامية”.. كيف أسقطت الثورات عصر الشيوخ؟
إعداد محمد فتوح
“وأقول لإخواننا العاملين في حقل الدعوة في كل مكان: إنه لمن الواجب إعادة النظر في كثير مما كتبه المفكرون الإسلاميون المعاصرون، وعرضه على مُحكمين اثنين: كليّات الدين، ومناطاته المحقَّقة”
(فريد الأنصاري – البيان الدعوي)
قبل ثلاثة عقود، بدأ ما يُعرف بـ “الشريط الإسلامي” في الظهور، والذي اعتُبر حينها بابا لنشر الثقافة الدينية بعيدا عن خطاب الدولة الذي تروجه دوائرها، الأمر الذي أتبعه رواج واسع لذلك النمط من الخطاب لدى قطاعات عريضة من شرائح المجتمع، وهو ما أكسب الدعاة مساحات مجتمعية واسعة في التأثير. ولتُشكّل تلك المرحلة -عبر الشريط الإسلامي- بداية سطوع أسماء عديدة من الدعاة والخطباء ومشاهير قُراء القرآن حيث عُرفوا بأصواتهم، قبل أن تُعرف وجوههم لاحقا على الفضائيات.
ومع بدايات ظهور “الشريط الإسلامي”؛ كانت الغلبة للصوت المصري، لتشكل تلك الحالة بدايات تشكيل المناخ الديني العام حينها، والذي كان له دون شك تأثيراته اللاحقة. آنذاك، بدأت مرحلة الشرائط تلك بالتسجيل للقُراء أمثال الشيخ مصطفى إسماعيل ومحمود خليل الحصري وعبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي. ثم كان الشيخ عبد الحميد كشك وخطبه الرنانة، والذي سُمي بـ “فارس المنابر”، وتفسير الشعراوي، ورحلة إلى الدار الآخرة لعُمر عبد الكافي، وشرائط في الأخلاق كسلسلة سلوك المسلم وسلسلة الغزوات لوجدي غنيم، ونلقى الأحبة وإصلاح القلوب لعمرو خالد. حتى الوصول إلى المدرسة السلفية وأحداث النهاية لمحمد حسان، ومدارج السالكين لمحمد حسين يعقوب، وحرس الحدود لأبي إسحاق الحويني!
تركيبة متعددة وواسعة من الأفكار والدعاة بدأت بالظهور، لتصبغ المجتمع بألوان متنوعة من الخطابات الدعوية، قبل أن يتطوّر الخطاب ويتنقل من الشريط إلى الشاشات مع ما تحمله الوسيلة من ممكنات، وليتم بذلك تعريف جديد للدعاة، أي بوصفهم نجوما للفضائيات!
ظهر التساقط في الرموز الدينية مع اندلاع ثورة يناير، بسبب الحضور الكثيف والمُرَكّز من الدعاة في صراعات الاستقطاب السياسي
بالتزامن مع ظاهرة انتشار “الفضائيات الإسلامية”، توغل الإسلاميون في مصر إلى مساحات مختلفة عن النطاقات المحدودة التي طالتها أفكارهم، واستطاعوا بذلك نقل محاضنهم التربوية الخاصة باتجاهات أكثر عمومية تُعرض على الشاشات، لتكون هذه الوسيلة بحسب الدعاة الإسلاميين سعيا لتجاوز حالة التصحر الديني التي سادت الفضاء العام حينها، وهو ما نتج عنه ضم لشرائح جديدة من المجتمع، شرائح لم يكن اتساعها مستندا، و/أو مقتصرا على اتزان الطرح الفكري المقدم، لكن يمكن إحالته في كثير من الأحيان إلى شخصيات كاريزمية استطاعت استقطاب عشرات الآلاف من الأتباع، والتي استندت إلى فراغ في المناخ الديني العام حينها، ليصبح استدعاء الخطاب الديني مع صورة الداعية وكاريزميته حالة مثالية لتعبئة ذلك الفراغ.
