سطر من موسوعة المظالم في مصر!
بقلم أ. محمد إلهامي
ليس شيئا غريبا أن تسير في شوارع اسطنبول فتسمع أو تلقى صاحب حكاية عربية مأساوية، قد اجتمع في اسطنبول أبناء العرب على نحو ما قيل “ألقت إليكم العرب أفلاذ أكبادها”، ولقد ثقلت الحكايات على القلوب حتى لقد آمنتُ حقا أنه لا عدل إلا في الدار الآخرة، التي هي في ذاتها نعمة عظمى لا يشعر بها كالمظلومين.
في المستشفى.. ميَّزتُ لهجة مصرية تحاول أن تنتهي معاملة مولود صغير قد جاء للدنيا حديثا، سرعان ما دفعتنا الظروف إلى تبادل الحوار الذي طال وحمل قصة جديدة من موسوعة المظالم المصرية.. “هذا الولد هو أول فرحة تدخل بيتنا منذ ثلاثين سنة”! تلك هي العبارة التي أثارت انتباه حواسي جميعا حتى تحول حديثي مع صاحبها من المجاملة العابرة إلى محاولة الفهم والاستزادة.. فكانت هذه القصة، التي سأرويها على لسان صاحبها:
حين كنتُ في السجن وكنت أرى بعض إخواننا يضجر أو يسخط كنت أقول له: مهما بلغت حكايتك لن تكون أبدا أصعب من حكاية أمي، ومع ذلك فأنت تراها إذا زارتنا راضية صابرة لا يظهر منها جزع ولا سخط. فما إن أحكيها لها حتى يسكت ويذهب بعض ما عنده ولسان حاله يقول: الحمد لله! فلعلك تريد الآن أن تعرف قصة أمي؟! (أجابت كل حواسي بلهفة: نعم.. بالطبع)!
هي الآن في الخامسة والسبعين من عمرها، من عائلة أصولها من مكة المكرمة، حرص أبوها على تعليمها في ذلك الزمن الذي كان يندر فيه اهتمام الآباء بتعليم بناتهم، وهي تحفظ ثلث القرآن، ولا يفتر لسانها عن الذكر والدعاء، وتستطيع القراءة والكتابة، وتُعْرَف بين جيرانها بحسن الخلق وطهارة اللسان، فإذا كانت في مجلس فقد حلَّت فيه أجواء الإيمان وغابت منه الغيبة والنميمة وما يكون عادة في مجالس النساء. لكنها منذ ثلاثين سنة لم تر فرحا.. فقد مات عنها زوجها وقد أنجبت منه ولدين وبنتا، فتكفلت برعاية أولادها حتى شبَّ الولدان، فكان أكبرهما يعمل ويدرس بالجامعة في نفس الوقت، فحمل عنها إصر استجلاب المال وبقي عليها إصر رعاية البيت وإدارته!
وما كادت تتكئ على أبنائها حتى اقتحمت عليها قوات الأمن البيت بحثا عن الابن الأصغر، كان هذا في عصر مبارك أواسط التسعينيات، ولما لم يكن هذا الابن موجودا فقد اعتقلوا أخاه ليجبروه على تسليم نفسه، فلما سلَّم الأصغر نفسه لم يفرجوا عن الأكبر، بل سُجِنا معا.. حُكِم على الأصغر بخمس عشرة سنة سجنا، وحُكِم للأكبر (الذي أُخِذ أول أمره لمجرد الضغط على أخيه) بالبراءة، إلا أن جهاز الأمن كان يُفرج عنه ورقيا ثم يعيد اعتقاله ورقيا وهو لا يزال في سجنه!
وهكذا فقدت الأم فجأة ولديْها كليهما.. ولم يبق لها إلا البنت الوحيدة التي كانت قد تزوجت وأنجبت! ففرغ عليها البيت ونزل عليها البلاء فجأة وبكل ثقله.. وهنا انتقل هم رعاية الأم التي فرغت من السند والولد إلى أبناء بنتها، وكانت ابنتها في ذلك الوقت قد أنجبت ثلاثة ذكور وبنتيْن، فقام الابن الأكبر لبنتها على رعاية أمه ورعاية جدته بعد سجن أخواله، لكن لم تمض سنتان حتى جاءت عاصفة اعتقالات أخرى فاعتقلت ولديْن من الذكور الثلاثة في نفس القضية التي سُجِن فيها خاليْهما، ولم يبق في البيت من رجل إلا هذا الفتى الثالث الذي يخطو نحو سن المراهقة.. وأي مراهقة؟!
