“سعد الدين الهلالي”.. من نبوة السيسي إلى إنكار المواريث
إعداد محمد فتوح
في مشهد شبه يومي، يخرج الدكتور سعد الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، على وسائل الإعلام بزيّه المدني وحديثه البسيط، ليُطلق عددا من التصريحات والفتاوى التي ما تلبث أن تُثير الجدل في الرأي العام. فبين الفتاوى المتتالية التي عادة ما يصفها الأزهر بالشاذة، والتي ما تلبث أن تصير محل نقاشات حادة بين عموم الناس، وبين التبريرات الفقهية التي تشرع ما تقوم به الدولة مهما بلغت من غرابة؛ يبرز الهلالي في هاتين المساحتين المتصلتين بالشأن العام.
آخر تلك التصريحات المثيرة للجدل كان تبريره لمشروع قانون تونس لترك التحاكم إلى الشريعة الإسلامية فيما يتصل بتوزيع الميراث بين الذكور والإناث، وهو ما عبّر عنه الهلالي بأن هذا من حق المجتمع، وهو “صحيح فقهيا ولا يُعارض كلام الله”، وأن تونس تسير على طريق التحضر الذي سنصل إليه بعد 20 سنة!
تصريحات الهلالي لاقت استهجانا في الأوساط الدينية، وهو ما اضطر المتحدث باسم جامعة الأزهر للتعليق عقب مداخلة الهلالي بأن أقواله لا تُمثل الأزهر من قريب أو بعيد، بل تمثل شخصه [1]. وقد ردّت هيئة كبار العلماء ببيان جاء فيه أن قضية الميراث بين الرجال والنساء من “القضايا التي زادَ فيها تجاوُزُ المضللينَ بغير علمٍ في ثوابتَ قطعيَّةٍ معلومةٍ مِن الدِّينِ بالضرورةِ”، واعتبرت أن هذه القضية من تقسيم القرآن الكريم المُحكَمُ للمواريثِ وأن الاجتهاد الصادر فيها غير مقبول لكونها من المسائل قطعية الثبوت والدلالة، وأن المخالفة فيها مخالفة لصريح القرآن [2].
لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي تُثير فيها فتاوى الهلالي لغطا في الشارع المصري، فقد باتت تصريحاته الدينية هي الأكثر حضورا في الإعلام المصري.
في عام 2012، أصدر الدكتور سعد الهلالي كتابه “الإسلام وإنسانية الدولة”، وجاء في مقدمته أن الكتاب في بيان العلاقة بين الدين والدولة، والتصدي لمشروع الإخوان المسلمين الذي يبشرون به من تطبيق الشريعة الإسلامية باسم الدين، ودعا الهلالي لإعادة قراءة الدين قراءة إنسانية، إذ إن الشارع قد “ترك للمسلمين فهم نصوصه بآليات إنسانية” [3]. بيد أن أُطروحة الهلالي التي سعت لتنحية الشريعة الإسلامية، دفعت مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر للرد عليه، واعتبرت أن الكتاب طعن في الدين ذاته، وليس طعنا في تيار الإخوان فحسب.
وتولّى علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وأحد خصوم الإخوان، مهمة الرد عليه في تقرير نشرته مجلة الأزهر بعنوان “كتاب فيه عدوان على الشريعة الإسلامية”. وصف جمعة آراء الهلالي في التقرير بأنها أخطاء وخطايا، وأن الكتاب مليء بالمغالطات في فهم الدين وطبيعة الدولة، بدعوى الاجتهاد في أمور ثبت أصلها من حيث الحجية والدلالة بنصوص قطعية لا تحتمل الشك والريب، ومثال ذلك وصف الهلالي للدولة الإسلامية بالعلمانية، وحثه المجتمعات الإسلامية بألا تأخذ بالحدود المقررة في الشريعة، والدعوة إلى إنسانية مُعلمنة، وغير ذلك من الأخطاء [4].
لا يتوقف الأمر عند هذه المناوشة العلمية، وإنما يتعداه لأن يخالف الهلالي منهجه الذي يدعو إليه من تنحية الدين عن السياسة والشأن العام. فعلى الرغم من علمانية الدولة التي يُبشّر بها الهلالي، نجده حاضرا في محفل سياسي وعسكري بحت ضم رجال الجيش والشرطة بعد الثلاثين من يونيو/حزيران، ليقف الهلالي حينها مُوجّها حديثه للحاضرين وقائلا: “ابتعث الله رجلين لمصر، كما ابتعث موسى وهارون من قبل، فما كان أحد من المصريين يتخيل أن السيسي ومحمد إبراهيم من رُسل الله عزّ وجلّ”.
https://youtu.be/gh80KQcGUpc
خطاب أثار استنكارا واسعا في الأوساط الدينية، وهو ما دفع شيخ الأزهر أحمد الطيب للرد شخصيا على الهلالي في بيان جاء فيه أن “الأزهر الشريف يهيب بالمنتسبين إلى العلم والفقه الاسترسال في هذا المجال الذي يمس نزاهة العلم والعلماء ويُدخل الأنبياء والرسل في مقارنة لا تصح ولا تجوز في الجدل السياسي” [5].
“إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”
(محمد بن سيرين)
يتواصل تناقض الهلالي لما يدعو إليه في كل مشهد يتصل بالسلطة القائمة، وسيضرب الهلالي بكتابه الذي ألّفه للرد على استدعاء الإخوان للفتوى في عالم السياسة عرض الحائط؛ ليطلق من الفتاوى ما يُبرّر ويُشرعن للسُلطة السياسية. فحين حكمت محكمة المنيا بإحالة أوراق 529 متهما إلى المفتي لتنفيذ حكم الإعدام بهم، خرج الهلالي مبررا هذا الحكم بقوله: “يجب تنفيذ هذا الحكم فورا دون الحاجة إلى رأي مُفتٍ”، معتبرا هذا الحكم عملا بطوليا من “قاضٍ شامخ أراح ضميره في مواجهة الإرهاب”.
ويتواصل استدعاؤه للفقه السُلطاني بما يخدم أجندة الدولة، متناقضا مع منهجية التيسير التي يدعو الناس إليها بتتبع أيسر الأقوال؛ ليتخيّر هو أشد الأقوال ضد خصوم الدولة. ظهر ذلك حين صرّح بأن القاضي مصيب تماما، لأن “في الفقه الإسلامي هناك آراء أن تُقتل الجماعة بالواحد”، ليُشرعن الهلالي بهذا التخريج الفقهي موقف السلطة السياسية، دون النظر إلى حيثيات القضية ولا خلفيات الحكم، فضلا عن شروط القاضي في الفقه الإسلامي وهل تنطبق على هذا القاضي أم لا؟ [6].
“والقائل بأن الخلاف من حُجج الإباحة راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، وجعل القول الموافق حجة له ويدرأ به عن نفسه؛ فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتّباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه”
(الإمام الشاطبي – الموافقات)
يعمد الهلالي في برامجه لعرض الآراء الفقهية المختلفة على الناس، مهما كانت ضعيفة أو شاذة، وتركها بين يديهم للاختيار، وذلك بدعوى نفي “الوصاية الدينية” على المجتمع. ويذهب منهج الهلالي بالقول بأن تحكيم الشريعة ليس واجبا، إذ إنه ما من قول أو فعل إلا وله مخرج في الدين، وهو ما عبّر عنه الهلالي بقوله: “وإذا تم ضبط المجتمع بقوانين مدنية وعقابية وإدارية، فإنها ستكون عبارة عن انتقاءات من جُملة أوجه فقهية عديدة يراها المجتمع هي الأصلح لزمنه ووضعه”، وهو ما يجعله يُنكر مفهوم “الإجماع” عند الفقهاء، فليس هناك قطعي في الدين عند الهلالي، وهو ما يجعله مؤسسا لمفهوم ديني، أو دين جديد كما يراه البعض باسم المصلحة والخلاف الفقهي، يقول: “وحيث إن الأوجه الفقهية إنسانية الاستنباط وليست معصومة، فمن حق المجتمع أن يسعى دائما إلى تغيير كل وجه قلّت مصلحته أو فاتت إلى وجه فقهي آخر يكون الأصلح للزمان الجديد بأوضاعه المختلفة” [7].
وهكذا يُبقي منهج الهلالي على الأحكام الشرعية تسمياتها لكن بعد تفريغها من محتواها لصالح الذائقة العلمانية المعاصرة في تناول الأحكام الشرعية، والتي تُخرج النص الشرعي عن مقصده، وهو ما سيستدعي ردودا، بعد قليل، من المؤسسة الرسمية الأزهرية ذاتها، التي وصفت هذا المنهج بأنه لم يسبق إليه أحد.
فقد كان تعاطي الفقهاء في السابق مع الخلاف الفقهي دائرا حول معرفة مراد الشارع منه، وليس تعطيل هذا المراد. وقد حفلت كُتب الفقه وأصوله من كافة المذاهب بالحديث عن ضوابط الاستنباط وكيفية الفُتيا وآدابها، ولم يَرِد عن أحد أن الخلاف ذريعة لإسقاط الأحكام الشرعية. ويقرر الإمام ابن حزم في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” خطر ترك الدين بدعوى الخلاف قائلا: “ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط، ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقا بإجماع الأمة” [8].
وقد تحدث الفقهاء كذلك في أن ورود الخلاف ليس دليلا للإباحة، فقال الإمام ابن عبد البر: “والاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله” [9]. إذ إن إسقاط الأحكام لمجرد وجود الخلاف من التناقض المنطقي، لذا يقول الإمام ابن تيمية: “إن تعليل الأحكام بالخلاف علّة باطلة في نفس الأمر، فالخلاف ليس من الصفات التي يُعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم” [10].
وفي نص شديد الكثافة يُلخّص الشاطبي، صاحب الموافقات، خطورة هذا المنهج فيقول: “وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها [أ]؛ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة” [11].
“أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، المفتي يأتيه الرجل فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا”
(الإمام سحنون المالكي)
أدى هذا المنهج بالهلالي لإطلاق عدد كبير من الفتاوى الشاذة، والتي أثارت الرأي العام، مثل فتوى جواز شرب الخمر من غير النبيذ، والنزاع في معنى الحجاب، وتوقّفه عن تكفير غير المسلمين، وتأييده للدولة في مسألة الطلاق الشفهي باعتباره أمرا لا يقع، وآخر هذه الفتاوى كانت فتواه بمخالفة صريح القرآن في أحكام الميراث.
لم يرق هذا المنهج الذي ينتهجه الهلالي للأزهر، إذ رأى أن هذا النهج ليس للهلالي سلف فيه، ويمكن من خلاله تعطيل كل أحكام الدين، بينما يصف الهلالي ناقديه بأنهم “أوصياء الدين على المجتمع”.
وهو ما جعل مشيخة الأزهر تُصدر عددا من الردود على الهلالي، في تشبيهه للسيسي ومحمد إبراهيم بموسى وهارون [12]، وفي فتوى إباحة الخمور، وبيّن الطيب أن “هناك فرقا بين فقه التيسير المبني على اليُسْر ورفع الحرج، والمنضبط بضوابط المعقول والمنقول، وبين منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير واتباع الرخص وشواذ الآراء”، واستنكر الطيب منهج الهلالي، إذ “لا ينبغي للمفتي -تحت ضغط الواقع- أن يُضحّي بالثوابت والمسلمات، أو يتنازل عن الأصول والقطعيات بالتماس التخريجات والتأويلات التي لا تشهد لها أصول الشريعة ومقاصدها، وأن تتبع رخص المذاهب واعتماد الفتاوى الشاذة منهج خاطئ” [13].
أما الرد الأكبر على الهلالي فكان من نصيب علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، والذي وصف الهلالي بأن “عنده خلل منهجي”، وأن الهلالي لا سلف له في أقواله وفتاواه، وبيّن جمعة في برنامجه على قناة “سي بي سي” (CBC) الإشكالات التي تعتري فتاوى الهلالي فيما يخص النبيذ والحجاب والميراث وغيرها.
وفي أزمة الميراث الأخيرة تبرّأت جامعة الأزهر من تصريحات الهلالي، حيث صرّح عباس شومان، مستشار الطيب وأمين هيئة كبار العلماء، بأن المواريث لم يسمع طالب فقه بأنه يجوز لغير أصحابها من حكومات أو علماء أن يتدخلوا فيها نيابة عنهم [14].
وقد ذكر فقهاء الإسلام في كتب الفتوى وآدابها، مثل الإمام النووي في كتابه “آداب الفتوى والمفتي والمستفتي”، وابن الصلاح في “آداب المفتي والمستفتي”، وابن حمدان الحنبلي، منهج الفتوى والإفتاء الذي كان عليه فقهاء الإسلام، وأن العامي يطلب الفتوى بسؤال العالِم فيُفتيه بفتوى خاصة به، أو يُحيله إلى قول آخر لمصلحة يراها العالِم، أو يتوقف في المسألة إن كان جاهلا، وليس من بين حالات الفتوى في الإسلام منهج عرض الآراء الشاذة والضعيفة ليأخذ الناس ما شاؤوا منها بغير برهان من العلم، قال ابن الصلاح ذامًّا التساهل المبالغ فيه في الفتوى: “لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عُرف بذلك لم يجز أن يُستفتى” [15].
بذلك، لا يعدو وقوف الهلالي في صف تأييد المساواة في الإرث سوى حلقة أخرى من حلقات تصريحاته وفتواه التي تنتظم في عقد يلتف حول عنق السلطة أيا كان حجمها واتجاهها كما يبدو من خلال تتبع مواقفه، وليخط لنفسه منهجا يراه البعض فريدا وجريئا، ويراه البعض شاذا عن الدين، بل ولا يستند إليه من الأساس، ولتدخل السلطة هنا كعنصر غير حيادي تجاه التحكم بمسار الواقع، ومدى ملاءمة التصريحات الدينية له كغطاء، أو على الأقل، وكما هو معروف في دراسات الرأي العام، أن إثارة النقاش وحده تعد أولى الخطوات لتهيئة الأمر بهدف تطبيعه مع التكرار، وليبقى الأمر متأجرحا ما بين حداثة الفكرة، وشذوذها، راسما ملامح تجاذب فكري جديد في الساحة الدينية المصرية.
___________________________________________
الهوامش:
أ- ليس مقصده بالطبع عدم مراعاة الخلاف المعتبر، أو أحوال المستفتي، وإنما المقصد اتباع الشرع أصالة، وإلا فالشاطبي نبّه على هذا المعنى تحرزا فقال: “ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان: الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم! لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإنَّ له نظرا آخر، بل في غير ذلك”.
(المصدر: ميدان الجزيرة)