أما الآن، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على عصر الشريط الإسلامي، فقد تغير كل شيء. لم يعد هناك صوت مألوف تترقبه الآذان وتستمع له، ولا وجه واحد من الدعاة يُمثّل إجماعا واتفاقا مجتمعيا واسع النطاق كما كان في السابق. تغيّر بدأ بالتزايد وسط حالة من النفور التي طالت مظاهر التدين في المجتمع ومن يمثله، في حالة أسماها البعض[1] بـ”ظاهرة سقوط الرموز الدينية”.[أ]
تساقط في الرموز الدينية بدأ ظهوره مع اندلاع ثورة يناير، حيث اتخذت مرحلة التساقط تلك مسارين مختلفين، أحدهما تمثّل في الحضور الكثيف والمُرَكّز من الدعاة في صراعات الاستقطاب السياسي، ليتحول الخطاب الدعوي إلى وعود سياسية محضة تلاشت معها مركزية الخطاب الدعوي؛ ولينتقل عدد من الدعاة لمساحة التبشير بالمشاريع السياسية التي أثبتت فشلها ببُعدها عن الواقع، تضافر ذلك مع فقدان للأدوار الاجتماعية التي شكّلت رصيدهم الرمزي سابقا. وثانيها تمثّل في تدني أسلوب بعض الدعاة إلى مستوى لم يُعهد من قبل من البذاءات اللفظية، والتي صبها بعضهم على مخالفيهم وربما وصل الحال إلى تكفيرهم![2].
وسط تلك التغيرات، كانت رابعة -بما مَثّلته من ثِقل أيديولوجي ومحطة فاصلة في مسار الثورة- ذروة الصدام السياسي بين الإسلاميين بعضهم ببعض من جهة، ثم بين الإسلاميين والعسكر والشرائح المجتمعية المؤيدة للانقلاب. وهو الصدام الذي سوف يتنامى بعد رابعة، إذ تشظى الإسلاميون أنفسهم مع تنامي حالات الرغبة بالخلاص الفردي، تزامن ذلك مع فقدان الشباب الثقة في قياداتهم، بعد تسرب الشك إلى موروثهم الديني، وخفةت انتماؤهم الأيديولوجي. لتتحول السرديات الكبرى والمفاهيم الكلاسيكية التي دعا إليها الإسلاميون مثل إقامة الخلافة، والدولة الإسلامية، والجهاد؛ أصبحت كلُّها مَحل شك.[3] وهو ما عزز من انفصال التنظيمات الإسلامية عن المجتمع، واتساع رقعة غربتها داخله.
اغتراب بُني عليه تصحر طال منابع التدين الإسلامية التقليدية؛ والتي أفرزت ظهور حالات من الرفض التام لكل مظاهر التدين التي أفرزها الواقع المتأزم السابق، وهو ما يمكن التعبير عنه بوصفه إلحاد “ما بعد الصدمات” على غرار “إلحاد ما بعد الثورات”.[4] وهي الحالة التي تثير أسئلة محورية حول الدور الذي تسبب به خطاب الإسلاميين في فقد محاضنهم الخاصة، ومن ثم فقدان مكتسباتهم المجتمعية؟! وكيف تكوّن هذا الخطاب، وما التغير الذي طرأ عليه، وهل ثَم طريق للاستدراك تارة أخرى؟!