وجد الفتى نفسه مسؤولا عن رعاية بيته وأمه وإخوته الذكور وجدته المسنة بعد سُجن أخواه وخالاه، فكان يسعى على ذلك، فيجمع بين العمل والدراسة، ويجور العمل على الدراسة فيتركها تحت ضغط الواقع، وما هي إلا سنوات حتى كان قادرا على الزواج.. تزوج! وبعد شهور من زواجه توفي في حادثة وقد ترك ابنا له في رحم زوجته.. ففرغ بيته وبيت أمه وبيت جدته من الرجال جميعا!
كانت ثورة كنسمة الصيف العابرة، تنفيس داعبت فيه روائح الحرية أنوف المشتاقين.. وما هو إلا أن اكفهر الجو مرة أخرى، وجاء الانقلاب العسكري، وجاءت معه الأعاصير
مرت السنون على الأم المسنة وعلى ابنتها كأثقل ما تمر السنون على الناس، التفاصيل التي يتحملها الرجال صارت على أكتاف النساء والبنات، ولا رحمة عند أحد في تلك السلطة.. فلقد قضى الابنان ست عشرة سنة في السجن، وقضى الحفيدان أحد عشر سنة.. ولولا أن ثورة يناير قد وقعت فما كان أحد يدري كم في السجن يلبثون؟! كانت ثورة يناير فرجا على مصر، وفرجا مخصوصا على هذه الأسرة الصغيرة التي استردت أبناءها ورجالها الأربعة من السلطة وسجنها. قال لها ابنها يوما وهما يتذاكران الأيام: لقد كان ثباتك يستفزهم، هل يعقل أن تقتحم القوة الأمنية عليك البيت فلا تنهضين من مكانك، بل تجابهينهم بالدعاء عليهم؟! فكانت تقول: لم يكن ثباتا، إنما كان رعبا.. لقد نزل بي من الهم ما أقعدني، إلا أنه كذلك أنطقني!
فقال: لا، لا تقولي هذا.. قد كنتِ حين تأتين لزيارتنا في السجن كأنك ثائرة من الزمان القديم، لا يرهبك شرطي ولا ضابط ولا مأمور السجن، وكم دخلتِ معهم في شجارات عنيفة وأسمعتِهم ما يكرهون.. فقالت: لم يكن خوفي على نفسي، بل كنت أخاف عليكم أنتم، فأما حيث قد سُجِنْتُم وانتهى الأمر فلم يعد يرهبني منهم شيء! كانت ثورة كنسمة الصيف العابرة، تنفيس داعبت فيه روائح الحرية أنوف المشتاقين.. وما هو إلا أن اكفهر الجو مرة أخرى، وجاء الانقلاب العسكري، وجاءت معه الأعاصير.. أعيد اعتقال ابنها الكبير لكن الصغير تمكن من الهرب، وأعيد اعتقال ابني بنتها مرة أخرى، ثم اعتقل زوج ابنتها كذلك.. وحكم على ابنها الكبير بالإعدام ثم خُفِّف إلى المؤبد في مرحلة النقض، وحُكِم على الصغير الهارب بالإعدام، ولا يزال البقية ينتظرون.
لكن السلطة وصلت إلى الجيل الثالث من هذه الأسرة.. فقد انضم إلى قائمة المسجونين زوج ابنة بنتها!.. وهكذا اجتمع لهذا البيت في سجون السلطة المصرية خمسة رجال، ومُطارَدٌ! هذا المطارَد كان هو صاحبي في المستشفى! وهو الذي قصَّ علي حكايته.. نظر إلى ولده الذي وُلِد قبل ساعات، أعطى له اسم أخيه الذي سُجِن بسببه خمس عشرة سنة، ولا يزال ينظر إليه فيردد: أول فرحة منذ ثلاثين سنة!
ترى كم كان في تلك المستشفى من قصص مدفونة في صدور أصحابها لم يسعني أن أستمع لها.. أنظر في الوجوه أحاول أن أقرأ فيها قصة مدفونة كأن الملامح تخبر عن المكنون.. وبعد أن تركته صرت أسير في اسطنبول أحسب كل عربي –كما تخبرني ملامحه- يجرُّ قصته وراءه.. آه لو كنت أستطيع النفاذ إلى العقول فأجمع تلك القصص، إذن لكتبتُ منها موسوعة ضخمة.. ولعلي كنت سأسميها: موسوعة المظالم الكبرى! ولكن.. حسبي أن الله يعلم، وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا.. وحسبي، وحسب هؤلاء، أن يأتي يوم تُردُّ فيه المظالم لأهلها حتى لينظر المجرم في موسوعته فزعا وهو يقول “مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها”؟!!
(المصدر: مدونات الجزيرة)