“بعد قضاء بعض الوقت في الإخوان، لا يشعر الأعضاء بأنهم يعيشون داخل الإخوان فحسب، بل يشعرون بأن الجماعة تعيش فيهم”
(الشيخ عبد الخالق الشريف – مسؤول قسم نشر الدعوة)
مَثّلَ الإخوان والسلفيون جناحي ما عُرف بـ “الصحوة الإسلامية” والتي بدأت بالصعود منذ سبعينيات القرن الماضي.[ب] جذبت حالة الصحوة تلك شرائح جديدة من المجتمع في صفوف التكنوقراط كالمهندسين والأطباء، وباتت الجامعات هي الساحة الأهم للاستقطاب.[5] عمل الإخوان والسلفيون على توفير المحاضن التربوية لأتباعهم، وكان لدى الإخوان في تلك المرحلة معضلة أساسية تمثلت في التوفيق بين الانفتاح على المجتمع، وبين الانغماس داخل الجماعة باعتبارها فكرا أيديولوجيا ينبغي الحفاظ على أفراده عبر مناخ ينضبط فيه الفرد سلوكيا وأخلاقيا. ولتجاوز هذه المعضلة، ذهبت الجماعة إلى إظهار ذاتها باعتبارها جماعة ذات مرونة فقهية، وصاحبة مشروع سياسي نضالي، وليست جماعة دعوية فحسب، وهو التكيف الذي لا يخرج عن التصور الذي بينه حسن البنا عمّا يمكن وصفه بـ “شمولية الجماعة. وهو ما وَلّد ممارسات دعوية حملت عبء التجنيد للمدعوين الجُدد من خارجها.[6]
في كتابه “الدعوة الفردية”، حدد المرشد الخامس للإخوان المسلمين مصطفى مشهور تراتبية دعوة الناس لدى الإخوان والتي جعلها تتدرج في 6 مراحل ضمن مخطط زمني يستغرق 6 أشهر تقريبا. الأشهر الستة التي حددها مشهور، سوف يمر فيها المدعوّ بمراحل دعوية متوالية ليصبح فردا من أفراد الإخوان. مراحل تبدأ من اختيار المدعوّ ثم إيقاظ همته الإيمانية، ثم زرع مفهوم شمولية الإسلام فيه، ثم وجوب العمل للإسلام، ثم وجوب العمل الجماعي، ثم الانضمام إلى الجماعة نفسها. وما أن يدخل الفرد إلى الجماعة حتى يلتزم في المحاضن التربوية المكثفة والمتعددة التي توفرها له الجماعة بصورة دورية مثل: الأسرة الأسبوعية، والرحلة، والمعسكر، والدورة، والندوة، والكتيبة، وحتى المؤتمر العام.
هذه المحاضن يتم عبرها استيعاب الأفراد، مع الحرص على تغذيتهم من الناحيتين الإيمانية والروحية، وتنمية الأبعاد العقدية، ولا يُنسى مع ذلك كله الاطمئنان على الحياة الشخصية لكل فرد. وبصورة موازية، تتم التعبئة الأيديولوحية والفكرية أثناء المرور في مراحل الجماعة المختلفة، وتتكون أنساق الأيديولوجيا تلك عبر الأحداث والتفاعلات اليومية التي يمر بها أفراد الجماعة، أكثر من تكوّنها عبر المعرفة الفكرية والفلسفية. فبدءا من الأزياء، والأناشيد، والشعارات اليومية، والمصطلحات، يتم خلق نسق أيديولوجي يتغذى عليه الأتباع، حيث يذكر خليل العَناني: “يقوم نموذج المحاضن عند الإخوان على دمج عمليات التنشئة والتجنيد معا، حيث يخضع الأعضاء لعملية مطولة ومكثفة من التلقين والتربية”.[7]
لم تَخلُ محاضن الإخوان كذلك من التركيز على التفاعل مع القضايا السياسية والأحداث الجارية، وهي ميزة لم يحظ بها منتسبو التيار السلفي. ويتضافر ذلك مع التركيز على أهمية المشاركة السياسية، ورفض النظام القائم دون الثورة عليه، والارتباط بقضايا المسلمين العامة/ وعلى الرأس منها قضية فلسطين، التي احتلت جزءا أساسيا في محاضن الجماعة، وفي تشكيل هويتها.
عوامل تآزرت لتُنتج مزيجا دينيا وحركيا وسياسيا مصبوغا ببعد هوياتي يعيد تشكيل أفراده، ولينعكس هذا المزيج على شعارات السياسة التي لا تنفك عن إظهار المزيج الديني في معتركات السياسة، فيما تسمح تلك الأيديولوجيا -التي باتت مشكّلة للأفراد- للقادة بحشد الأتباع والهيمنة عليهم من خلال الشعارات، مثل الشعار الشهير الذي رفعه الإخوان في معاركهم السياسية والمتمثل في “الإسلام هو الحل”. لكن باسم الأيديولوجيا ذاتها، تقل مراجعة الإسلاميين لأنفسهم، وتُبرر الأخطاء التي تُرتكب، ويستطرد في نموذج مثالي\طوباوي بحسب ما لاحظه ناثان براون.
“السلفية ليست جماعة، والسلفية ليست حزبا، وإنما هي منهج لفهم القرآن والسُّنة، ولقد ظُلم هذا المنهج السلفي من كثير من أتباعه وأعدائه”
(محمد حسان)
لم تعرف الحالة السلفية في مصر التراتبية التنظيمية التي عرفها الإخوان، وذلك باستثناء الدعوة السلفية السكندرية، وهو ما جعل الخطاب السلفي أشبه بتيار، لا باعتباره تنظيما صلبا متماسكا. دخلت السلفية إلى مصر على يد أعلام نُخبويين مثل رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، ثم انتقلت إلى مدرسة أكثر مصريّة، ممثلة في جمعية أنصار السنة لمؤسسها الشيخ حامد الفقي، ومحدث الديار المصرية أحمد شاكر.[8] ثم تشظى التيار السلفي -كعادة السلفية المعاصرة- إلى أطياف عديدة، وكان أشهر رموزها في مصر أبو إسحاق الحويني، ومحمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، ومصطفى العدوي. وأما أبرز وجوه السلفية المدخلية فقد كان محمد سعيد رسلان.[9] وعلى تخوم هؤلاء ظهر عدد من الشباب الدعاة الذين آثروا الوعظ وغزوا الساحة الوعظية في مصر، مثل حازم شومان، ومحمد الصاوي، ومسعد أنور، وغيرهم.
وبالعودة للمدرسة السلفية السكندرية -التي كانت أولى أشكال التنظيم السلفي- فقد تأسست على يد قيادات شابة منشقة عن الجماعة الإسلامية في الجامعة، أمثال محمد إسماعيل المقدم [ب]، وسعيد عبد العظيم [ج]، وأحمد فريد، ومحمد عبد الفتاح، ثم ياسر برهامي وأحمد حطيبة.[10] وهذه المدرسة هي ما سينتج عنها حزب النور السلفي لاحقا، وستتحول السلفية على أيديهم كما يراها معارضوهم باعتبارها أشبه بـ “دُمية سياسية” تقاتل لأجل الحصول على مقاعد في البرلمان.[11]
أما في القاهرة، فقد ظهر تيار سلفي أكثر تحفظا فيما يخص الحاكم، ومسألة الحكم بما أنزل الله، على الرأس من هذا التيار كان الشيخ محمد عبد المقصود، ونشأت أحمد، وفوزي السعيد، وهو التيار الرئيسي من السلفيين الرافضين للانقلاب العسكري، والتي شاركت رموزه على منصة رابعة العدوية.
https://youtu.be/AnUnVEpZXQE
ظلت الجوامع لفترة طويلة هي محاضن السلفيين الأُولى، ألقى السلفيون فيها دروس التزكية والوعظ والرقائق بين الناس. ونظرا لبساطة التدين السلفي -في الغالب- فقد أقبلت عليه شرائح مجتمعية عديدة، لا سيما في القُرى والمحافظات الريفية، وظهر أثر ذلك في الانتخابات البرلمانية الأولى. وبالإضافة إلى الانتشار المجتمعي، فقد اكتسح التيار السلفي الفضاء الديني العام قبل الثورة من خلال الفضائيات الإسلامية والتي ظهرت تباعا بعد 2005. ليتحوّل -لأول مرة- دعاة “الكاسيت” إلى نجوم الشاشات، بينما ينتظرهم الناس يوميا عبر هذه القنوات.
كان خطاب السلفيين مُرَكَّزا على قضايا كلية، تمثّلت في الدندنة حول نقاء العقيدة، والتي اعتُمدت فيها كتب المدرسة الوهابية، ومركزية قضية التوحيد، والاتباع، مع التزكية والتعبد.[12] بفضل بساطة التدين السلفي، وتركيزه على قضايا كُلية مُحددة في الدين، بالإضافة إلى التخفف من الأعباء التنظيمية؛ فقد أدى ذلك لانتشار أفكارهم بين مئات الآلاف. لكن التربية السلفية عززت الانتماء للتيار، مع التنفير من الجماعات الأخرى، وهو ما أحدث حالة من “الطهورية” في أتباع التيار، والذين تبنوا تصورا ذاتيا يمايزهم عن باقي أفراد التيارات الإسلامية، فضلا عن عموم المجتمع.
تباين موقف السلفيين من الجماعات المغايرة، مثل الإخوان، فبين مُبدِّع للإخوان مثل المداخلة، وبين من تعامل في حذر، مثل السلفية العلمية، وبين من اقترب من جماعة الإخوان أكثر وأكثر كما في السلفية القاهرية التي تزعمها محمد عبد المقصود. بيد أن التربية السلفية عززت -في الجُملة- الانتماء للتيار السلفي العام مع التنفير من الجماعات غير السلفية.
مثّل هذا الخلاف بين الإخوان والسلفيين، مناخا خصبا لاستدعاء سجالات -لا سيما في مرحلة الجامعة- حول قضايا دينية أو سياسية، مثل قضايا المشاركة السياسية، والموقف من الحكام، وطبيعة التعامل مع المجتمع، والموقف من المظاهرات السياسية أو الداعمة لقضية فلسطين، وكذلك قضايا الأحكام الفقهية مثل اللحية والنقاب والمعازف وإسبال الثياب. في هذا السياق، مال الإخوان أنفسهم إلى نزعة من التدين السلفي كما رصد هذه الظاهرة حسام تمام في دراسته “تسلف الإخوان”.[13]
دراسة الباحث حسام تمام “تسلف الإخوان” (مواقع التواصل)
“هذا النظام التعددي الديمقراطي ليس هو النظام الإسلامي، لكنه أرفق بنا، وخير للإسلام من النظام الاستبدادي، لذلك اخترناه. لكنه ليس بديلا للنظام الإسلامي، إنما مرحلة ينبغي أن نعبر عليها إلى المرحلة الكبرى: الخلافة على منهاج النبوة”
(الشيخ السلفي عبد الرحمن عبد الخالق)
وفّرت المحاضن التربوية قبل الثورة -سلفية أو إخوانية- قسطا من التربية الدينية، وحظا من الدراية الفكرية والسياسية، لكن هذا لم يُخفف من شعورها بأنها أقلية نُخبوية تحمل من النقاء ما لا يحمله المجتمع الخارجي. سيطرت هذه الفكرة على الإسلاميين في نظرتهم للمجتمع الخارجي، وقد غذى مثل هذا الشعور الداخلي العداء الشرس، والجَور الذي لاقوه من الأنظمة المناوئة لهم، مما وسّع مرة أخرى غربتهم داخل بلادهم.[د]
“فحقيقة بنية التيارات الدينية أنهم يحاولون إيجاد مجتمع بديل وموازٍ ليعيش فيه أفرادهم، فيخفف هذا من وطأة الإحساس بالغربة، بل ربما انقلب هذا إلى إحساس بالتميز والتفوق والنقاوة وأنهم الصفوة المختارة، وهو للمفارقة الإحساس نفسه الذي يشتركون فيه مع منتج المؤسسات الأمنية كالجيش والشرطة الذين يختلفون في الدرجة ونوع الاستجابة لإحساس النقاوة لا في نوع الإحساس نفسه”.[14] سبّبت هذه النظرة نسيان عيوب النفس، ورؤية الزلل في المجتمعات مهما حملت في داخلها من محبة للدين، وصدق للعمل له. وقد استمرت هذه المتلازمة بين “الطهورية” وبين “الترفع على محاسن غير المنتمين إليهم” بل وتعززت بعد الثورة.
في الثورة، شعر الكثيرون بخذلان التيارات الإسلامية لهم، حيث بدأ الشقاق مبكرا حين تخلّف عامة التيار السلفي عن المشاركة في الثورة ببدايتها، وهو ما أرجعه محمد أبو رمان إلى أن الثورة “تُمثّل صدمة أيديولوجية وسياسية لعموم التيارات السلفية التي التزمت الابتعاد عن العمل السياسي، وعدم المشاركة في المظاهرات والاعتصامات”.[15] وقد عمد الإعلام إلى شيطنة الإسلاميين مبكرا وإحداث القطيعة بينهم وبين عموم الناس، والزعم بأنهم “ركبوا الثورة”![هـ]
بعد الثورة، ومع انكسار الحاجز الأمني، تصاعدت التوقعات في أن يستكمل الإسلاميون تمددهم داخل المجتمع بالزخم نفسه الذي كان قبل الثورات، وتعزيز تأثير المحاضن التربوية أكثر فأكثر داخل المجتمع، لكن الرياح جاءت معاكسة هذه المرة مع انشغالهم بالعمل السياسي. وعلى التوازي من غياب المحاضن التربوية، عمدت وسائل الإعلام للتركيز على أخطاء الإسلاميين، وهو ما عزز من حصرهم عن المجتمع الكبير. ولم تستطع القنوات الإسلامية، مثل قناة الحافظ والناس والرحمة والحكمة وغيرها من القنوات، أن ترد ذاك الهجوم الحاد، بل تسببت -بسوء إدراتها- في زيادة تشويه الخطاب الإسلامي، بالتوازي مع تباري بعض الدعاة على شاشاتها بالسباب والطعن في مخالفيهم.[و] مع هذا التسارع الشديد للثورة، انشغل الإسلاميون “بالحدث السياسي”؛ حتى تحوّل الدعاة إلى سياسيين في المقام الأول، وهو ما أفقدهم مركزيّتهم الأساسية والتي تمثلت في السعي لـ”تَدِيّن المجتمع”.
مثّلت رابعة ذروة الصراع الأيديولوجي السياسي بين المجتمع المصري بكل طوائفه، حيث خرج من الإسلاميين قلة مؤيدة للانقلاب، مثل حزب النور، وبقيت الكثرة تشعر بالاضطهاد والأذى، وهو ما أنتج صيغةً من المفاصلة مع المجتمع الذي أعان جزءا كبيرا منه العكسر ضدهم! ترسخ في رابعة عدد من المفاهيم الشرعية حول الجهاد والنصر والهزيمة والدعوة والمجتمع والعالم، صُبغت هذه المفاهيم على المنصة التي تُليت من فوقها آيات الجهاد بينما في الخلفية لافتة “مع الديمقراطية، وضد الانقلاب”!
مع انقضاء رابعة [ز] وصل الشحن النفسي لدرجة عالية، وهو ما أدى -مع فشل الوعود التي بُشّر بها الأتباع من فوق المنصة- إلى الكفر بوعود هذه التنظيمات الحركية ذاتها، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد تنامى كذلك الكفر بالدين نفسه. ومن بقي على “إسلاميته” فقد ضربت العزلة سدا منيعا بينه وبين المجتمع، وحصرته عن محاضنه التربوية والفكرية الأولى، ليصبح الشباب الإسلامي بين إشكال الفقد لمحاضنه القديمة وعدم قدرته على العودة لها، وبين تنامي القطيعة مع المجتمع الجديد.
تعددت أحوال الإسلاميين بعد رابعة، ما بين كافر بالفكرة الإسلامية، وبين كافر بالدين كُلية، وبين آخر يتجه إلى العمل المسلح.[16] وفي الوسط بين هذه الحالات التي أخذت الانفعالإلى أقصاه، تجلت صور عدّة من التعاطي مع الواقع الجديد، تمثل أغلبها في العزوف عن الشأن العام، أو الميل للحياة الفردية، مع غلبة الشعور باليأس من التغيير مع بقاء جذوة الحنق على المحيط العام.
لم يكن انفضاض شباب الإسلاميين عن جماعاتهم انفضاضا تنظيميا فحسب، بل امتد ليطال الشق الإيماني والأيديولوجي. وهو ما جعل البعض يدّعي بأن هؤلاء المنشقين قد أخذوا شَرّ ما في التنظيمات مع ترك خيرها، إذ طغى الانشغال بالهم السياسي، دون حيازة العمل الفاعل على أرض الواقع.
وفي تدوينته “لم أعد إسلاميا.. قراءة في مأزق الطريق المسدود” يقول أحمد سالم: “أخذ المنشقون عن التنظيمات المحتوى السياسي الأيديولوجي للتنظيمات. أخذوه وليس معهم وعاء الجماعة والتنظيم الذي يحمله، ومع فقدانهم للقوة الجماعية والتنظيمية والإدارية آل أمرهم إلى نوع من الكلام والجدل السياسي والتنظير الفكري، وليس لهم معه اشتغال بأنواع أخرى من العمل الديني المعرفي والدعوي والمجتمعي، فتحولوا إلى ظواهر إعلامية وحلقات اجتماعية مفتتة لا تربطها سوى جلسات نقاش ناقص الأدوات، فصار واقعهم يشبه إلى حد كبير واقع الخلايا الشيوعية والاشتراكية وناشطي وسط البلد؛ فهو نوع من الكلام لا يجد متنفسا من العمل إلا في حراكات فقيرة القوة على الأرض، وحتى من يتجه منهم لبعض شعب العمل الديني أو المعرفي قلما يجد أعوانا بل يجد من يستهجن عمله، مما يؤدي مع الوقت ومع فقر الرصيد الإيماني إلى أنواع من الانقطاع والعزلة والاشتغال بهموم الحياة أو إلى النزول إلى دركات أسوأ من التنظيمات ومن حالته بعد ترك التنظيمات، بحيث يبدأ في الابتعاد إلى خيارات أخرى لمنشقين آخرين دخلوا في العلمنة أكثر، وضعف تدينهم أكثر، وصار القدر المشترك من الإسلام والوحي والتزام إقامة الدين الذي لا ينبغي أن يكون فيه نزاع محل شك وريب عندهم”.[17]
“فإن العبادات ليست وسائل مجردة لإقامة الحكومة الإلهية، بل هي أعمال مقصودة بذاتها”
(أبو الحسن الندوي – التفسير السياسي للإسلام)
في عام 2007، وجّه العَالِم المغربي الشهير فريد الأنصاري [ح] نقدا قويا للحركة الإسلامية في المغرب في كتاب سماه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب”، وعلى غلاف الكتاب ظهرت صورة عقرب في إشارة إلى تسميم السياسة لمكتسبات الحركة الإسلامية، حتى لم تذر منها شيئا!
لم يكتف الأنصاري في رصد توغل السياسي في محاضن الدعوة بكتاب واحد، إذ أفرد العالم المقاصدي أربعة مؤلفات كاملة على فترات زمانية متوالية للتحذير من خطورة هذا التوغل. رأى الأنصاري أن الانخراط الدائم بهذا الشكل من الإسلاميين في السياسة سيؤول إلى تفريغ معنى التدين من محتواه، وأن التضخم السياسي سيصبح سرطانيا، لتستبد بهم أحلام السياسة إلى درجة التخريف والهذيان!
يقول الأنصاري: “انخرط الإسلاميون بذلك على كل حال في بناء خطاب مادي بالدرجة الأولى. ولقد كان بإمكان الحركة الإسلامية أن تصل إلى أفضل النتائج السياسية دون أن تتخذ لها حزبا لو أنها اشتغلت كقوة دينية دعوية منتشرة في كل قطاع. لقد كان بإمكانها أن تجعل بعض الأحزاب السياسية تنخرط في تطبيق الممكن من برامجها السياسية دون أن تنزلق إلى شرك الاستهلاك التجزيئي لقوتها. فبدل أن يخلق الإسلاميون الحياة السياسية كما زعموا تدنسوا بأوساخها!”.
لم يفقد الإسلاميون محاضنهم التربوية فقط، وإنما فقدوا كل مقوّماتهم المجتمعية، وأمانهم النفسي. وهو ما أدى إلى تصفية “فكرة التخصصات في العمل الإسلامي على جميع المستويات: الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والنقابية، والسياسية! وموتها في مهدها، إلا التخصص السياسي! حيث نما وحده وتضخم واحتل كل المساحات الأخرى!”، وأن “الحركة الإسلامية تركت مهمتها الأساسية، وهي تديّن المجتمع، إلى مجرد الاشتغال بالمناورة السياسية”.
كانت صيحات التحذير التي أطلقها الأنصاري في بلد شَكّل فيه الإسلاميون الحكومة، ومع ذلك أدرك خطورة ترك الإسلاميين لمحاضنهم، وتبعات العداوة مع المجتمع باسم الانضواء تحت التيارات الإسلامية، وهي ما جعله يكتب كتابه “الفطرية” ويتخذ له عنوانا فرعيا “بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام”.
ولم يعرف الإسلاميون في المغرب انقلابا عسكريا كما عرفه الإسلاميون في مصر، وهو ما يجعل الحالة تزداد سُوءا، ومع زيادة العزلة عن المجتمع، وتزايد أسباب الهدم الخارجي التي عصفت بالإسلاميين ومحاضنهم في المجتمع، من شعور بالغربة عن المجتمع، وملاحقات أمنية، وقمعٍ لم يزل مستمرا حتى هذه اللحظة، فقد أدى خطاب الإسلاميين أنفسهم إلى فقدان جُل مقدّراتهم السابقة، في وسط سياسي معتم ومجهول، وخبرة سياسية هزيلة!
ولو كان سهما واحدا لاتقيته *** ولكنه سهم وثان وثالث
————————————————————————
الهوامش
أ- ينتشر في مصر خطاب صوفي فرداني بصورة ما، ومتماهٍ مع سمت الأزهر الرسمي بصورة أخرى، ويقدم نفسه بديلا عن الجماعات هذه الفترة. يرشحه البعض ليحل محلها لا سيما مع الدعم الذي توفره الإمارات للصوفية حول العالم، لكن هذا الخطاب لم يتحول إلى تيار جارف، مع افتقاره إلى العوامل المجتمعية والأدوات البنيوية التي اكتسبت بها الجماعات شعبيتها في السابق، وهو ما يُعيق حركته. وهو تيار يستحق الرصد والتتبع على كل حال.
ب- وكان المقدم يحظى بتقدير واسع من جُل الأطياف السلفية.
ج- وقد ترك عبد العظيم الدعوة السلفية منذ الانقلاب العسكري، احتجاجا على تأييدها للانقلاب.
د- سوف نتناول في مادة مستقلة -لاحقا- مسألة علاقة أفراد التنظيمات بعضهم ببعض، أو ما سماه البعض “الأخويات الضيقة”.
هـ – الحجة الأساسية التي اعتمد عليها الإعلام في ذلك فيما يخص الإخوان هو الموقف الرسمي للجماعة بعدم المشاركة في 25 يناير والذي صرح به عصام العريان، قبل أن يشارك الإخوان رسميا منذ الـ 28 من يناير، ثم دورهم المحوري في موقعة الجمل. وفي هذا الزعم إغفال ضمني لأفراد الإخوان الذين شاركوا من أول يوم مع بعض قياداتهم مثل د. محمد البلتاجي ود. عبد المنعم أبو الفتوح وغيرهم.
و- كانت البرامج على القنوات الإسلامية هي المادة الخصبة والمَركزية للإعلام الساخر من الإسلاميين، وكان على الرأس من هذه البرنامج الإعلامية الساخرة برنامج “البرنامج” لباسم يوسف، لا سيما مع تورط شيوخ من الإسلاميين مثل عبد الله بدر ووجدي غنيم وغيرهم في إساءات لفظية.
ز- لن نتناول هنا خطاب الإسلاميين في منصة رابعة وسنتجاوزه، للعودة للحديث في موضوع آخر لاحقا يكون حول الدين والمفاهيم التي رُسمت في رابعة وأثر هذه التصورات في الواقع العملي بعد ذلك.
ح- هذه الفقرة مستفاد أغلبها من تقريرنا “جدلية الدعوي والسياسي.. فريد الأنصاري ونقد الحركة الإسلامية بالمغرب“، وللمزيد حول هذه الفكرة يمكن مراجعة التقرير، ويمكن كذلك مراجعة كتاب “الماجريات” لإبراهيم السكران.
(المصدر: ميدان الجزيرة)